فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 41 = 42] كما جعل الله للساعة علامات و نذرا تؤذن باقترابها كانشقاق القمر ، فإنه تعالى أخذ على نفسه أن لا يعذب أمة ولا شخصا قبل إقامة الحجة البالغة عليه ، و قبل أن يقدم له من الأنبياء و نذر البطش ما فيه مزدجر له و هداية لمن أراد " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " (2) .

و يضع القرآن شاهدا لهذه الحقيقة أمام ضمائرنا و عقولنا هذه المرة من واقع فرعون و قومه الذين أغرقوا في اليم ، إنهم ضلوا عن الحق ضلالا بعيدا ، إذ اعتمدوا نظاما سياسيا ينطلق من عبادة شخص فرعون ، و ينتهج الافساد و الارهاب و القتل و التضليل ، و كانت هذهالأسباب كافية لأن يمحقهم الله ، أترى أعظم جرم عند الله(1) الكهف / 49

(2) الاسراء / 15 .


من بشر يقول انا ربكم الأعلى ؟! كلا .. و لكنه أمهلهم ، و أراد لهم الرحمة التي خلقهم من اجلها ، فتابع عليهم الآيات و النذر بلسان موسى و على يديه ومن خلال الطبيعة ، بما أبطل به سحرهم و معتقداتهم الواهية ، و أقام عليهم الحجة البالغة .

[ و لقد جاء آل فرعون النذر ]

إن الله يتركهم حتى يؤمنوا بانفسهم ، بل ابتدرهم بالهدى الذي بلغ فردا فردا منهم يوم الزينة ، و لم يكتف الله بنذير واحد و هو يكفي حجة عليهم ، إنما جاءهم بنذر كثيرة بينة ، كان من بينها تسع آيات إلى فرعون و قومه ، و لكنهم كما يصفهم القرآن :

[ كذبوا بآياتنا كلها ]

لا لغموض فيها فقد كانت مبصرة ، بل لمرض في قلوبهم ، ولو أنك بحثت في أعماق نفوسهم لرأيت سلطان الآيات مهيمنا عليها ، و يعلم الله كم تجرعوا من وخز الضمير الذي يدعوهم للايمان وهم يصدون عن الحق المبين . إنهم ما كانوا يقدرون على التكذيب مجردا أمام ذلك الوخز لذلك لجأوا إلى التبرير ، و هذه من طبيعة الانسان حينما يخالف الحق بالرغم من استيقانه به ، " قالوا هذا سحر مبين * و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا " (1) ، فكانوا عند الله يستحقون أشد العذاب ، و كذلك فعل بهم .

[ فاخذناهم اخذ عزيز ]

لا يقبل الجور على الحق .


(1) النمل / 13 - 14 .


[ مقتدر ]

لا يشكو ضعفا ولا قصورا ، و هذا ما جعل عذابهم قاسيا ، فمرة يكون العزيز غير مقتدر فهو لا يستطيع أن يحيل عزته فعلا ، و مرة يكون المقتدر غير عزيز فهو لا يغضب لحرمة قيمه ، و إذا أخذ المخالف له فإن أخذه يكون محدودا .

هكذا و بهاتين الآيتين القصيرتين في كلماتهما العميقتين في معناهما يوجز ربنا قصة قوم لا زالت آثارهم ظاهرة و مثيرة للعجب ، بينما يحتاج الحديث فيها إلى مئات أو آلاف الصفحات ، بل القرآن أراد نفسه تناولها في صفحات و آيات عديدة في مواضع أخرى ، و السبب أنالقرآن أراد من ذلك التأكيد على السنة الواحدة التي أجراها على كل الأمم و في مختلف الأمصار بصور شتى ، لكي نعتبر بها ، و نبصر عواقب التكذيب بالحق أنى كان ، و قد اكتفى السياق بإيجاز قصة فرعون التي فصلها في مختلف السور ، و التي من المفروض أن يعرفها من يتلوا الذكر ، و ذلك عبر آيتين تعكسان إعجاز القرآن البلاغي .

[ 43 - 45] و من شواهد عاقبة المكذبين في أغوار التاريخ ، ينتقل بنا السياق إلى الحديث عن المجتمع المعاصر للرسالة الاسلامية و موقفهم من الرسالة ، بما هو تأويل لقوله تعالى : " وما هي من الظالمين ببعيد " (1) ، و قوله بلسان رسوله شعيب (ع) : " ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد " (2) ؟ أن القصة القرآنية لا تأت للتسلية ، إنما لتكشف للانسان عن سنن الحياة من حوله ، فتعطيه تارة إشارة خضراء ترغبه و تشوقه ، و تضع بين يديه إشارة حمراء تنذره و ترهبه تارة أخرى ، و هو


(1) هود / 83 .

(2) هود / 89 .


بين هذه و تلك يجب ان يشق طريقه نحو الحق و السعادة ، أما إذا تفرج على وقائع التاريخ و مواعظه ، أو استبعد عن نفسه الجزاء بفكرة تبريرية كالعنصرية والفداء ، أو بالاعتماد على غرور النفس و ظنونها و أهوائها ، فسوف يجد نفسه وجها لوجه أما مصير الماضين ممن سبقوه بالتكذيب في الدنيا و الآخرة ، ولن تغير تمنياته و ظنونه من الواقع شيئا ، " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " (1) .

كيف يكذب الآخرون بالرسالة و هم يبصرون ما نزل بالغابرين عندما كذبوا بها ؟! إنهم يستبعدون حلول العذاب بهم اعتمادا على واحدة من أمرين :

اولا : الثقافة التبريرية ، و أبرز مفرداتها على صعيد التكذيب بالرسالات العنصرية و نظرية الفداء ، ذلك أن الانسان حينما يكذب حقا ما و يرفضه يبحث داخليا أمام ضميره ، و خارجيا أمام الآخرين ، عن عذر يبرر له موقفه ، و يستمد منه الشرعية لممارسة الخطأ أو الاصرار عليه .

و ربنا ينسف هذه الثقافة فيقول - مخاطبا المعاصرين للاسلام - : لماذا تستثنون أنفسكم من العذاب الذي حل بتلك الأقوام ؟

[ اكفاركم خير من أولئكم ]

بعنصرهم و أعمالهم حتى لا ينالهم العذاب ؟!

[ ام لكم براءة في الزبر ]

أم هم يملكون كتابا من عند الله يبرأهم من سوء أعمالهم ؟!

كلا .. فالتكذيب هو التكذيب سواء صدر من أولئك أم منكم ، و السنن الالهية(1) ص / 27


واحدة على مر الزمن لا تتحول ولا تتبدل ، و ليس عند الله قرابة مع خلقه ، و لو كان نبيا مرسلا او ملكا مقربا ، ولا ينفع إلا العمل الصالح ، كما لم تسبق منه كلمة على لسان نبي ولا رسول وفي كتاب من كتبه المنزلة بزكاة أحد ابدا ، حتى يتحصن بها ضد العذاب ، و الضلال الذي عليه كفار المجتمع أيام رسول الله (ص) ليس بأقل من ضلال أولئك ، بل هو أسوء و أبعد .

و إذا كانت ثمة براءة لأحد من كتب الله فهو و رسوله أعلم بها ، و الحال أنهما ينفيانها .

بلى . حاول النصارى تبرير انحرافهم بفكرة الفداء ، و لكنهم اضافوا انحرافا جديدا إلى مسيرتهم الضالة إذ أصبحوا بها كفارا عند الله ، و هكذا زعموا هم و اليهود بأنهم لا يعذبون مهما مارسوا من الذنوب ، لأن عنصرهم يتصل بالله وينتمي إليه ، و لكن القرآن رد عليهم هذه المزاعم ردا عنيفا و حازما ، فقال تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم و أمه و من في الأرض جميعا و لله ملك السماوات و الأرض و ما بينهما يخلق ما يشاء و الله على كلشيء قدير * و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء و يغذب من يشاء و لله ملك السماوات و الأرض وما بينهما و إليه المصير " (1) و انطلاقا من هذه الثقافة الضالة صاروا يبررون لأنفسهم الخيانة و الغدر و مختلف الذنوب ، فإذا بهم لا يقيمون و زنا لعهودهم و إيمانهم مع الشعوب الأخرى على أساس أنهم أميون ، ولا حرج عليهم إذا نكثوا بهم أو خانوهم : " قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " (2) ، و لكن الله أبطل هذا التبرير فقال : " بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين " (3) .


(1) المائدة / 17 - 18 .

(2) آل عمران / 75 .

(3) آل عمران / 76 .


ثانيا : الاغترار بالقوة .

[ ام يقولون نحن جميع منتصر ]

هل يعرضون عن الآيات ، و يكذبون الحق ، و يتبعون أهواءهم ، ثم يتحدون سنن الحياة ، اعتمادا على جمعهم و قوتهم ؟! وما عسى أن تكون قوتهم و جمعهم بالنسبة إلى الأمم السابقة ؟!

" أولم يعلم ( كل واحد منهم ) أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا " (1) ، " وكم اهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص " (2) ، ثم " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم و أرسلنا السماء عليهم مدرارا و جعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم و أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " (3) .

و يؤكد الله لأولئك الذين اعتمدوا على عدتهم و عددهم أن المستقبل كفيل بالكشف عن مدى ضلالتهم في الاعتماد عليهما ، حيث يهزمون ، و تبطل تبريراتهم و مزاعمهم بأن العذاب لا يطالهم .

[ سيهزم الجمع و يولون الدبر ]

و قد رأينا كيف أنزل الله عذابه بهم على أيدي المؤمنين في مواطن كثيرة ، و أظهر رسوله و دينه عليهم بالرغم منهم ، و بالرغم من أنهم كانوا في موقعه كبدر أكثر جمعا و عدة من المسلمين بثلاثة أضعاف أو أكثر !


(1) القصص / 87 .

(2) ق / 36 .

(3) الانعام / 6 .


[ 46] و مع ذلك فإن الأدهى من هزيمتهم و عذابهم في الدنيا ما ينالهم من العذاب في الآخرة .

[ بل الساعة موعدهم و الساعة ادهى و امر ]

إنها أكثر رعبا في مظهر عذابها و أساليبه ، و أعمق ألما و مرارة على أبدانهم و نفوسهم .

و نستلهم من هذه الآية أنه حتى إذا كان عذاب الاستئصال مرفوعا عن أمة محمد (ص) ببركته و دعائه ، فإنه لا ينبغي أن نجعل هذه الفكرة مبررا لنا لاقتحام الذنوب ، فإن من ورائنا الساعة في الآخرة ، و تهددنا في الدنيا ألوان من العذاب التي لا تقل ألما عن الاستئصال ، كالتخلف ، و التفرقة ، و تسلط الظلمة ، و الصراعات الداخلية ، و .. و .. أترى هزيمة الأمة أمام أعدائها في الدنيا أمرا هينا ؟! كلا .. لأنها تفقد بذلك الكثير الكثير .

[ 47 - 48] و يعود القرآن مؤكدا بأن تلك المزاعم : الأفضلية على الآخرين ، و البراءة من العذاب ، و الاغترار بالنفس ، باطل ، و إنما تدل على مدى ضلال أصحابها و عذابهم .

[ ان المجرمين في ضلال و سعر ]

و قد سماهم الله بالمجرمين لأن تلك المزاعم لاشك سوف تقودهم الى التوغل في الجريمة ، و السعر قد يكون الجنون أو النار ، و هما من ألوان العذاب التي يؤدي إليها الضلال في الدنيا و الآخرة .

[ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسن سقر ]


و هنا إشارة إلى نوعين من العذاب : أحدهما المادي حيث يسحبون نكاية بهم ، و السحب وحده يعتبر عذابا للانسان ، فكيف إذا كان على الوجوه أكرم مناطق الجسم ، و اكثرها حساسية ، و في أعظم أودية جهنم عذاب وهو سقر ؟! الذي قال الامام الصادق (ع) عنه : " إن في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر ، شكا إلى الله شدة حره ، و سأله أن يتنفس ، فإذن له فأحرق جهنم " (1) " إن في سقر لجبا يقال له هبهب ، كلما كشف غطاء ذلك الجب ضج أهل النار من حره ، وذلك منازل الجبارين " (2) .

و الآخر العذاب المعنوي الذي يفوق في بعض حالاته عذاب الجسم ، فهناك تتلقاهم زبانية جهنم قائلة : " ذوقوا مس سقر " ، " ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون " (3) .

و لعلنا نفهم من المس أن النار لا تحرق كل أبدانهم ، بل تحرق جلودهم التي فيها تتركز أعصاب الإحساس عند الإنسان ، مما يجعل العذاب أكثر ألما ، و هذا ما تؤكده الآية الكريمة : " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " (4) .

[ 49] و هذا العذاب لا شك ليس اعتباطيا وبلا حكمة ، كلا .. فهو كسائر مفردات الوجود مقنن مقدر من قبل الله ، فلو أننا كشف لنا الغطاء لرأينا أن العمل السيء الذي نقوم به هو نفسه الجزاء الذي نلقاه .

[ انا كل شيء خلقناه بقدر ]


(1) بح / ج 1 / ص 294 .

(2) المصدر / ص 297 .

(3) الدخان / 49 - 50 .

(4) النساء / 56 .


حينما يسأل الامام علي (ع) عن هذه الآية يجيب : " يقول عز وجل : إنا كل شيء خلقناه لأهل النار بقدر أعمالهم " (1) و قال الامام الصادق (ع) : " انها رد على القدرية الذين نفوا تقديرات الله ، و فيهم نزلت هذه الآية : (2) و قد استدل البعض بهذهالآية على أن أعمال الانسان هي الآخرى مقدرة فزعم أنها تدل على الجبر ، بينما الصحيح أن كل شيء مقدر من قبل الله ، و من تقديراته الاختيار الذي وهبه للانسان .

و الذي يظهر أن الآية تثبت أكثر من أي فكرة أخرى حكمة الله في الحياة ، التي تهدينا معرفتها إلى الايمان بالمسؤولية ، و الدار الآخرة أعظم تجلياتها ، حيث يحاسب الناس على سعيهم ، و يلقون جزاءهم الأوفي خيرا أو شرا ، جنة أو نارا ، يقول السيد قطب في تفسيره( في ظلال القرآن ) : ( و إن هذا النص القرآني اليسير ليشير الى حقيقة ضخمة هائلة شاملة ، مصداقها هذا الوجود كله ، حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، و يتجاوب معه ، و يتلقى عنه ، و يحس أنه خليقة متناسقة تناسقا دقيقا ، كل شيء فيه بقدر يحقق هذاالتناسق المطلق ، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ) ، و يضرب أمثلة للحكمة الالهية في الخلق فيقول نقلا عن كتاب " الله و العلم الحديث " للاستاذ عبد الرزاق نوفل : ( إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ، لأنها قليلةالبيض ، قليلة التفريخ ، فضلا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة ، وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار ، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن لقضت على صغار الطيور ، و أفنتها على كثرتها و كثرة تفريخها ، أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح و سواها من بني الانسان ، و للقيام بأدوارها الأخرى و وظائفها الكثيرة في هذه الأرض .


(1) نور الثقلين / ح 5 / ص 186 .

(2) المصدر / ص 185 .


بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلات نزورو ذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا ، كي تتعادل عوامل البقاء و عوامل الفناء بين الجوارح و البغاث ! ) .

و يستطرد قائلا : ( و الذبابة تبيض ملايين البويضات ، و لكنها لا تعيش إلا أسبوعين ، ولو كانت تعيش بضعة أعوام تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه ، و لغدت حياة كثير من الأجناس وأولها الانسان مستحيلة على وجه هذه الارض ، و لكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون أوزنت بين كثرة النسل و قصر العمر فكان هذا الذي نراه !

و الميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددا ، و أسرعها تكاثرا ، و أشدها فتكا - هي كذلك اضعف الأحياء مقاومة ، و أقصرها عمرا ، تموت بملايين الملايين من البرد ومن الحر ، ومن الضوء ، و من أحماض المعدات ، و من أمصال الدم ، ومن عوامل أخرى كثيرة ، ولا تتغلب إلاعلى عدد محدود من الحيوان و الانسان ، ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة و الأحياء ! ) .

و يستعرض مثلا من واقع الانسان فيقول : ( والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلا أبيض مائلا الى الاصفرار ، ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيميائية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض ، وفي اليوم الثاني للميلاد يبدأ اللبن في التكوين ،و من تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوما بعد يوم ، حتى يصل الى حوالي لتر و نصف في اليوم بعد سنة ، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات ، ولا يقف الاعجاز عند كمية اللبن التي تزيد حسب زيادة الطفل ، بل إن تركيباللبن كذلك تتغير مكوناته ،


و تتركز مواده ، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات و السكريات في أول الأمر ، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية و السكرية و الدهنية فترة بعد أخرى ، بل يوما بعد يوم ، بما يوافق أنسجة و أجهزة الطفل المستمر النمو ) .

هكذا قدر الله شؤون الحياة و الخلق ، و هكذا تتجلى حكمته في كل شيء ، و نحن يجب أن نهتدي إلى ما غاب عنا بما نراه و نشاهده ، كما نستدل على وجود التيار الكهربائي بالمصباح و المروحة ، ينبغي أن نهتدي الى الآخرة بالحكمة الربانية الظاهرة في الدنيا ، و حتى في الدنيا نفسها يجب ان نؤمن بالسنن الحاكمة فيها ، و نكيف أنفسنا و فقها ، فالذي يصلي من دون خشوع و إخلاص لا تقبل صلاته ، و الذي يتصدق من دون تقوى تبطل صدقته ، و هكذا الذي يعرض عن آيات الله و يكذب برسالاته و يتبع الهوى فإنه يلقى العذاب في الدنيا و الآخرة، مهما زعم و تمنى بأنه لا يعذب أو أنه قادر على الانتصار على سنن الله في الحياة .

[ 50 - 51] و فوق تلك الأقدار و السنن تبقى لله المشيئة العليا و الارادة المطلقة يهيمن بها على كل شيء ، و يخرق بها القدر او ينفذه متى شاء في أسرع من طرفة العين ولمح البصر ، فلا يجوز للانسان إذن أن يعبد السنن ، إنما يجب عليه عبادة ربها .

[ وما أمرنا ألا واحدة ]

سواء كان هذا الأمر مما يختص بشؤون الدنيا أو الآخرة ، و الأشياء كلها تستجيب لأمر الله بمجرد نزوله من عنده دون تردد أو إقناع ، فلا يحتاج تعالى إلى تكرار الأمر ابدا ، و لعل " واحدة " إشارة إلى وحدة زمنية ، كما نقول نحن لحظة أو جزء من الثانية ، بل فوق الزمن إذا نسب الأمر إلى الله ، و حيث لا نستوعب نحن المسافة بين أمر الله و نفاذه ، ولا حتى أضخم الكومبيوترات الحديثة ، فإنه تعالى قربلنا المعنى مشبها بقوله :

[ كلمح بالبصر ]

أي كما لو أغمض بشر عينه ثم فتحها ليلمح شيئا ما ، و اللمح هو النظرة السريعة الخاطفة ، و لعل تقدير الزمن إنما هو من جانب المخلوق ، فهو بحاجة الى زمن حتى يتحقق فيه أمر الله ، أما جانب الخالق فلا يتصور زمن مديد أو قصير تعالى ربنا عن أوصاف المخلوقين .


نعم في مثل هذا الزمن المحدود ينفذ أمر الله لو أراد إهلاككم أيها الكافرون المكذبون ، دون أن يمنعه مانع ، و التاريخ شاهد على هذه الحقيقة ، و قد قدم القرآن في آياته السابقة قوم نوح و عاد و ثمود و لوط مثلا لها ، ولا زال يؤكد ذلك للكافرين فيقول :

[ و لقد اهلكنا اشياعكم ]

نظائركم و اشباهكم ، و ربما أراد القرآن بذلك الذين عاصروهم ممن أهلكوا لا الذين من قبلهم و حسب ، و ربنا قادر على أن يفعل بهم ذلك ، و لكنه برحمته و لطفه يقدم النذر على العذاب و التذكرة على الجزاء ، و يدعوهم إلى الايمان ، لأنه خلق البشر ليرحمهم و ليربحوا عليه لا للشقاء و النقمة ، لذلك يهتف بهم كتابه الكريم :

[ فهل من مدكر ]

وقد كرر ربنا هذا المقطع بعد قوله : " و لقد يسرنا القرآن للذكر " ، فكما يجب على الانسان أن يتعظ بالقرآن و يتذكر بآياته كذلك يجب عليه أن يستنصح التاريخ ، و يعتبر بأمثاله و قصصه ، فإذا وجد نظائره و قد أهلكوا فلا يمني نفسهبالنجاة . أترى لو ذهب شخص إلى الطبيب ، و شخص فيه مرضا مات به آخرون قبله ، أيمن نفسه بالحياة ؟!

[ 52 - 53] و حينما أهلك أولئك لم ينته حسابهم و جزاؤهم ، بل سجلت أعمالهم ليلاقوا جزاءهم الأوفى في الآخرة .

[ و كل شيء فعلوه في الزبر ]

أي الكتب " و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " (1) .

و قد فسر البعض هذه الآية بما يخدم مذهبه الجبري زاعما أن كل أفعال الانسان مكتوبة سلفا عليه في الزبر ، و هذا التفسير لا يتناسب و السياق ، كما لا يتناسب وما نعرفه من حرية الانسان في حدود قدر الله و قضائه .

و يؤكد القرآن أنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

[ وكل صغيرة و كبيرة مستطر ]

يجدونه في سطور ذلك الكتاب .

و هاتان الآيتان تهدينا إلى فكرة المسؤولية ، و أن الانسان هو الذي يرسم مستقبله بنفسه من خلال أفعاله صغيرها و كبيرها ، و ما دامت الأعمال لا تذهب إلى الفراغ ، بل تكتب له أو عليه عند الله ، ومادام مستقبله الآخروي الأبدي مرتكز على حياته هنا ، فحري به إذن أن يتحمل الأمانة بصدق و قوة .


(1) الاسراء / 13 - 14 .


[ 54 - 55] و يختم الله هذه السورة التي تلاحقت فيها النذر المخوفة بالترغيب ، لكي لا ينتهي التخويف الى اليأس ، بل يبقى الانسان متوازنا يتحرك باتجاه الحق بين الخوف من العذاب و رجاء الرضى و الاثابة ، فيحدثنا عن عاقبة المتقين في مقابل عاقبة المكذبين فيقول :

[ ان المتقين في جنات و نهر ]

أي الأنهار ، وقال بعض المفسرين أنه المكان الواسع ، و هو بعيد ، و قوله " في " يدل على دوام النعيم و خلودهم فيه ، و ذلك مما يميز نعيم الآخرة عن الدنيا المحدودة .

و الى جانب النعم المادية هناك النعم المعنوية ، و أعظمها و أهمها رضى الله عز وجل الذي ينالها المتقون .

[ في مقعد صدق ]

و يدل المقعد على الدوام و الثبات ، فهم لا يزحزحون عن النعيم ، " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " (1) ، كما تدل كلمة " صدق " أنهم استحقوا الجلوس في ذلك المقعد بعملهم و إيمانهم بعد توفيق الله ، فلأن عملهم كان صادقا مخلصا استحقوا مقعد الصدق ، و لكن عند من ؟

[ عند مليك مقتدر ]

حيث النظر إلى نور الرب ، و هذا بدوره يكمل النعيم ، بل هو النعمة الكبرى ! وما الجنان و النهر و سائر النعم الأخرى إلا مظهر لمقعد الصدق ، و هذان النوعان من(1) الواقعة / 19 .


النعم ( الجنات و النهر ، و حب الله و وجواره ) يلبيان تطلعات المؤمن المادية و المعنوية الى اقصاهما .

و المليك هو مالك الأشياء المهيمن عليها ، و لكن قد يوجد من هو أقوى منه ، إلا أن ذلك ينتفي باضافة " مقتدر " ، و في هاتين الصفتين ضمان للمؤمنين بأن ما يوعدون واقع حاصل ، لأن الذي يعدهم يملك ما وعدهم ، و يقدر على تحقيقه فهو لا يمنعه مانع ، كقدرته على إنزال العذاب بالمكذبين ، بلى . إن المؤمنين يتطلعون إلى نعيم الآخرة ، و لكن طموحهم الأكبر يبقى هو جوار الله و رضاه ، فهذا زين العابدين و سيد الساجدين يناجي ربه : " فقد انقطعت إليك همتي ، و انصرفت نحوك رغفبتي ، فأنت لا غيرك مرادي ، و لك لالسواك سهري و سهادي ، و لقاؤك قرة عيني ، و وصلك مني نفسي ، و اليك شوقي ، وفي محبتك ولهي ، و إلى هواك صبابتي ، و رضاك بغيتي ، و رؤيتك حاجتي ، و جوارك طلبي ، و قربك غاية سؤلي ، و في مناجاتك روحي و راحتي ، وعندك دواء علتي ، و شفاء غلتي ، و برد لوعتي ، وكشف كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ، ومغني فاقتي ، و مقبل عثرتي ، و غافر زلتي ، و قابل توبتي ، و مجيب دعوتي ، و ولي عصمتي ، و مغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي و جنتي ، ويا دنياي و آخرتي ، يا أرحم الراحمين " (1) .

و نقرأ في دعاء كميل : " يا ولي المؤمنين ، يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين " .


(1) مفاتيح الجنان / مناجاة المريدين .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس