فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 37 - 38] يمكن للانسان في الدنيا ان يكذب بآلاء ربه ( نعمه و آياته ) أو يتملص من تطبيق الحق ، و يبرر ذلك بمختلف الحجج الواهية ، لأن الله أمهله فيها(1) بح / ج 6 / ص 133 .


و سمح له أن يفعل ما يشاء ، أما في الآخرة حيث يخلص الحكم لله ، فلا يملك إلا التسليم للحق ، قال تعالى : " و يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمن و كان يوما على الكافرين عسيرا " (1) فمنظر القيامة بما فيه من تحولات كونية هائلة يعري الانسان من كل لبس في شخصيته الفقيرة المحتاجة .

ان السماء هذا السقف العظيم الذي يحفظ الناس و يظلهم تفقد تماسكها يوم القيامة ، و يتبدل لونها من الزرقة الى الحمرة تشبه في ذلك الوردة الحمراء ، " و انشقت السماء فهي يومئذ واهية " (2) ثم تذوب و تسيل " يوم تكون السماء كالمهل " (3) حتى تضحى دهانا ، و هو ما يستخرج من الورد بعد غليه و عصره .

[ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ]

لعل سبب تشبيهها بالوردة لانها ليست قطعة واحدة ، بل عدة قطع منشقة عن بعضها ، ذات صبغة حمراء ، يجمعها الاصل ، و لان السماء ( السقف المرفوع ) هي رمز الأمن و السلام ، فان انشقاقها يؤذن بالأخطار و الخوف ، و لهذه الآية اتصال وثيق بالآية ( 35) " يرسلعليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران " ذلك ان الغلاف الجوي - احد طبقات السماء - هو الذي يمنع عنا النيازك و الغازات الحارقة ، و لو حدث - لا سمح الله - أن انشق فان الارض ستكون عرضة لتلك الاخطار ، و يقول العلماء : لو فتحت ثغرة في الغلاف الواقي -لنفترض مثلا بمساحة كيلو متر مربع واحد - فان الارض تحته لا تصلح للحياة أبدا .. لما تنهال عليها من خلال تلك الثغرة من اشعة ضارة او نيازك حارقة مدمرة .

و هل لنا ان نفهم من هذه الحقيقة العلمية شيئا بسيطا عن طبيعة الحياة حينما(1) الفرقان / 25 - 26 .

(2) الحاقة / 16 .

(3) المعارج / 8 .


تنفطر السماوات السبع و تستحيل لهبا و مهلا ؟!

ان احدا لا يملك يومئذ أن يكذب بهذه الآية من آيات الله ، و التي تظهر هيمنته ، و ضرورة التسليم له - وهو لو شاء لجعلنا نصدق بآلائه و آياته بالقوة - وهو القائل : " طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهمآية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين " (1) .

و لكن رحمته تأبى ذلك كما أن حكمته من خلقنا في الحياة الدنيا و التي صرح بها بقوله : " الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " ( 2) لا تتفق مع هذا النهج .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

[ 39 - 40] بلى . ان احدا لن يجرأ حينها على التكذيب أبدا ، بل يخضع الجميع خضوعا مطلقا للحق " فتول عنهم يوم يدع الداع الى شيء نكر * خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كانهم جراد منتشر * مهطعين الى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر " (3) ولا يجرأأحد حتى على الكلام ، إلا بعد اذن سبق من الله " يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه فمنهم شقي و سعيد " (4) فكيف يستطيع احد ان يكذب ربه ذلك اليوم ؟! بلى . قد يؤخر العذاب عنهم في الدنيا فيجدون فرصة للتكذيب ، و التبرير ، و إخفاء ذنوبهم . أما يوم القيامة فهو - سبحانه - محيط بهم من كل جانب .


(1) الشعراء / 1 - 4 .

(2) الملك / 2 .

(3) القمر / 6 - 8 .

(4) هود / 105 .


[ فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان ]

و يكفي بهذا رادعا لنا عن المعاصي ، و التكذيب بالنعم و الآيات ، الذي هو من أكبر الذنوب .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

[ 41 - 42] ان المحاكم في الدنيا تقام من اجل معرفة المجرم ، اما في الآخرة فهي تقام لغرض آخر ، وهو اثبات العدالة الالهية اثباتا عمليا للخلق ، فليس معنى" لا يسأل " انهم لا يحاكمون البتة ، لان الله يقول : " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " (1) و قال : " احشروا الذي ظلموا و ازواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم * و قفوهم انهم مسؤولون " (2) .

عن الذنوب هل هي من قبلهم أم لا .. فهم معروفون عند الله . و لكن هذا الايقاف ليس لسؤالهم و انما السؤال للتبكيت و التقريع . اذا لا ينبغي أن تختفي وراء جدر التبرير و الأعذار لاننا لن نجد مجالا يومئذ لبيانها حتى تقبل أو ترد .

و قيل : ان فريقا من المجرمين وهم أئمة الاجرام و الكفر و الموغلين في الانحراف لا يسألون حتى مجرد السؤال و انما يؤمر بهم الى جهنم مباشرة حيث العذاب ، ولا يعطون فرصة لسؤالهم إمعانا في تحقيرهم و إهانتهم و عذابهم ، قال رسول الله (ص) : " ان الله عزوجل يحاسب كل خلق إلا من أشرك بالله عز وجل فانه لا يحاسب ، و يؤمر به الى النار " (3) و قال : " ستة يدخلون النار بغير حساب منهم الامراء(1) الانعام / 30 .

(2) الصافات / 32 - 34 .

(3) بح / ج 7 / ص 260


بالجور " (1) و قال الصادق (ع) : " ثلاثة يدخلهم الله النار بغير حساب ، امام جائر ، و تاجر كذوب ، و شيخ زان " (2) .

و السؤال كيف يعرف المجرمون يوم القيامة ؟!

ان الله يعرفهم بعلمه الذي احاط بكل شيء ، و من خلال كتب اعمالهم ، ثم ان يوم القيامة هو التجلي الاعظم للحقائق ، فالذي ياكل أموال اليتيم بالباطل انما يأكل في بطنه نارا و هذه الحقيقة تتجلى يومئذ لكل الناس ، حيث يشاهده العالمون و النار تشتعل في بطنه اشتعالا .

كما ان الذي يمارس الجريمة - أية جريمة - فانها تترك أثرا على شخصيته ، بيد ان الحقيقة خافية على الناس في الدنيا ، أما في الآخرة حيث تبلى السرائر فانها تظهر على الملأ لا تخفى منه خافية ، فإذا به ياتي مسودا وجهه كقطعة من ليل دامس الظلام ، و في المقابلترى المؤمنين و المؤمنات مبيضة و جوههم " يسعى نورهم بين أيديهم و بايمانهم " (3) " يوم تبيض وجوه و تسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " (4) هذه عاقبة الكفر . و قد ثبت علميا ان الجريمة تترك أثرها على فاعلها ، كالارتباك ، و التلعثم في الكلام اثناء الاستجواب مما يعكس حالة نفسية معينة تخلقها الجريمة عنده ، و لعل العلم اذا تطور و تقدم يلحظ اثارا مادية على شخصية الانسان كالوان لا تلحظ بالعين المجردة تعلو الوجه ..


(1) ميزان الحكمة / ج 2 / ص 419 عن كنز العمال ح ( 44030 ) .

(2) بح / ج 75 / ص 337 .

(3) الحديد / 12 .

(4) آل عمران / 106 .


ان ذلك حقيقة واقعية في الدنيا و الآخرة ، و لكن الفرق بينهما اننا في الدنيا محجوبون عن رؤية تلك الآثار بوضوح كاف ، أما في الآخرة فيكشف عنا الغطاء فاذا ببصرنا حديد ، و حتى في الدنيا لو تطور علمنا باتجاه اليقين لتكشف لنا الكثير من الحقائق المغيبة .


[ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الاقدام ]و يجرون الى النار حيث يعذبهم ملائكة شداد غلاظ و الناصية هي مقدمة الرأس ، و هذا العذاب جزاء تكذيبهم بالحقائق الربانية و الآيات الدالة عليها و من بينها النار ، فلم يحتسبوا انهم مواقعوها فيستعدوا ، و يعملوا للخلاص من حرها ، فوقعوا فيها ، و ربنا يحذرنامن التكذيب بها .

[ فبأي ءالآء بكما تكذبان ]

[ 43 - 45] و الآيات السابقة تشير الى امكانية تعاون الجن و الانس في المعصية و التكذيب ، و هذا امر واقعي ؛ لأن أبالسة الجن من المكذبين بالله هم الذين يوسوسون في صدور الناس ، و يثيرون في البشر عوامل المعصية و الانحراف ، لذلك أمرنا الله بالاستعاذة " من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس " (1) ، بل قد يصل التعاضد بينهما على التكذيب الى الحد المادي ، قال تعالى حاكيا عن الجن : " و انا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله كذبا * و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا * و انهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا " (2) و الشعوذة و السحر القائمان على التكذيب بالله و بآياته هما من صور التعاون بين الاثنين .


(1) الناس / 4 - 5 .

(2) الجن / 5 - 7 .


و لكن مهما كذب الفريقان بالحقائق الواقعية كالنار و تعاونا على ذلك ، فانها لن تتبدل و لن تنتفي أبدا ، فالنار موجودة و ان كذبتا بها ، بها كما ان تكذيب بعض السوفسطائيين بواقعية الخلق لا يحيله خيالا ، بل ان التكذيب بالنار يجعلها أقرب و أشد على المكذبينبها ، و يوم القيامة يؤتى بالمجرمين مأخوذين من نواصيهم و أقدامهم الى جهنم ، و يقال لهم :

[ هذه جهم التي يكذب بها المجرمون ]

فيرونها عين اليقين ، و يصدقون بها بعد طول تكذيب ، و لكن ماذا ينفعهم الإعتراف حينئذ ، بلى . اذا عرف الانسان بالخطر قبل وقوعه فيه ، و كانت ثمة فرصة يستغلها للنجاة ينفعه علمه . بيد ان هؤلاء كذبوا فعلا بآيات الله الدالة الى هذا الحق ، فصاروا من حطب جهنم و وقودها ، فتراهم ينتقلون بين النار و الحميم .

[ يطوفون بينها و بين حميم ءان ]

اي بالغ الحدة : حرارة و غليانا ، و منه آنت الثمرة : اذا نضجت و اينعت ، و المجرمون في طواف دائم ، تسوقهم الملائكة بين جهنم النيران ( أشدها حرارة ) و بين السوائل المغلية الى درجات عالية من الحرارة ، و ان المجرم يحترق بالنار ، و يفقد سوائل جسمه ، فيسعى لشرب الماء فيجسده حميما ، و هذا هو حال النعمة حينما يفرط فيها الانسان ، فيكذب بها ، و ينسبها الى غيره شركا ، او يستخدمها في المعصية ولا يؤدي حق شكرها ، و حري بنا أن نصدق بآلاء الرحمن ، و نؤدي واجبنا تجاهها . انها رحمة من الله فأما أن نصيرها نقمة أونجعلها رحمة أكبر و أوسع ، تنمو في الدنيا و نتلقاها أضعافا مضاعفة في الآخرة .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]


[ 46 - 47] و ينتهي السياق يحدثنا عن جزاء اولئك الذين عرفوا ربهم حق معرفته عرفوه بانه الرحمن فصدقوا بآلائه ، و رغبوا في رحمته قلبا ، و سعوا اليها عملا ففتحت لهم ابوابها في جنة عرضها كعرض السماوات و الارض .

و هكذا يطبع السياق صفة ثنائية على آيات هذه السورة ( الشمس و القمر و النجم و الشجر ، و السماء و الميزان ، و الفاكهة و النخل ، و الحب و الريحان ، و الانس و الجان ، و الصلصال و النار و البحرين ، و اللؤلؤ و المرجان ) الى ان يحدثنا عن صنفين من الناس فيسلوكهم و جزاء الله لهم ، و هم المجرمون الذين انتزعوا من قلوبهم خشية الخالق ، فصاروا لا يتناهون عن منكر ، و يحدثنا في مقابلهم عن الخائفين ، الذين براهم خوف الله بري القداح .

و هذا منهج سائد في كتاب ربنا حيث يذكرنا بالفارق بين المتقين و الفجار عبر بيان ا لفوارق الأشياء المختلفة لنزداد و عيا بهذه المفارقة ، و تصديقا بآثارها في الآخرة .

و للثنائية التي صبغت بها آي سورة الرحمن فائدة اخرى تلك هي العلم بالفوارق الممتدة بين الأشياء ، فعندما يكون المرء جاهلا يرى الأشياء المختلفة بلون واحد ، و لكنه كلما تقرب الى العلم كلما بدت له الفوارق أكثر وضوحا و عددا ، فالغازات كلها عند الانسان تنضوي تحت اسم عريض هو الهواء ، و اذا به الآن وقد تقدم به العلم تزيد على مئات الأتواع ، كما ان هذه الثنائية تدلنا على الحاجة ايضا ، حيث يحتاج كل اثنين الى من يدبر امرهما اذن فهذه الثنائية بين المخلوقين تهدينا الى الثنائية المطلقة بين المخلوق و الخالق .


[ و لمن خاف مقام ربه جنتان ]


هؤلاء لا يعبدون الله خوفا من النار فقط و لا طمعا من الجنة فحسب - و ان كان ذلك بعض تطلعاتهم - و لكن دافعهم الاساس للعبادة هي المعرفة اليقينية العميقة بربهم - عز وجل - اذ انهم وجدوه أهلا للعبادة فعبدوه ، قال أمير المؤمنين (ع) : " فتلك عبادة الاحرار ، و هي أفضل العبادة " و قال زين العابدين (ع) : " اني أكره ان اعبد الله ولا غرض لي إلا ثوابه ، فأكون كالعبد الطمع المطمع ، ان طمع عمل و الا لم يعمل (و) اكره أن ( لا) أعبده إلا لخوف عقابه ، فأكون كالعبد السوء ان لم يخف لم يعمل " .. قيل : فلم تعبده ؟! قال : " لما هو أهله بأياديه علي و انعامه " (1) و يبين الامام الرضا (ع) خلفية هذا النهج في العبادة اذ يقول (ع) : " لو لم يخوف الله الناس بجنة ونار لكان الواجب عليهم ان يطيعوه ولا يعصوه ، لتفضله عليهم ، و احسانه اليهم ،و ما بدأهم به من انعامه الذي ما استحقوه " (2) .

و الامام الصادق (ع) يشير الى الدوافع الحقيقية لسلوك هذا الفريق الا وهو العلم و المعرفة ، فيقول : " من علم ان الله عز وجل يراه ، و يسمع ما يقوله و يفعله من خير أو شر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الاعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه ، و نهى النفس عن الهوى " (3) .

و حتى لو خشي هؤلاء النار ، أو طمعوا في الجنة فليس لذاتيهما ، بل لان الأولى تبعدهم عن الله ، و الثانية تقربهم الى مقامه تعالى في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، و الامام علي (ع) يقول في مضمون حديث : لو علمت ان رضا الله في ان ألقي بنفسي في النار لفعلت ، ولو علمت ان رضى الله في أن ألقي بنفسي من على شاهق لفعلت .


(1) بح / ج 71 / ص 174 .

(2) المصدر / ص 210 .

(3) أصول الكافي / ج 3 / ص 126 .


ولان هذا الفريق من العباد خافوا ربهم في الدنيا استحقوا أمنه و جناته في الآخرة .

قال رسول الله (ص) : " قال الله تبارك و تعالى : و عزتي و جلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، فاذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة يوم القيامة ، و إذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة " (1) .

و هؤلاء يستحون من ربهم ، و يخافون شهوده في السر و العلانية ، و الجنتان التي يعطيها الله لهم هي في مقابل العذابين ( جهنم و الحميم ) اللذين يطوف بينهما المجرمون .

قال البعض : ان هؤلاء هم أرفع المؤمنين درجة و مقاما ، حيث لا يرقى الأدنى الى منزلة الأرفع فان الله أعطاهم جنتين ، جنة تخصهم و أزواجهم ، و جنة يستقبلون فيها المؤمنين كدار للضيافة ، و قال قائل : الجنة الأولى داخل بيته و الثانية خارجه ، و قال آخرون : ان الاولى جزاء أعمالهم و الاخرى زيادة و فضلا من عند الله ، و قيل : ان الاولى جزاء اعمالهم و سلوكياتهم ، و الثانية جزاء ما انطوت عليه قلوبهم من العلم و المعرفة ، و نفوسهم من الايمان و التصديق ، و الذي يظهر من عموم القرآن ان للمؤمنين أكثر من جنتين قال تعالى : " ومن يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " (2) .

و قوله : " جنتان " يخص بالذكر اثنتين تتميزان عن سائر الجنات ، و هما جنة عدن وجنة الفردوس ، أو جنة عدن و النعيم ، أو هي الخلد و المأوى .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 196 .

(2) النساء / 13 .


بعد بيان مقام الخائفين من مقام ربهم يطرح القرآن هذا التساؤل ، ربما ليقول لنا بان السبل مشرعة للجميع لو ارادوا الوصول الى هذه المنزلة الرفيعة ، لأن الله لم يجعلها حكرا على أحد ، و لكن يشترط أن لا يكذب بآلاء ربه ، فذلك يحرمه منها .

[ 48 - 49] و يشوقنا الوحي الى تلك الجنتين ، اذ يرينا صورا رائعة عنهما و يكتسب التشويق أهميته من كونه اذا تفاعل معه السامع ، و صدق به ، يتحول الى ما يشبه الوقوف في داخل الانسان ، يدفعه بفاعلية قوية و عميقة الى العمل على تحقيق الغاية المطلوبة منه .


و البشر يخشى الإجرام و يتجنبه مرة لانه يؤدي الى جهنم ، و مرة لأنه يخسر الانسان قربه من ربه و ثوابه الجزيل .

[ ذو اتا أفنان ]

اشارة الى صفتين لتينك الجنتين ، احداهما : كثرة الأغصان ، و العرب تقول للغصن فنن و جمعه أفنان ، و هي لاشك تدخل على النفس البهجة و السرور ، بالنظر الى خضرتها و كثافتها ، و كثرة الأغصان تدل على نوع معين من الأشجار غير ذات السوق كالنخل ، و الشجر تلك تكون أكثر استيعابا لثمر ، كما انها تلقي بظلها على الارض ليجد المؤمنون لذة الجلوس في الظلال ، " متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا * و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا " (1) " هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون " (2) و الصفة الثانية : التنوع ، قال صاحب المنجد : أفنان ، و فنون ، و أفانين : الضرب من الشيء أو النوع (3) .


(1) الانسان / 12 - 14 .

(2) يس / 56 .

(3) راجع معنى ( فنن ) المنجد .


و يعود السياق هنا - وبعد ذكر كل نعمة في الجنة - ليشقي قلوبنا من داء التكذيب بآلاء الله ، و هذا هو طبيعة منهج القرآن : انه لا يجعل الحديث عن المستقبل الغائب مجردا و بعيدا عن واقعنا ، بل يوصله بنا ، و يسعى من خلال ذكره الى علاج مشاكلنا ، و دفعنا باتجاه ايمان و معرفة أكثر و أعمق ، و هو في هذا المورد يريد القول بان ذلك النعيم نتيجة شكر نعيم الدنيا .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

و يصرح القرآن بهذه الحقيقة بعد حديث مفصل عن الجنة في سورة الانسان قائلا : " ان هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا " (1) بل هي التجلي الأعظم لقول الله : " واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " (2) اذا لندعالتكذيب بآلاء الله .

[ 50 - 51] و تطمع نفوسنا المجبولة على حب الاستطلاع في معرفة المزيد من الجنتين ، فيقول ربنا :

[ فيهما عينان تجريان ]

العين في الدنيا تتصل بمخازن الماء في الأرض و كلما استنزفت ملأتها المخازن ، و لكن الله لا يقول " عينان " و حسب ، بل يضيف " تجريان " و توحي هذه الجملة بان الماء هناك في حركة دائمة مما تزيد المنظر روعة و جمالا .

ولا يذكر القرآن ما في العينين : هل هو الماء ، أم اللبن ، أم الخمر ، أم العسل ، أم هو شيء آخر ؟ والابهام يزيد النفس شوقا ، و الله يبهم قاصدا وهو القائل : " فلا(1) الانسان / 32 .

(2) ابراهيم / 7 .


تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " (1)فيا حسرة على العباد يتحبب لهم ربهم فيتبغضون اليه ، و يتقرب منهم فيبتعدون عنه ، و يفتح لهم أبواب رحمته ثم يدعوهم اليها فيعرضون ، و يكذبون ، و هو لا يزال يتلطف بهم ، لا يسخط من تكذيبهم ، ولا يعرض عنهم بانحرافهم عن آلائه بل يكرر عتابه .

[فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

وله العتبى حتى يرضى ، انه لا يحتاج الى تصديقنا به ، و شكرنا لآلائه فذلك لا يزيده شيئا ، كما لا ينقص كفرنا و تكذيبنا من مقامه تعالى شيئا ، انما نحن المحتاجون اليه .

[ 52 - 53] و جانب آخر من نعيم الجنتين الأكل ، و القرآن لا يحدثنا عن أوليات النعمة ( الاشياء الضرورية ) انما يحدثنا عن تمامها ( الكماليات ) و هي الفواكه ، مؤكدا بأنها الأخرى موجودة وفي غاية الكمال ، كثرة و تنوعا .

[ فيهما من كل فاكهة زوجان ]

فليس ثمة فاكهة إلا وهي موجودة ، و الفاكهة بالإضافة الى فائدتها المادية للجسم ، فهي لها نكهة و لذة خاصة يجدها الانسان في منظرها على المائدة أو في الشجرة ، حيث الأشكال و الألوان البديعة ، و في روائحها الطيبة و مذاقها اللذيذ ، و لعل اسمها مشتق من الفاكهة و التفكه و هو حديث ذوي الأنس و السرور .

و السؤال : ما معنى " زوجان " ؟


(1) السجدة / 17 .


قيل : من كل نوع صنفان ، احدهما يشبه الذي في الدنيا ، و الآخر يختلف عنه في حجمه و مذاقه و ألوانه ، مما يختص بالآخرة و هو الأفضل ، قال تعالى : " و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها " (1) و قد يكون المعنى من الزوجين : أي ان ما في الجنة الأول موجود في الثانية ، فيكون المقصود المقابلة أو يكون المعنى : نوعين من الفاكهة الواحدة ، و يحتمل معنى التكامل ، بحيث تجد لكل فاكهة اخرى تكملها شكلا و فائدة ، و كما نعيم الجنة يكمل بعضه بعضا ، كذلك عذاب النار ، فجهنم يكملها الحميم الآن .

و هذا النعيم لا يحصل عليه إلا من عرف الرحمن ، و قدره حق قدره ، فصدق آلاءه ، و خاف مقامه .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

و هذه الآيات تؤكد أن الحديث عن الجنة و النار حق و ليس مجرد إثارة لحالة الطمع و الخوف عند البشر - كما يزعم البعض - ذلك ان ربنا غني عن مخالفة وعده ، أو بيان ما ليس بحق ، و ان قدرته في موضع الرحمة ، أو في موضع النكال و النقمة مطلقة لا يحدها شيء ، " انما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون " (2) و لكن مشكلة الإنسان أنه يقيس الأمور على قدره ، و حسب قدراته و فهمه المحدودين ، فلأنه لا يستطيع إحياء الموتى يشكك في البعث ، ولأنه محجوب عن علم المستقبل وما لا يراه ، تراه يرتاب في الغيب أو يكفربه ، و هذا نوع من الشرك الفكري ، قال تعالى : " وما قدروا الله حق قدره و الارض جميعا قبضته يوم القيامة(1) البقرة / 25 .

(2) يس / 82 .


و السموات مطويات بيمينه سبحانه و تعالى عما يشركون " (1)و حتى يتجاوز الانسان هذا الشرك الذي يقوده الى التكذيب بآيات الله ، يجب أن ينظر الى الامور ، و بالذات الحقائق الكبيرة من خلال الايمان بقدرة الله المطلقة ، " وما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز " (2) .

[ 54 - 55] بلى . ان الجنة حق ، كما الوجود حق ، و كما الموت حق ، و الذين يدركون هذه الحقيقة ببصائرهم ، و ينفذ نور الايمان بالله الى كل ابعاد قلوبهم ، فانهم لا يعرفون وقفة عن العمل الصالح ، و الكلم الطيب حتى الرمق الاخير ، انهم صيح بهم فانتبهوا ، و علموا ان الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، وما تركوا لحظة تمر عليهم من ليل ولا نهار ، إلا ازدادوا فيها ايمانا و عملا في سبيل الله ، لانهم ادركوا بان الحياة الدنيا فرصة محدودة يخسرها من يغفل عنها .

و اليك برنامجهم في الحياة عن لسان أميرهم و سيدهم الامام علي (ع) :

" أما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن ، يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، و يستثيرون به دواء دائهم ، فاذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا ، و تطلعت نفوسهم اليها شوقا ، و ظنوا انها نصب اعينهم ، و اذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، و ظنوا أن زفير جهنم و شهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم و أكفهم و ركبهم ، و أطراف أقدامهم ، يطلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم ، و أما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، و ما بالقوم من مرض و يقول : لقد خولطوا !


(1) الزمر / 68 .

(2) الحج / 74 .


و لقد خالطهم أمر عظيم ! لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، و من أعمالهم مشفقون . اذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربي أعلم بي مني بنفسي ! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلنا أفضل مما يظنون ، و اغفر لي مالا يعلمون .

فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين ، و حزما في لين ، و أيمانا في يقين ، و حرصا في علم ، و علما في حلم ، و قصدا في غنى ، و خشوعا في عبادة ، و تجملا في فاقة ، و صبرا في شدة ، و طلبا في حلال ، و نشاطا في هدى ، و تحرجا عن طمع ، يعمل الأعمال الصالحةوهو على وجل ، و يمسي وهمه الشكر ، و يصبح وهمه الذكر ، و يبيت حذرا ، و يصبح فرحا ، حذرا لما حذر من الغفلة ، و فرحا بما أصاب من الفضل و الرحمة ، ان استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب ، قرة عينه فيما لا يزول ، و زهادته فيما لا يبقى . يمزج الحلم بالعلم ، و القول بالعمل . تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه . الخير منه مأمول ، و الشر منه مأمون . ان كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، و ان كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين . يعفو عمن ظلمه ، و يعطي من حرمه ، و يصل من قطعه . بعيدا فحشه ، لينا قوله ، غائبا منكره ، حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شره ، في الزلازل وقور ، و في المكاره صبور ، وفي الرخاء شكور . لا يحيف على من يبغض ، ولا ينسى ما ذكر ، ولاينابز بالألقاب ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل في الباطل ، ولا يخرج من الحق . ان صمت لم يغمه صمته ، و ان ضحك لم يعل صوته ، و ان بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له . نفسه منه في عناء ، و الناس منه في راحة . أتعب نفسه لآخرته ،و أراح الناس من نفسه بعده عمن تباعد عنه زهد و نزاهة ، و دنوه ممن دنا منه لين و رحمة . ليس تباعده بكبر و عظمة ،ولا دنوه بمكر و خديعة " (1) .

هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فانهم ينوون مواصلة التعب شكرا لله ، و لكنهم فور ما يسجدون يخاطبهم الجليل الاعلى ليس هذا يوم تعب و عبادة ، انها دار الراحة و الحصاد بعد تعب الدنيا و عملها .

[ متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ]

أي داخل المتكأ و حشوه من الديباج الغليظ ، و الإستبرق كما قالوا : كلمة معربة من قولهم : ( ستبرك ] وهو مصغر ( ستبر ) بمعنى الثخين الغليظ ، و قالوا : ان ما كان حشوه حريرا خالصا فظاهره يكون كذلك بالاحرى (2) .

و الآية بكل مفرداتها و ايحاءاتها تعبير بليغ عن اقصى غايات الراحة ، فهم متكئون و على فرش الحرير الناعم البارد و المريح ، و من حولهم كل صنوف الفواكه ، و من تحتهم الانهار بأنواعها ، و تظلم الأغصان النضرة الخضراء الندية .

[ و جنى الجنتين دان ]

الانسان في الدنيا لا يحصل على شيء إلا بالتعب و بذل الجهد ، و الفلاح لا شك انه يلغى تعبا في الحصاد و قطف الثمار ، لان بعضها بعيد عن متناول يده ، فلابد أن يتمطى لقطفها أو يركب الشجرة أو يستخدم وسيلة لذلك أي انه لابد ان يبذل جهدا اما في الآخرة فان ثمرالجنة متدل قريب متى ما اشتهى المؤمن شيئا منه تناوله بيده عن قرب و دنو ، أو يتدلى اليه الغصن بقدرة الله ، فهو لا يتعب من أجل ذلك ، و في كلمة ايحاء بأن الثمر في غاية النضج ، و على الدوام ولا يتلف ، يقال دنت(1) نهج / خ 193 / ص 303 .

(2) تفسير الرازي / ص 26 / ج 29 .


الثمرة إذا نضجت و اقترب قطافها .

و السؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا حدثنا ربنا بصيغة المضارعة عن الاتكاء ، و الحال كما نفهم ان الصيغة يجب ان تكون للمستقبل ( سيتكئون ) ؟

الجواب : لان المتكلم هو الله ، و ما يريده الله و يعد به يحدث لا محالة ، و سواء عنده تحدث بصيغة الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، لأنه قادر فعلا على تحقيقه ، مثل قوله على صيغة الماضي : " و أدخلناهم في رحمتنا انهم من الصالحين " (1) أو بصيغة المستقبل كقوله تعالى : " و الذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار " (2) او بكليهما : " أتى أمر الله فلا تستعجلون " (3) فقد أكد وقوع امره بصيغة الماضي " أتى " حتى لكان أمره وقع فعلا ، و لكنه استدرك قائلا : " فلا تستعجلوه " دلالة عدم تحقق وقوعه .

نعم . بالنسبة للمخلوق لا يصح منه القول : فعلت أو سأفعل اذا كان يريد شيئا في المستقبل ، لان ارادته محدودة باطار مشيئة الله ، و قد تعجزها الظروف و العقبات " وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات و لا في الأرض انه كان عليما قديرا " (4) .


و بعد ان يشير القرآن الى اتكاء المتقين الخائفين مقام ربهم على فرش الحرير ، بين صنوف الفواكه الدانية يوجه خطابه الى الثقلين : بماذا تكذبان من هذه الآلاء الربانية ؟


(1) الانبياء / 86 .

(2) النساء / 57 .

(3) النحل / 1 .

(4) فاطر / 44 .


هكذا بعد ذكر كل نعمة من نعيم الآخرة يأتي هذا التساؤل ليهدينا الى ضرورة حمد الله و شكره على آلائه في الدنيا عند كل خير و نعمة .

[ فبأي ءالاء ربكما تكذبان ]

[ 56 - 57] [ فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ]جاء في المنجد : " الطمث : الدنس و الفساد " (1) و سمي دم الحيض طمثا لفساده ، و حيث ان البكارة عنوان الطهر و العفة عند المرأة ، فان افتضاض بكارتها ، و خروج الدم دليل فساد المرأة أو فساد بكارتها التي تذهب بذلك ، ولا ريب ان الواحد يأنس بالبكرو يرغب اليها أكثر من الثيب ، و حور كل جنة انما خلقن لصاحبها لا يسبقه اليهن احد من الخلق ، و حيث يأتيهن يرى علامة ذلك فهن طاهرات .

و لكن لماذا يقول الله " ولا جان " ؟ ربما لان الجنة للمؤمنين من الإنس و الجن ، فإراد التأكيد على عدم سبق أحد اليهن ، و التأكيد على الطهارة الشاملة ؛ ذلك أن الشيطان يوسوس للمرأة ، و يثير غلمتها عبر الخيال ، و بالذات حين بلوغها ، و قد تنتهيبها تلك الوساوس حتى تفض بكارتها بصورة أو بأخرى ، و لذلك جاء في القرآن الامر بالتعوذ منه .

و يسبق تأكيده تعالى على طهارتهن ( المادية ) بعدم الطمث ، بيان لطهارتهن المعنوية ، فهن قد قصرن طرفهن ( العيني و النفسي ) من غير أزواجهن ، قال أبو ذر رضي الله عنه : " انها تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أخير منك ، فالحمد لله الذي جعلني زوجك و جعلك زوجي " (2) و هكذا حال الطاهرات العفيفات من(1) راجع مادة طمث .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 198 .


النساء ، و حال الأزكياء من الرجال انهم يمنعهم خوف مقام ربهم ان يمدوا عيونهم الى ما حرم الله عليهم ، و اذا كان الأمن في الآخرة جزاء خوفهم في الدنيا ، و الراحة ( اتكاؤهم على الفرش ) جزاء تعبهم و عملهم الدؤوب فيها ، فان تلكم الحور جزاء لطهارتهم في الدنيا، بغضهم من أبصارهم ، و ترفعهم عما حرم الله ، استجابة لدعوته ، و التزاما برسالته " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ان الله خبير بما يصنعون " (1) و لعلنا نهتدي من علاقة قصر الطرف بالطمث ، ان النظرة المحرمة قد تنتهيالى الزنا ، و ذلك مضمون روايات كثيرة ، منها قول نبي الله عيسى (ع) : " لا تكونن حديد النظر الى ما ليس لك فانه لن يزني فرجك ما حفظت عينك ، فإن قدرت ان لا تنظر الى ثوب المرأة التي تحل لك فافعل " (2) و ربما نهتدي بذلك الى ان الجنتين ليستا منزلالمن خاف ربه من الرجال فحسب ، بل حتى للمؤمنات العفيفات ، اللواتي منعهن خوف الله حتى من مجرد النظر الحرام فهن من السابقات الطاهرات ، و ربنا يجعلهن يوم القيامة سيدات نسائها ، و أعظم جمالا ، جزاء تقواهن و طهارتهن ، حيث يجعلهن كالياقوت و المرجان ، ولا ريبان ذلك مما تتطلع اليه كل انثى .

جاء في تفسير نور الثقلين ج 5 ص 201 نقلا عن كتاب من لا يحضره الفقيه عن الامام الصادق (ع) : " الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا ، و هن أجمل من الحور العين " .

و معنى قوله : " لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان " انهن في الجنة يرجعن أبكارا على الدوام ، بحيث اذا جاءهن اترابهن من المتقين وجدوهن ابكارا ، لم يسبقهم أحد اليهن ، أو ان المعنى ، بالطمث المحرم ، فهن بعيدات عن ذلك ، و لم يتورطن(1) النور / 30 .

(2) تنبيه الخواطر ، و نزهة النواظر ( مجموعة ورام ) ج 1 / ص 62 .


فيه ماديا ولا معنويا ، فهن من الزوجات التي وعد المتقون : " وأزواج مطهرة " (1) كما تشمل الآية قاصرات الطرف من الحور اللواتي يخلقهن الله للمتقين خصوصا ، و لكن المعنى قد يكون : أنهن قصرن أنظارهن عن غير أزواجهن ، و ان عدم الطمث يكون مطلقا ، فهنأبكار في الجنة و لم يقض بكارتهن أحد قبلهم .

و بالعودة الى أول الآية ، و مقارنتها بالآيات السابقة ( 48 - 50 - 52) نجد الخطاب بالتثنية " ذواتا ، فيهما " عطفان على الجنتين ، و لكنه هنا جاء بصيغة الجمع " فيهن " و ذلك اما وصلا بالحديث عن الفرش و هو قريب ، حيث يجلس المؤمنون معهنعليها ، قال تعالى : " متكئين على سرر مصفوفة و زوجناهم بحور عين " (2) وقال : " هم و أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون * لهم فيها فاكهة و لهم ما يدعون " (3) و هذا العطف يشبه وصله الآية ( 58) بالآية ( 56) ، و اما يكون المعنى : ان فيالجنتين المذكورتين - و هما الاساس - جنات كثيرة في كل واحدة قصورها و حورها الخاصة بها ، و قال بعض المفسرين : ان ذلك متصل بالآية السابقة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " باعتبار الحور شيئا من تلك الآلاء ، و ان رحمة الله تحيط بالانسان من كل جانب ،و هي تمتد الى الآخرة و تتسع هناك - في الجنة - للمؤمنين ، بما لا يقاس بالدنيا ، ففي الجنة التجلي الأعظم لإسم الرحمن ، حيث النعم المتميزة كما و نوعا ، و اذا كانت رحمته تعالى تشمل المحسن و المسيء في الدنيا فهي هناك للمؤمنين وحدهم ، لأن الآخرة دار الفصل .


[ فبأي ءالآء بكما تكذبان ]

بلى . أنتم يا معشر الجن و الإنس قد تكذبون بآيات الله ، و تكفرون بنعمه ،(1) آل عمران / 15 .

(2) الطور / 20 .

(3) يس / 56 - 57 .


و لكنها تظل تتوالى عليكم ، و ربما زادها الله ليزداد المكذب إثما ، فلا يبقى ثمة حظ له في الآخرة ، و لا نصيب من رحمة الله ، و رحمة ربك خير مما يجمعون " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا منم فضة و معارج عليها يظهرون* و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتكئون * و زخرفا و ان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين " (1) و ما قيمة حطام الدنيا حتى يغتر به الانسان ، فيعتبره خيرا كلما زاده الله منه ، و يتخذه و سيلة للتمادي في الكفر ، و التكذيب بالرحمن- عز وجل - إنه سوف يحرم نفسه من رحمته العظمى في الآخرة من العيون ، و الانهار ، و الفواكه ، و فرش الاستبرق ، و الحور العين ، فلماذا يحيل رحمة ربه له في الدنيا خسارة لذلك النعيم ، و غضبا عليه بسبب التكذيب ؟!

ولاننا لا نستوعب حقيقة نعيم الاخرة ، فانه تعالى يشير اليه إشارة تقريبية ، من خلال التشبيه ، ففي الجنة مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، و في الأخبار لو حدث الله الناس عن الجنة كما هي لما صدقوا ، و لعلنا نهتدي الى هذا المعنى من الآية الكريمة : " فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " (2) اذ ينفي ظاهرها امكانية العلم أصلا .

ولكي نقترب من هذه الفكرة دعنا نتصور قاصرات الطرف : هل هن يشبهن نساء الدنيا ؟ وما مدى جمالهن ؟

قد نجيب على تلك الأسئلة ، و لكن بأي دليل ، و على أي مقياس ؟! لعل عقولنا بل خيالاتنا تتمكن من استيعاب اقصى حد للجمال ، بأجمل امرأة في العالم ، و لكن هل يمكنها ان تتصور جمالا يفوق ذلك مليون مرة ؟! كلا .. لذلك يقول ربنا وهو(1) الزخرف / 32 - 35 .

(2) السجدة / 17


يحدثنا عن قاصرات الطرف مشبها :

[ كأنهن الياقوت و المرجان ]

قيل يشبهن الياقوت صفاءا ، فبشرتهن لا يشوبها عيب ، و تشبه المرجان حمرة ، أو هي ناصعة البياض مشربة بحمرة الياقوت ، و ربما نستوحي من الآية معنى آخر فكما ان الياقوت ليس كأي حجر يحصل عليه الانسان بسهولة ، بل لابد له من البحث عنه و الاجتهاد ، و كما ان اليد لا تصل الى المرجان إلا بالغوص الى أعماق البحار و تحمل المشقة ، فان للجنة ثمنا لا يحصل عليها صاحبها الا به ، قال تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله " (1) .

و لعل شكر نعم الله المادية و المعنوية من أهم مفاتيح الجنة ، فإن شكر الآلاء بارك له و زاده ؛ ليس في الدنيا و حسب ، بل في الآخرة أيضا ، لأنها امتداد للأولى ، و مصيره فيها يحدده موقفه من نعم الله .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

و للعبد أن يعرف حجم تكذيبه بآلاء ربه ، من خلال العذاب الذي سوف يلقاه في الآخرة ، و من الحسرة و الندامة التي تحل به جزاء خسارته الأبدية الكبرى لنعيم الجنة و ثوابها .

[ 60] كل أبعاد الخليقة نعمة و هي - بالتالي - من آلاء ربنا الرحمن ،(1) البقرة / 214 .


و أصحاب الجنة هم الذين تحسسوا شهود ربهم عبر آلائه ، و عرفوه فآمنوا برسالاته ، و اتبعوا رسله ، و اتقوه حق تقاته ، فأحسنوا بذلك في الدنيا .. لقد احسنوا التصرف في نعم الله وآلائه كلها ، فكان من احسانهم بذلهم إياها للآخرين . إنهم أدركوا بعمق معنى الخوف منمقام ربهم ، فلم يجعلوه محدودا بقلوبهم ، بل جعلوه برنامجا متكاملا لحياتهم ، و اذا بهم يفيضون فاعلية و عطاء و تضحية ، فتراهم يبذلون كل ما يملكون ، اتقاء غضب الله ، و طمعا في رضاه و ثوابه ، و لن تذهب اعمالهم سدى ، و لو كان بمقدار حبة من خردل خيرا يأتيبه الله ليجزي عليه صاحبه " ان الله لا يضيع أجر المحسنين " (1) انما يحفظه و ينميه و ينمي به خير فاعله ، و يرده عليه في الدنيا و الآخرة ، " و يمحق الله الربا و يربي الصدقات و الله لا يحب كل كفار أثيم " (2) و لقد فطر الله الحياة بهذهالسنة ، ان الانسان يحصد ما يزرع ، فان زرع خيرا حصد الخير ، و ان زرع الشر لا يحصد إلا الشر .

[ هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ]

انها حقيقة فطرية يشهد بها الجميع : ان الاحسان لا يكافىء إلا بالاحسان و تتجلى هذه الحقيقة في أبهى صورها في الجنة ، و هكذا القرآن يستثير في البشر ركائز فطرتهم ليستشهد بها على أنفسهم بما جبلوا عليه ، و تعارفوا فيما بينهم به .

يروى عن علي بن سالم انه قال : سمعت أبا عبد الله الصادق ( عليه السلام ) يقول : " آية في كتاب الله مسجلة " قلت : وما هي ؟ قال : " قول الله عز وجل : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " جرت في الكافر و المؤمن ، و البر و الفاجر ، ومن صنع اليه معروف فعليه أن يكافىء به ، و ليس المكافأة أن يصنع كما صنع(1) التوبة / 120 .

(2) البقرة / 276 .


حتى يربى ، فان صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء " (1) .

و جاء في حديث ماثور عن النبي - في تأويل الآية - " هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة " (2) .

[ 61] و تنعكس هذه الآية على سلوك المؤمن فيتخذ آلاء ربه المسبغة عليه سلما الى الكمال الروحي ، و بناء المجتمع ، و سببا الى نيل رضوان الله ، و ليست وسيلة الى التكذيب به تعالى كما يفعل الكثير من الجن و الإنس .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

أوليس قد أحسن الله اليهم و اسبغ عليهم نعمه ظاهرة و باطنة ، فكذبوا بآلائه ؟! و لماذا نبخل على الآخرين ؟! وما يدريك لعل الله يقطع إحسانه عنا اذا تركنا الاحسان الى الناس ، أو ليس لله ملكين يناديان كل ليلة جمعة : " اللهم اعط كل منفق خلفا ، و كل ممسك تلفا " (3) فعلى م البخل اذن ؟! كما ان في داخلهم إحساس عميق بانهم لا يملكون النعم ، و انما هي آمانات الله استخلفهم فيها ، فلماذا يخرجون عن امره بانفاقها ؟! يقول سبحانه : " وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " (4) " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا ، و أحسن كما أحسن الله اليك ان الله لا يحب المفسدين " (5) .

و كما ان الاحسان يجلب الاحسان و الزيادة في النعم ، فان الاساءة و الفساد في الأرض يسلب النعمة ، بل و يجعلها نقمة ، قال ربنا سبحانه : " إن أحسنتم(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 199 .

(2) المصدر / ص 198 .

(3) بحار الانوار / ج 96 / ص 117 .

(4) الحديد / 7 .

(5) القصص / 77 .


أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها ؟ (1) .

[ 62] ثم يمضي السياق يحدثنا عن جنتين أخريين ، تختلفان في نعيمهما عن الأوليتين :

[ ومن دونهما جنتان ]

يبدو من المقارنة بين الجنان الاربع و سائر النصوص ان درجات الجنة عديدة و الناس فيها متفاضلون ، فبالرغم من أن أهل الجنة جميعهم منعمون و راضون بما قسم الله لهم من الفضل ، و لكنهم كما تفاوتوا في الايمان و العمل في الدنيا فانهم يتفاوتون و يتفاضلون في درجات الجنة ، قال تعالى : " هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون " (2) و حتى الانبياء يتفاضلون فيما بينهم ، قال الله : " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " (3) و هذا التفاضل الذي يقره الله ليس اعتباطيا ، انما يعتمد الحكمة و العلم قال تعالى : " نرفع درجات من نشاء ان ربك حكيم عليم " (4) .

و قال النبي (ص) : " جنتان من فضة ، أبنيتهما وما فيهما ، و جنتان من ذهب ، ابنيتهما وما فيهما " (5) ، و قال الامام الصادق (ع) يخاطب أحدا : " لا تقولن الجنة واحدة ، ان الله يقول : " ومن دونهما جنتان " ولا تقولن درجة واحدة ، انالله يقول : " درجات بعضها فوق بعض " - ثم أضاف - " انما تفاضل القوم بالأعمال " (6) . و لكن اختلاف الدرجات و التفاضل لا يخلف أثرا(1) الاسراء / 7 .

(2) آل عمران / 163 .

(3) البقرة / 253 .

(4) الاعراف / 83 .

(5) مجمع البيان / ج 9 - 10 عند تفسير الآية .

(6) نور الثقلين / ج 5 / ص 200 .


من حسد أو بغضاء بين المؤمنين هناك بعكس حال أهل الدنيا حيث يتعالى الغني على الفقير ، أو العالم على الجاهل ، أو الحاكم على المحكوم ، قال ربنا : " و نزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين " (1) فهم راضون قانعون بما قسم الله لهم ، اذايعلمون بحكمته و انهم الذين وضعوا أنفسهم حيث هم ، قال رسول الله (ص) في وصيته لابي ذر ( رض ) : " يا أبا ذر !ّ الدرجة في الجنة كما بين السماء و الأرض ! و ان العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره ، فيفزع لذلك ، فيقول ما هذا ؟!ّ فيقال : هذا نور أخيك ، فيقول أخي فلان ! كنا نعمل جميعا في الدنيا ، و قد فضل علي هكذا ؟ فيقال له : إنه كان أفضل منك عملا ثم يجعل في قلبه الرضا حتى يرضى " (2) و لعل أعظم مقاييس التفاضل : التطوع في سبيل الله فهناك فريق من المؤمنين ينذرون أنفسهم في سبيل الله ، وهم مفضلون على من سواهم ، و سواء كان هؤلاء ربانيين أو أحبارا أو مجاهدين فانهم السابقون بالخيرات على عامة المؤمنين ، الذين يلتزمون بالواجبات ، و يتجنبون المحرمات ، و يعملون الحسنات ، و لكنهم لا يتطوعون كليا لله ، بل تراهم يمارسون حياتهم العادية ضمن ماشرع لهم ربهم ، و هم القاعدون الذين وعدهم الله الحسنى أيضا ، و لكن فضل عليهم المجاهدين أجرا عظيما .

و القاعدون من المؤمنين أمثال العمال و الفلاحين و الحرفيين و التجار و الموظفين ، و سائر أبناء الأمة ، بينما المجاهدون هم المتصدون لقضايا الأمة ، كالعلماء العاملين و المجاهدين في سبيل الله ، ان هؤلاء يسهرون على مصالح الأمة ، و يبادرون للدفاع عنها ، ويتصدون لقيادتها نحو الخير و الحق ، متحملين في ذلك الصعاب ، انهم يستقرون في منازلهم و درجاتهم الرفيعة في الجنة ، يقول من دونهم اذا نظروا اليهم :


(1) الحجر / 47 .

(2) بح / ج 77 / ص 78 .


" ربنا اخواننا كنا معهم في الدنيا فبم فضلتهم علينا ؟! فيقال : هيهات هيهات ! انهم كانوا يجوعون حين تشبعون ، و يظمأون حين تروون ، و يقومون حين تنامون و يشخصون حين تحفظون " (1) هكذا قال رسول الله (ص) ، و لعلنا نلمس في النصوص المأثورة عن النبي والأئمة (ع) أبعاد هذا التمايز ، فمثلا أكثر وصاياهم وكلماتهم موجهة الى عامة الناس ، بينما نجد في كلماتهم و صايا تخص الطلائع و القادة من أمثال كميل ، و أبي ذر ، و سلمان ، و ابن مسعود ، و ابن جندب .

و انما يؤكد الله هذا التفاضل - كما هو الحال في حديثه هنا عن الجنات الاربع لكي يتسابق الناس الى الخير ، و قد صرح القرآن بهذا الهدف اذ قال : " سابقوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات و الأرض اعدت للذين آمنوا بالله و رسله " (2) بل اعتبر القرآن التسابق في اتقان العمل هدفا للخلق : " وهو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا " (3) و قال : " الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " (4) .

و نخلص الى القول بان الدونية في الآية بمعنى الأقل في الفضل ، كقولنا فلان دون فلان في العلم ، فهو أقل منه علما ، و عليه فان الجنتين الأخريين اما تكونان لصاحب الجنتين الاوليتين المذكور في قوله تعالى : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " يستقبل فيهما من هو أقل منه فضلا و درجة عند الله ، و هما بذلك دار ضيافته لاخوانه من المؤمنين ، الذين يتزاورون في الجنة ، أما الأوليتين فتخصه و يستقبل فيهما أو في احداهما انداده ، او تكونان ( الاخريين ) منزلا لمن هم أقل درجة ممن يخافون مقام ربهم .


(1) بح / ج 77 / ص 77 .

(2) الحديد / 21 .

(3) هود / 7 .

(4) الملك / 2 .


و قد تكون الجنتان الدانيتان هما في الدنيا معدتان لمن خاف مقام ربه قبل دخول جنة الخلد ، و بذلك جاءت رواية عن الامام الصادق عليه السلام ، قال عنهما : " خضراوتان في الدنيا يأكل المؤمنون منها حتى تفرغ ( يفرغون ) من الحساب " (1) .

[ 63] و مما يحدد درجة العبد ابتداء من اعلى درجة في الجنة و انتهاء بأسفل درك في النار موقفه من آلاء ربه ، و ذلك بمدى تصديقه أو تكذيبه بها ، و مدى انتفاعه منها ، و مدى حسن تصرفه فيها .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

ما هو مدى التكذيب بها ، فقد يكون مستوى التكذيب هو الكفر و الجحود ، و قد يكون عدم استغلال النعمة كما ينبغي ، فهو الآخر نوع من التكذيب بالنعمة قد لا يقصده الانسان ، و لكنه ينعكس على مستقبله في الآخرة ، و ربما يؤدي أحدنا شكر نعمة دون اخرى ، فيؤدي شكرنعمة العلم ، و يقصر في نعمة المال ، أو يطبق آية من القرآن و يترك اخرى ، او يعصي بعينه من خلال النظر الى ما حرم الله ، بينما لا يستمع الى الغيبة و النميمة ، فيكون قد ادى شكر نعمة الاذن دون نعمة العين .

[ 64 - 65] و يضع الوحي امامنا صورا عن ذات النعم التي ذكرها فيما يتعلق بالجنتين الاوليتين للمقارنة بينهما ، لنختار الأفضل بينهما و نجعلهما هدفا نسعى نحو تحقيقه ، بأقصى ما يمكن من السعي .

[ مدهامتان ]

و الدهمة سواد الليل ، و قولنا : ليل ادهم يعني شديد الظلام ، و يعبر بها عن(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 200 .


سواد الفرس (1) و الخضرة الشديدة الغليظة المتواصلة لانها تضرب الى لاسواد ، و يقرب الإمام الصادق عليه السلام صورتهما حين يقول : " يتصل ما بين مكة و المدينة نخلا " (2) و حينما نعقد مقارنة بين كلمة " مدهامتان " وما يقابلها في وصف الجنتين الاوليتين " ذواتا أفنان " نعرف ان الاوليتين خضراوتان أيضا ولكن أشجارها ذوات اغصان كأشجار الفاكهة ، و لعل أغلبها منها ، بينما الجنتان اللتان دونهما ليستا كذلك ، و هذه الاشجار اذا انضمت الى بعضها الى بعض و اتصلت تضرب الى الخضرة ، و تكون جميلة ذات السوق الطويلة ، و لكن جمال ذوات الافنان و فوائدها أكثر ، و لعل أحد أبرز أسباب التفاضل بين النوعين من الجنان هو مدى الشكر لآلاء الله أو التقصير فيها . جاء في الأثر عن العلا بن سيابه عن أبي عبد الله (ع) قلت له : ان الناس يتعجبون منا اذا قلنا : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة ! فيقولون لنا : فيكونون مع أولياء الله في الجنة ؟! فقال (ع) : " يا علي ان الله يقول : " ومن دونهما جنتان " ما يكونون مع أولياء الله " (3) فاذا كنا نرغب في درجات الأولياء ، يجب ان نستجيب لنداء القرآن المتكرر :

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

قائلين كما قال المؤمنون من الجن ، و كما امر الرسول الأعظم (ص) : " لا ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب " (4) .

[ 66 - 67] و ياخذنا القرآن الى داخل الجنتين ، و يقف بنا هذه المرة على مقربة من عينين تنبعان بالماء و حيث نقارن بينهما و بين العينين اللتين مر ذكرهما(1) مفردات الراغب .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 200 .

(3) المصدر /

(4) المصدر / ص 188 .


نجدهما أقل منهما لانهما لا تجريان .

[ فيهما عينان نضاختان ]

جاء في المنجد : نضخ الماء اشتد فورانه من ينبوعه ، و عين نضاخة فوارة غزيرة (1) و في تفسير الدر المنثور : اخرج عبد الحميد و ابن المنذر وابن حاتم ، عن البراء بن عازب قال : العينان اللتان تجريان خير من النضاختين و لفظ عبد قال : ما النضاختان بأفضل من اللتين تجريان (2) . و هذا لا يعني ان ليس في هاتين الجنتين انهار تجري من تحتها ، و لكن الله يضيف الى اصحاب الجنتين الاوليتين سواقي و أنهار تجري من العيون حيث لا توجد هذه الميزة في اللتين دونهما .

و هذا بالطبع لا يقلل من شأنهما ابدا ، ذلك ان مجرد النجاة من النار فوز عظيم . قال تعالى : " كل نفس ذائقة الموت و انما توفون اجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار و ادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " (3) .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

و هذه الآية يجب ان تكون لنا شعارا ، فأي نعمة من نعم ربنا التي لا تعد ولا تحصى - والتي هي آية على رحمانيته - يمكننا أن ننكرها و نكذب بها ؟! ثم لماذا نكذب بآلاء الرحمن ؟! وانه يكشف لنا عن غيب رحمته ، و يفتح لنا أبوابها ، ثم يدعونا بلطفه لكي لا تفوتنا، بلى . قد تفوتنا الجنتان الأوليتان ولكن دعنا نتقيه ما استطعنا لندخل الجنتين الاخريين ، أو ليست هذه نعمة وآية تدلنا الى رحمته ؟


(1) المنجد / مادة نضخ .

(2) تفسير الدر المنثور / ج 6 / ص 150 .

(3) آل عمران / 185 .


[ 68 - 69] ثم لننظر الى آياته و نعمه في الطبيعة من حولنا ، و لنستمع الى كتابه و هو يحدثنا عن جنتين هما دون الدرجات العلى ، و لكنهما مظهر لرحمته تفوقان خير الدنيا و نعيمها .

[ فيهما فاكهة و نخل و رمان ]

وقد اختلف المفسرون في تحديد العلاقة بين الثلاثة ( الفاكهة و النخل و الرمان ) فقال بعضهم : ان الفاكهة اسم الجنس العام وما يليها تفريع و تخصيص ، و اعتبر البعض الثلاثة اجناسا مختلفة ، و ليس ثمر النخل أو الرمان من الفاكهة ، و قال آخرون : انه ذكر الجنس( الفاكهة ) و اشار الى أفضلها و أحسنها ( ثمر النخل ، و الرمان ) لقول الامام الصادق (ع) : " الفاكهة مائة و عشرون لونا سيدها الرمان " (1) و لقوله : " خمس من فواكه الجنة : ( منها ) الرمان و الرطب " (2) . و الذي يهمنا ان الله ضرب الثلاثة مثلا مما في الجنتين للإشارة لا للحصر . و مع ذلك تبقيان دون الأوليتين علوا و سعة و نعيما ، فهناك قال الله فيهما " من كل فاكهة " ليس واحدة ، بل " زوجان " . و هنا قال " فيهما فاكهة " فقط ، و ربما قصرت ا لكلمة عن استيعابالجنس بكل مفرداته و انواعه ، و هذه المفارقة تشبه الى حد بعيد قوله في سورة الواقعة يصف ما في جنات السابقين المقربين : " و فاكهة مما يتخيرون " (3) ، و قوله يصف جنات أصحاب اليمين الأقل منهم درجة : " و فاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة " (4) . فلأولئك ما يتخيرون و يشتهون حتى ولو لم يكن موجودا قبل التخير والشهوة ، و دون ذلك هؤلاء ، ولا غرابة فربنا يقول وهو الصادق : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 201 .

(2) المصدر / ص 200 .

(3) الواقعة / 29 .

(4) الواقعة / 32 .


بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " (1) .

ان الجنتين اذا نظرنا الى نعيمهما و ان كانتا دون الأوليتين فهما حقا مظهر لاسم الرحمن ، انه غني أن يخلقنا ولكنه بلطفه و حكمته خلقنا ، ثم لم يدعنا هكذا انما فطرنا على الحق و المعرفة به ، فهدانا الى النجدين ، و علمنا ، ثم أعطانا العقل ، و أمرنا بالطاعةله ، و فتح لنا باب التوبة حتى تبلغ النفس التراق ، وهو قادر بعدا الموت أن لا يبعثنا ، و ان بعثنا عذبنا ، و لكنه خلق الجنة ليكرمنا لا بعملنا ، فنحن لا نستطيع أن نؤدي شكر نعمة واحدة من نعمه ، بل بفضله الذي لولاه ما دخل أحد الجنة حتى رسوله الأكرم (ص) و هو القائل : " و الذي نفسي بيده ، ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه و فضل " و قد وضع يده على رأسه وطول بها صوته (2) .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

و ليس لنا امام هذه النعمة إلا القول : " لا بشيء من آلاء ربنا نكذب " .

[ 70 - 71] ثم يقول وصفا لنعيم الجنتين :

[ فيهن خيرات حسان ]

فلماذا خرج عن التثنية الى الجمع فلم يقل فيهما ؟! هناك وجوه :

الأول : ان ذلك يدل على تعظيم شأن هاتين الجنتين بالرغم من انهما دون ما سبق الحديث عنه في وصف الجنتين الأوليتين .


(1) الحديد / 10 .

(2) بح / ج / 7 / ص 11 .


الثاني : ان الكلام متصل بالآلاء في الآية السابقة ، باعتبار الخيرات الحسان من الآلاء .

الثالث : ان الحديث هنا ليس فقط عن الجنتين الأخريين بل عن كل الجنان بما فيها الجنتان الاوليان . و هذا أقرب الى السياق ، بالذات حينما نقول بأن معنى الخيرات الحسان هن النساء المؤمنات باعتبارهن الأفضل و الأجمل ، و هكذا قال الامام الصادق (ع) : " الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا ، و هن أجمل من الحور العين " (1) ، و بقوله : " هن صوالح المؤمنات العارفات " (2) .

وفي الخبر حدث الرسول (ص) عن نعيم الجنة ، ثم ذكر الحور العين فقالت أم سلمة : بأبي أنت و امي يا رسول الله أما لنا فضل عليهن ؟ قال : " بلى بصلاتكن و صيامكن و عبادتكن لله ، بمنزلة الظاهرة على الباطنة " (3) .

و من معاني الآية ما قاله رسول الله (ص) : " يعني خيرات الاخلاق ، حسان الوجود " (4) و انما تسمى ذوات الاخلاق بالخيرات ، لأن صلاح المرأة يعود على زوجها وعلى المجتمع بالخير الكثير ، كما ان فسادها يؤدي الى شر كبير . و حينما يسأل النبي (ص) عن خير الخير و شر الشر يقول : " خير الخير المرأة اذا صلحت ، و شر الشر المرأة اذا فسدت " .

و تتجلى هذه النعمة اكثر فاكثر في الجنة فقد جاء في الحديث الماثور عن النبي صلى الله عليه و آله و هو الصادق يصف لنا جانبا من نعمة الخيرات الحسان في الجنة :


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 201 .

(2) المصدر .

(3) بح / ج 8 / ص 213 .

(4) المصدر .


" وان في الجنة لنهرا حافتاه الجواري قال : فيوحي اليهن الرب تبارك و تعالى : اسمعن عبادي تمجيدي و تسبيحي و تحميدي ، فيرفعن أصواتهن بألحان و ترجيع لم يسمع الخلائق مثلها قط ، فتطرب أهل الجنة ، و انه لتشرف على ولي الله المرأة ليست من نسائه من السجففملأت قصوره و منازله ضوءا و نورا ، فيظن ولي الله أن ربه أشرف عليه ، أو ملك من ملائكته ، فيرفع رأسه فاذا هو بزوجة قد كادت يذهب نورها نور عينيه ، قال : فتناديه : قد آن لنا أن تكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت ؟ قال : فتقول : أنا ممن ذكر الله في القرآن : " لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد " فيجامعها في قوة مائة شاب و يعانقها سبعين سنة من أعمار الأولين ، وما يدري أينظر الى وجهها أم الى خلفها أم الى ساقها ؟! فما من شيء ينظر اليه منها إلا رأى وجهه من ذلك المكان من شدة نورها و صفائها ، ثم تشرف عليه أخرى أحسن وجها وأطيب ريحا من الأولى ، فتناديه فتقول : قد آن لنا أن يكون لنا منك دولة ، قال : فيقول ما ومن أنت ؟ فتقول : أنا من ذكر الله في القرآن : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " .

قال : وما من أحد يدخل الجنة إلا كان له من الأزواج خمسمائة حوراء ، مع كل حوراء سبعون غلاما و سبعون جارية كأنهن اللؤلؤ المنثور ، كأنهن اللؤلؤ المكنون " (1) .

هذا نزر قليل من آلاء الله و رحمته ، التي تنتظرنا لو آمنا و خفنا مقامه تعالى فلم نعصه و نتجاوز حدوده .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

أيها الانس و الجن .


(1) بح / ج 8 / ص 214 .


[ 72 - 75] انهن يقلن - الحور - : " نحن الخالدات فلا نموت ، و نحن الناعمات فلا نيأس ، أزواج رجال كرام " (1) ، لو أشرفت إحداهن على أهل الدنيا لماتوا رغبة فيها .

[ حور مقصورات في الخيام ]

قال علي بن إبراهيم : يقصر الطرف عنها ، و تابعه صاحب المجمع ، و قيل : قصر طرفهن على أزواجهن فهو شبه بقوله " قاصرات الطرف " و استلطف الفخر الرازي التعبير فقال : ان المؤمن في الجنة لا يحتاج الى التحرك لشيء ، و انما الاشياء تتحرك اليه ، فالمأكول و المشروب يصل اليه من غير حركة منه ، و يطاف عليهم ما يشتهون ، فالحور يكن في بيوت ، وعند الانتقال الى المؤمنين في وقت ارادتهم ، تسير بهم للارتحال الى المؤمنين خيام ، و اللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام الى القصور " (2) فيهن يقصرن .

وفي حديث الامام الصادق (ع) يشير الى هذا المعنى قال : " الحور هي البيض المضمومات ، المخدرات في خيام الدر و الياقوت و المرجان ، لكل خيمة أربعة أبواب ، على كل باب سبعون كاعبا ( الجارية حين يبدو ثديها ) حجابا لهن ، و يأتيهن في كل يوم كرامة من اللهعز ذكره ، يبشر الله عز وجل بهن المؤمنين " (3) وقال النبي (ص) : " الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا " (4) فهن ملكات الجنة وحولهن الوصائف .

وهذا مما يعد الله الخائفين مقامه ، ولا ريب أن الوعد الالهي يلتقي بعمق و شمول(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 202 .

(2) التفسير الكبير / ج 29 / ص 135 .

(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 202 .

(4) المصدر


مع تطلعات الانسان ، و ان الجنة هي الصورة الفضلى التي يصيغها الانسان بعمله في الدنيا ، و ان المؤمن لا يتطلع الى أي زوجة ، و انما يبحث في شريكة حياته عن صفات معينة ، و أهمها العفة و الطهر ، لانهما عنوان الاسرة الصالحة ، و ما هي قيمة العيش مع شريكة يمتدطرفها ، و تبيع طهرها و نفسها الى كل من هب و دب ؟! أم كيف تكون الأسرة مصنعا للأجيال الفاضلة ، و تأخذ موقعها ودورها في بناء المجتمع اذا كانت الأم لا تعرف العفاف ؟!

ان وعد الله للمؤمنين ان ينعم عليهم بالحور الباكرات ، ليس فقط ارضاء للتطلعات الجنسية عند الانسان ، بل وقبل ذلك يحقق تطلعاته المعنوية اذ ان الفتاة العذراء أشد حبا لزوجها و اخلاصا من المرأة التي أعطت بكارتها لغيره .

و كلمة أخيرة : لعلنا نستفيد من ذكر القرآن لصفات الحور هنا وهي الاخلاق الطيبة " خيرات " ، و الجمال " حسان " ، و العفة و الطهر " مقصورات في الخيام * ولم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " ، ان هذه الصفات هي غاية ما ينبغي للمؤمنالتطلع اليها في زوجته ، لتكون حياته معها سعيدة فاضلة .

[ فبأء ءالآء ربكما تكذبان * لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جال ]نعم .. هذا وعدالله ، و ان المؤمن لتواجهه مختلف الضغوط باتجاه الانحراف عن الحق ، استجابة لشهواتهه ، و ربما لعبت شهوة البطن ، و الجنس ، و حب الراحة دورا في تخلفه عن مقام الخائفين من مقام ربهم ، ولكنه اذا ما تذكر الآخرة وما وعد الله المطيعين له الخائفين منه من النعيم ، فسوف يقاوم الضغوط و يميت فيه الشهوة الحرام ، و يستجيب لنداء ربه :

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]


يقول : لا بشيء من آلائك رب اكذب ، ويعمل على تحقيق ذلك في حياته ، ثم لماذا يكذب بها وهو يعلم ان ذلك النعيم لا ينال إلا بالتصديق ؟!

[ 76] لان المؤمن يشتري راحة الآخرة بتعب الدنيا لعلمه بان الذي يتخلف عن الحق هنا للراحة لا يجدها في الآخرة ، أما المؤمنون وقد رهنوا أنفسهم للحق ، و أجهدوها من أجله فانهم يجلسون في غاية الراحة .

[ متكئين على رفرف خضر و عبقري حسان ]

جاء في المنجد : الرف : ما تهدل من الشجر و النبات ، و كل ما فضل فثني ، و الرقيق من ثياب الديباج ، و هي خرقة تحاط في أسفل الفسطاط ( والخيمة ) و العرب تقول : ضربت الريح رفرف الفسطاط أي ذيله ، و هو ما تدلى من الدرع ، و رفرف الدرع زرد يشد بالبيضة يطرحهالرجل على ظهره (1) و قالت العرب لكل ثوب عريض رفوف ، و الذي يجمع هذه المسميات انها ترف بفعل الريح او الحركة ، و لعل الرفوف المعني في الآية هي الوسائد و المساند المصنوعة من الديباج ، و الغير محشوة كثيرا ، فهي ترف كلما اتكأ عليها ، بل الحرير يرف لرقته ،و نعومته كلما حرك أو ضربته الريح ، أما العبقري فهي : البسط الموشاة بالحرير ، و تقول العرب للثياب الحرير المصنوعة بدقة و ابداع عبقريات ، مبالغة في حسنها ، و يقال للانسان : عبقري اذا تفتق عقله ، و تفجرت مواهبه بما هو فوق المألوف ، و ربنا لم يقل : " عبقري " و حسب بل أضاف اليها صفة " حسان " مبالغة في حسنها ، كما وصف الرفرف باللون الأخضر لانه أجمل ما يمكن أن تكون عليه الوسائد لونا .

[ 77] [ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]


(1) المنجد مادة ( رف ) بتصرف .


وان نعم الله التي تحيط بالانسان و الخليقة في الدنيا ، و نعيمه الذي ينتظر المؤمنين به في الآخرة ، لدليل على أنه الرحمن .

[ 78[ [ تبارك اسم ربك ذي الجلال و الإكرام ]

و تبارك من الاسماء الاربعة الرئيسية لله وهي " سبحان ، تعالى ، و تبارك ، و الله " ، و قال العلامة المجلسي (رض) : واما تبارك فهو من البركة ، و هو عز وجل ذو بركة ، وهو فاعل البركة وخالقها وجاعلها في خلقه ، و تبارك و تعالى عن الولد و الصاحبةو الشريك و عما يقول الظالمون علوا كبيرا (1) و لعله الاسم الذي يتصل بجانب الفعل الإلهي في الخلق ، فهو مستمر و متكامل و يزداد بركة ، فهو اذا قريب من إسم ( الرحمن ) و لعلنا نستطيع القول بأن السورة ابتدات بالجانب المعنوي لتبارك ( الرحمن ) و انتهت بالجانبالظاهر منه ( تبارك ) .

كما يبدو ان ( الرحمن ، وذو الجلال و الاكرام ) من الاسماء الفرعية لتبارك ، و مظهر له ، و حينما نجاور الآية 27 " و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الاكرام " بهذه الآية ، نهتدي الى حقيقتين :

الاولى : ان وجه الله هي اسماؤه ، كالرحمن ، و الباقي ، و ذو الجلال و الاكرام .

الثانية : ان أسماء الله منزهة كما ذاته تعالى . فهناك قال " ذو الجلال و الاكرام " يعني وجه الرب ، وهنا قال " ذي الجلال و الاكرام " يعني ذات الرب ، و لكن تنزيه الاسماء ليس ذاتيا انما هو بالله ، كما لا نعني بذلك أن اسماء الله هي ذاته .. كلا .. فقد قال الامام أبو عبد الله (ع) : " الله غاية من غياه ،(1) بح / ج 4 / ص 208 .


فالمغيا غير الغاية ، و توحد بالربوبية ، و وصف نفسه بغير محدودية ، فالذاكر الله غير الله ، و الله غير اسمائه ، و كل شيء وقع عليه اسم شيء سواه فهو مخلوق ، ألا ترى قوله : العزة لله ، العظمة لله ، و قال : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " و قال: " قل ادعو الله أو ادعو الرحمن أياما تدعو فله الأسماء الحسنى " فالأسماء مضافة اليه . وهو التوحيد الخالص " (1) .

و الجلال اسم يحتوي على كل معاني العظمة و الكبرياء ، بينما الإكرام يدل على كل معاني الجمال ، فهو رحيم ، حنان ، غفور ، منان ، عطوف ، عالم ، قادر ، و أسماء الرب أساسا تنقسم الى نوعين : الأول : تبين انه منزه عن النقص ، و الثاني : تبين جوانب الكمال .


و كلمة أخيرة : هناك علاقة بين سورة الرحمن التي تحدثنا عن ثلاث فئات من الناس ( المجرمين أصحاب الجنتين الاوليين - و أصحاب الجنتين التاليتين ) و بين سورة الواقعة التي تحدثنا أيضا عن ثلاث فئات هي ( السابقون - أصحاب اليمين - أصحاب المشأمة ) ، و بالتدبرنكتشف أن المجرمين هم أصحاب المشأمة ، و السابقون هم أصحاب الجنتين الأوليين ، و أصحاب اليمين هم أصحاب الاخريين .


(1) المصدر / ص 160


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس