بينات من الآيات [30 - 31] بنو إسرائيل مثل حي لجزاء الأمم على أفعالهم خيرا أو شرا ، و القرآن ذكر هذا المثل لأن حياة بني إسرائيل تشبه الى حد بعيد مسيرة الأمة الاسلامية من حيث أنهم كانوا أمة مؤمنة بنو حضارة رسالية ثم انحرفوا كما هو حال المسلمين ، و إذا فضلهم الله على علم على العالمين فان هذه النعمة ليست من قبيل الرزق الذي يهبه الله بلا سعي ، و إنما هي من قبيل الكسب ، و بنو إسرائيل بلغوا هذه الدرجة السامية بعملهم لا بعنصرهم ، و هذا بدوره يؤكد عقلانية العالم ، و الحكمة الإلهية التي يقوم عليها ، و بالتالي يؤكد وجود الجزاء في الآخرة .
[ و لقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ]و أي إهانة أعظم من أن يسلب الانسان حريته ، و يصير عبدا للطغاة ، يسحقونه لتعلو مكانتهم ، و يسلبونه لكي يبذروا و يسرفوا ؟!
إن فرعون هو الآخر لقي جزاءه العادل في الدنيا لضلاله و انحرافه ، فهو من جهةكانت علاقته مع الناس العلو و الاستكبار ، و كانت علاقته مع الطبيعة علاقة التبذير و الاسراف .
و كلمة " عاليا " لا تدل هنا على العلو في الاسراف ، و إنما العلو على الناس ، و ربنا عز وجل يبين ذلك في آية أخرى حين يقول : " تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا " (1) .
أي الذين لا تكون علاقتهم مع الآخرين الاستكبار و التعالي ، ولا مع الطبيعة الفساد ، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا .
[32] أما النعم الإلهية الأخرى على بني إسرائيل بعد النجاة من حكم الطاغوت ، فهي تفضيلهم على سائر الأمم ، و اختيار الله لهم حملة لرسالته ، لا لشيء فيهم سوى أنهم تجاوزوا الفتنة الكبرى في الحياة ، و أثبتوا جدارتهم - بالسعي - لهذه المنزلة .
[ و لقد أخترناهم على علم ]
بجدارتهم ، و تميزهم بايمانهم و صالح أعمالهم .
[ على العالمين ]
إذن فعلينا وعلى الأمم التي تنشد التقدم أن لا تسعى للاستعلاء في الدنيا ، فلكي نحقق هذه الغاية علينا أن نوفر عوامل الحضارة في أنفسنا ، كالتزكية ، و التعاون ، و التعود على الخشونة ، و المثابرة في العمل ، و الصبر ، و الاستقامة على الحق ، و عندها سوف يوفقنا الله ، و يفضلنا على غيرنا ، و سنتقدم ، و معنى العالمين(1) القصص / 83
- حسب المفسرين - الناس المعاصرين لهم ، إذ أن الله فضل المسلمين على غيرهم حين امتثلوا أحكام الله فقال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله " (1)[33] و تفضيــل اللـه لأمة من الناس على غيرهم لا يعني أنهم يبقون الأفضل للأبد ، أو أنهم يبعدون عن دائرة الامتحان و الابتلاء ، كلا .. فربنا أعطى بني إسرائيل آيات القدرة و العلم و الفضيلة ، و رزقهم النصر على عدوهم ، و واتر عليهم أنبياءه و رسله ، ولكنهذه النعمة كانت تحمل في طياتها ألوانا من الامتحان .
[ و ءاتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ]
الابتلاء سنة ثابتة في الحياة لا يغيرها شيء ، بلى . قد ينتقل الانسان الفرد أو المجتمع من حال العسر الى حال اليسر ، و لكنه يبقى معرضا للامتحان في الحالين سواء ، فاذا كان القهر و العذاب الذي حل ببني إسرائيل بلاءا بالسيئة ، فان الإغراءات التي تنطوي عليها سائر النعم التي أعطيت لهم بعد النصر كانت بلاءا بالحسنة ، وقد قال ربنا سبحانه : " و بلوناهم بالحسنات و السيئات لعلهم يرجعون " (2) .
و هذا النوع من الابتلاء قد يكون أعظم خطورة على الانسان من الأول ، وقد رأينا في تاريخ البشرية كيف أن الكثير من الناس يصمدون أمام الإرهاب و التعذيب ، و يتحدون الطاغوت بصلابة و استقامة ، و لكنهم ينهارون أمام الإغراء ، و لذلك يجب على الانسان أن يحذر النعم كحذره من النقم و أشد من ذلك ، و لن يفلح في حياته إلا إذا جعل حقيقة البلاء أمامه في كل حال ، وقد قال أمير المؤمنين(1) آل عمران / 110
(2) الاعراف / 168
عليه السلام : " اتقوا سكرات النعمة ، و احذروا بوائق النقمة " (1) ، و قال : " أيها الناس ليركم الله من النعمة وجلين ، كما يراكم من النقمة فرقين " (2) .
[34 - 35] وبعد هذه الأفكار التمهيدية ينتهي السياق الى البصيرة الأم في الدرس ليؤكد العدالة و الجزاء ، و يستنكر مزاعم الكفار و المشركين بأن الدنيا هي آخر المطاف .
[ إن هؤلاء ليقولون * إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين ]لأنهم لا يدرسون التاريخ ، ولا ينظرون الى الحياة نظرة موضوعية ، وإلا لاهتدوا الى حكمتها ، وأنها قائمة على أساس العدل ، مما يؤكد وجود الدار الآخرة ، و الموتة الأولى هي الوفاة التي زعموا أنها النهاية فلا نشأة بعدها ولا حياة ، كما قالوا : " إن هيإلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين " (3) .
[36] وإذ أنكروا البعث و النشور حاولوا تبرير هذا الاعتقاد بطلب ، قالوا :
[ فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ]
ولو أن الله يحيي آباءهم ما كان ذلك يجعلهم يؤمنون ، لأنهم يتشبثون بهذه الفكرة تبريرا لكفرهم ، ولو بطلت نظريا أو عمليا لبحثوا لهم عن تبرير آخر للاصرار على الضلالة .
[37] لذلك فان القرآن لا يجازيهم ، وهل يغير ربنا سنته في الكون للاجابة على(1) نهج البلاغة / خطبة 151
(2) نهج البلاغة / حكمة 358
(3) الانعام / 29
تساؤل تافه للمشركين ؟ كلا .. و إنما يوجه أنظارهم الى الآيات الكفيلة بهداية من يريد الى الايمان بالبعث ، و ذلك باثارتهم نحو التفكير في سنة الجزاء الحاكمة في الكون من خلال دراسة شواهدها في التاريخ ، فهؤلاء قوم تبع ومن يسبقهم من الأقوام لقوا جزاءهم حينمااختاروا سبيل الضلال و الجريمة .
[ أهم خير أم قوم تبع و الذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ]و تبع أحد ملوك اليمن الصالحين ، اقتفى آثار أحد الاولياء ، و تبعه في مسيرته ، وفي الأخبار نهي عن لعنه ، فعن النبي (ص) أنه قال : " لا تسبوا تبعا فانه كان قد أسلم " (1) و إنما الذين أجرموا قومه فأخذهم الله بالعذاب ، وحيث يندرج هذا الجزاء فيسنة الهية كونية فان العذاب قد ينال كل بشر إذا انتحل الاجرام .
[38 - 39] و سنة الجزاء ليست أمرا شاذا عن طبيعة الحياة ، إنما هي نابعة من صميم الخلق ، ذلك أن الله خلق السموات و الأرض لغاية سامية ، الأمر الذي يقتضي الجزاء و يحتمه .
[ وما خلقنا السموات و الأرض وما بينهما لاعبين ]
إنما خلق الله كل شيء لهدف محدد ، مهما كان ذلك الشيء صغيرا و تافها في نظر الانسان ، وقد تقرر في علم الفسيولوجيا ( وظائف الأعظاء ) أن كل شيء في الانسان يؤدي دورا معينا ، ولا يكون الانسان كاملا إلا به ، حتى الشعرة الواحدة ، بل حتى جزيء الخلية المتناهية في الصغر ، فهل يعقل إذن أن يكون ربنا قد خلق الانسان بأكمله عبثا ؟! كلا .. إن له هدفا في الحياة ، وهو مسؤول عن كل شيء(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 629
أمام ربه ، ولكن هذه الحقيقة الواضحة تبقى غامضة لدى الجاهلين و الضالين .
[ ما خلقناهما إلا بالحق ]
وسيلة و غاية .
[ و لكن أكثرهم لا يعلمون ]
و عدم علمهم ليس لأنهم لا يرون الآيات الهادية الى هذه الحقيقة ، و إنما لأن هذه الآيات لا تتحول في ضمائرهم و أذهانهم الى بصيرة ، ذلك أن نظرتهم الى الحياة نظرة قشرية مجردة ، وإنما الذين ينظرون إليها ببصيرة الايمان يهتدون الى لبابها الحق .
[40 - 42] و حيث ميز الله الانسان عن سائر خلقه بالعقل ، و كرمه بالحرية ، فهو مسؤول أمامه عن العمل وفق الغاية التي خلق من أجلها ، فان تحمل مسؤوليته نعمه في الجنة ، وإن نكص عنها عذبه في النار .
ومع أنه تعالى جعل سنة الجزاء جارية في الحياة الدنيا ، إلا أنها أكثر تجليا في الآخرة ، حيث تنصب الموازين ، و يفصل بين الصالحين و الأشرار .
[ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ]
وهذا اليوم ضرورة حتمية تقتضيها عدالة الله ، وإذ يسميه ربنا " يوم الفصل " فلانه اليوم الذي يحكم فيه الحق بعيدا عن التبريرات أو التأجيل ، فهو يوم حاسم في حياة كل إنسان ، و يعتبر فيصلا يتقرر فيه مصيره الأبدي .
وإذا أعطى ربنا الحرية الكاملة للانسان في اختيار الحق دون أن تستطيع أيةقدرة سواه تعالى إكراهه باتجاه معاكس لما يريد ، كان من أبرز معاني الفصل أن يتحمل المسؤولية شخصيا حتى يكون يومئذ مفصولا عن سائر الناس .
[ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون ]
بلى . قد يضغط من حول الانسان عليه باتجاه معين ، ولكن الموقف الحاسم يبقى رهن إرادته وحده ، ولكي يتجنب التأثر بالضغوط السلبية صوب الباطل يجب عليه أن يلقي نظرة الى الآخرة ، حيث يخذله الجميع و ينفصلون عن نصرته ، بل لا يجدون الى ذلك سبيلا ، و يقف هو وحده بعمله .
ثم إن السياق القرآني ينعطف بعد هذا التخويف ليثير فينا الأمل و الرجاء ، حينما يذكرنا برحمة الله الى جانب عزته ، فبعزته جعل سنة الجزاء ، و برحمته جعل الشفاعة و المغفــرة لهـذا الانسان الضعيف ، فقد استثنى من بين سائر الناس الذين تتقطع بهم الوشائج ، ويرتهنون بأعمالهم السيئة ، أولئك الذين تشملهم رحمته عز وجل فقال :
[ إلا من رحم الله ]
فهداه الى الايمان ، و وفقه للعمل الصالح في الدنيا ، و غفر له ذنوبه ، و شفع فيه أولياءه في الآخرة ، فانه تغنى عنه شفاعة الصالحين ، و ينصره الله على العقبات .
[ إنه هو العزيز الرحيم ]
قال الشحام : قال لي أبو عبد الله (ع) و نحن في الطريق في ليلة الجمعة : " إقرأ فانها ليلة الجمعة قرآنا " ، فقرأت : " إن يوم الفصل ( الى قوله ) إلا من رحم الله " فقال ابو عبد الله (ع) : " نحن والله الذين استثنى الله فكنا نغنيعنهم " (1) .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 629
[43 - 46] و كنتيجة لحكم الله في يوم الفصل يحدثنا القرآن عن صورتين متناقضتين ، وهما صورة أصحاب النار الذين يعانون ألوان العذاب ، و صورة أهل الجنة الذين يتقلبون في نعيمها .
أما عن النار فان من أشد أنواع العذاب فيها شجرة تنبت في أصلها ، و يمتد منها غصن لكل شخص فيها ، اسمها الزقوم ، وهي تجسيد لذنوب أهلها و آثامهم . (1)[ إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم ]
وحيث يشعر أهل الجحيم بشدة الجوع يبحثون عن الأكل ، فيجدونه في هذه الشجرة ، ولا يجدون بدا من التقامه ، و بمجرد أن يصل الى جوفهم يصير كالرصاص و الصفر المذاب تنشوي منه وجوههم حتى تسقط أشفار عيونهم ، و تتقطع منه مصرانهم حتى يتقيحون دما ، و ربنا يشبه لنا الزقوم بالمهل لتقريب المعنى الى أذهاننا المحدودة ، وإلا فهي أشد و أعظم من ذلك .
[ كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم ]
و الحميم هو الماء الحار جدا ، وحيث يصل المعدن كالرصاص أو النحاس الى حد من الغليان يصير فيه كالماء فان حرارته لا تطاق .
[47] و لون آخر من العذاب يتجرعه المجرمون حينما يأمر الله زبانية النار بسحبهم الى وسطها و إهانتهم .
[ خذوه فاعتلوه الى سواء الجحيم ]
و الاعتال هو السحب بغلظة و إيذاء ، وإن كان المعني من ظاهر الآية أبو جهل إذ(1) راجع تفسيرنا للآية (65) الصافات
جاءت الصيغة بالمفرد ، إلا أنها تشمل كل مجرم ، و صيغة المفرد بيان للخذلان الذي يلقاه أهل النار من أقرانهم و سادتهم في الدنيا حيث لا ناصر ولا معين لهم فيها .
[48 - 49] وبعد سحب كل واحد منهم الى سواء الجحيم ، يأمر الله ملائكة العذاب باهانته ماديا ، بصب العذاب على رأسه ، وهو أكرم موضع لدى الانسان ، و معنويا بالكلمات الجارحة ، وهذا جزاء الاستكبار في الدنيا على الحق و المؤمنين .
[ ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ]
و حيث الدلالة في " من " تنصرف للتبعيض ، تدل الآية على أن العذاب لا يصب مرة واحدة ، و إنما مرات و مرات بلا انقطاع ، مبالغة في الايذاء ، وهل ينتهي الأمر الى هذا الحد و حسب ؟ كلا .. إنما يهان بالكلام أيضا فيقال له :
[ ذق إنك أنت العزيز الكريم ]
و روي في جوامع الجامع أن أبا جهل قال لرسول الله (ص) : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني . (1)وفي تفسير علي بن إبراهيم قال : أن ذلك رد على أبي جهل ، وذلك أن أبا جهل كان يقول : أنا العزيز الكريم فيعير بذلك في النار . (2)وقال بعض المفسرين : إن ذلك إهانة و استهزاء الى جانب العذاب المادي ، وهو نظير لاكرام الله المؤمنين في الجنة بالسلام عليهم إضافة لنعيمها ، و استدلوا على ذلك بقوله تعالى : " وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " (3) ، وهذا تفسيرصائب ، ولكن يبدو لي تفسير آخر للآية وهو أن الله لم يخلق الانسان ليلاقي(1) ، (2) نور الثقلين / ج 4 - ص 630
(3) الزمر / 73
هذا المصير السيء ، و إنما خلقه ليرحمه فيعيش كريما معززا ، ولكنه اختار هذا المصير ، و اشتراه بعمله السيء ، إذ لم يستطع الاستقامة على الفطرة و الصبر على الحق ، و الآية جاءت تذكيرا لهذه الحقيقة .
[50] أما عن السبب الذي يوصل الانسان الى الذل بعد العزة ، و الى الهوان بعد الكرامة ، فهو شكه في الجزاء ، لأن الشك فيه يجعله يعيش بعيدا عن المسؤولية و الرقابة تجاه سلوكه و أعماله .
[ إن هذا ما كنتم به تمترون ]
أي تشكون و الشك أعدى أعداء الايمان ، لأنه ينتهي الى الكفر و الجحود ، و يعطل طاقات الانسان و قدراته أن يوجهها في صناعة المستقبل الأبدي ، فهو إنما يلتزم بالحق ، و يضحي من أجله بكل شيء ، عند إيمانه بأن هذه التضحيات سوف ترد عليه في الآخرة في صورة الثواب ، فكيف يضحي إذا شك في الجزاء ؟؟
وقد حذر الامام علي (ع) من خطر الشك فقال : " لا تجعلوا علمكم جهلا ، و يقينكم شكا ، إذا علمتهم فاعملوا ، و إذا أيقنتم فأقدموا " (1) ، و مشكلة أكثر الناس أنهم يعلمون الحق و يؤمنون به ، و لكنه لا يتحول في حياتهم الى منهاج عمل ، لجبنهم و فرارهم من تحمل المسؤولية ، فاذا بهم يشككون أنفسهم .
إن على الانسان أن لا يشك بأن هواجس الشيطان تحيط به من كل جانب ، بل و يستعد لمواجهتها ، بخوف العاقبة السوء ، و عزيمة الايمان .
[51 - 53] وفي مقابل هذه الصورة يبين لنا القرآن الحكيم نعيم المتقين و كرامتهم عند الله ، و تختلف نعم الآخرة عن الأخرى الدنيوية . إنها خاصة بالمتقين ، وهم(1) نهج البلاغة / حكمة 274
الذين يحفظون أنفسهم عن المحرمات ، و يؤلمون أنفسهم بترك الهوى ، و بالصبر على المصائب و ألوان الأذى في الله ، و أخيرا بالاستقامة على الحق حتى الموت ، ذلك أن طريق الجنة محفوف بالصعاب و المكاره ، يقول الامام علي (ع) وهو يوبخ الذين يريدون الجنة بلا ثمن : " أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ، و تكونوا أعز أوليائه عنده ؟ هيهات ! لا يخدع الله عن جنته ، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته " (1)نعم . إن الانسان لا يستطيع بلوغ طموحاته اليومية ، بالتمنيات و الأحلام ، فكيف يبلغ بها الجنة وهي أسمى الطموحات ، و أعلى الأهداف ؟! ثم إن الانسان يحقق طموحاته في الدنيا بالسعي ، بينما لا يكفي السعي وحده لدخول الجنة ، إنما لابد من العمل الصالح الذي يخلص صاحبه فيه نيته ، إذ لا يتقبل الله إلا من المتقين ، و الكثير من الناس يصلون و يصومون و يحجون و ينفقون ولكن عبثا ، ولا يبلغون بذلك جنات الخلد ، لأنها ليست خالصة لله ، و كيف ترفع الصلاة المحاطة بالشرك و السهو ؟! و كيف يتقبل الصيام رياء و سمعة ؟! و كيف يكون سعي الحاج مشكورا و حجــه مبـرورا و هو يخضع للطاغوت ؟! " انما يتقبل الله من المتقين " (2) وفي الأخبار أن العبادة أو الشعيرة التي يمارسها صاحبها لغير وجه الله تصير يوم القيامة حجرا تصك بها جبهته .
و نتساءل : من هو المتقي إذن ؟
إن المتقي هو الذي يتحول فعل الخير في حياته الى سلوك مستمر ، أما الذي يفعل الخير إذا حقق مصالحه و أهواءه ، و أما إذا محص بالبلاء تركه ، فانه ليس بمتقي .. و ربنا وعد المتقين وحدهم بالمقام الأمين عندما قال :
(1) المصدر / خطبة 129
(2) المائدة / 27
[ إن المتقين في مقام أمين ]
و الأمن و السلام من أهم الحاجات النفسية للبشر ، ولا يبلغ غاية الاطمئنان في الدنيا و الآخرة إلا المتقون ، ذلك أنه لا يحصل إلا بذكر الله عز وجل ، و باتباع منهاجه في الحياة ، فقد أسس الله الكون على الحق و العدالة ، و من يتبع المنهج الرباني وحده يستطيع العيش مطمئنا وفي مقام أمين من المكاره .
[ في جنات و عيون * يلبسون من سندس و إستبرق متقابلين ]تلك الأجسام النضرة الناعمة تميس في الجنان الخضرة بين العيون الرقراقة ، و عليها ثياب الزينة من سندس ( حرير ناعم لطيف ) ومن إستبرق ( حرير ضخم يتلألأ ) و تراهم يتقابلون في مجالس الأنس لا يشوب صفاء قلوبهم حقد أو حسد أو غل أو كبر ، فهم إخوان متحابون كما كانوا في الدنيا ترفرف على رؤوسهم رحمات الله و بركاته ، و نعم أجر العاملين .
[54] و يستمر القرآن في بيان جزاء المتقين فيقول :
[ كذلك و زوجناهم بحور عين ]
و كذلك تكتمل نعم الجنة بالزواج من نساء جميلات يتجلى جمالهن في العيون الواسعة الحوراء ، و لعل صيغة الماضي في الزواج تدل على أن الله زوج الحور العين لأوليائه بعلمه في الدنيا ، بما قاموا به من عمل ، بلى . لكل زواج مهر ، و مهر زيجات الجنة الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا .
[55] ومن نعيم الجنة أن يجد أهلها ما يطلبون دون أدنى تعب .
[ يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ]
بعكس الدنيا تماما حيث لابد للانسان فيها من السعي لكي يصل الى رغباته ، و التنـازل عــن شيء للظفر بشيء آخر ، و صدق أمير المؤمنين (ع) حيث قال : " أيها الناس ! إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ، مع كل جرعة شرق ، وفي كل أكلة غصص ! لاتنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه ، ولا يحيا له اثر إلا مات له اثر ، ولا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد ، ولا تقوم له نابتة إلا و تسقطمنه محصودة " (1) . أما في الجنة فالمتقون آمنون من كل هذه العيوب و النواقص .
[56] [ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ]
التي ذاقوها في الدنيا ، و هذه الآية اشارة لنعمة الخلود ، وهي من أعظم النعم و الغايات التي يتمناها البشر .
والى جانب هذه المنة يذكرنا ربنا بنعمة عظيمة أخرى ، وهي الوقاية من النار ، و التي يعدها القرآن في موضع آخر فوزا عظيما ، حيث يقول عز وجل : " فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز " (2) .
[ و وقاهم عذاب الجحيم ]
تلتقي كلمة " المتقين " مع تعبير " وقاهم " في نقطة هامة ، وهي أن التقوى التي كانت تحجز هؤلاء عن ارتكاب المعصية في الحياة الدنيا ، هي التي تكون واقية لهم من العذاب في الآخرة .
(1) نهج البلاغة / خ 145
(2) آل عمران / 185
[57] ومع ذلك يؤكد ربنا بأن هذا الجزاء ليس نتيجة التزام الانسان برسالة الله و تعالميه ، لأن ذلك واجب طبيعي عليه فطرة و عقلا ، فهو خالقه و رازقه و مالكه الذي يهب له الحياة لحظة بلحظة ، و يأتي هذا التأكيد و التذكير ليعين المتقين على مواجهة الغرور و العجب .
[ فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم ]
و بدون هذا الفضل الالهي لا يفوز بشر أبدا ، ولا ينجو من العذاب ، وفي الحديث القدسي قال عز من قائل : " فلا يتكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها ، فانهم لو اجتهدوا و أتعبوا أنفسهم و أعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين ما يطلبون من كرامتي ، و النعيم في جناتي ، و رفيع درجاتي في جواري ، ولكن رحمتي فليبغوا ، و الفضل مني فليرجوا ، و إلى حسن الظن بي فليطمئنوا ، فان رحمتي عند ذلك تدركهم ، وهي تبلغهم رضواني و مغفرتي ، و ألبسهم عفوي ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء و الله سميععليم " (1) ، وحتى الأنبياء و الأولياء إنما يدخلون الجنة بفضل الله ، و حتى أعمالهم الصالحة ، إنما هي فضل من الله عليهم . أولم يقل ربنا مخاطبا سيد البشر محمد بن عبد الله (ص) : " إن فضله كان عليك كبيرا " (2) .
[58] و قبل أن يختم ربنا سورة الدخان يصف كتابه الكريم ، وهو المنهاج الذي يبلغ بالانسان درجة التقوى ثم الجنة ، و بالتالي هو فضل الله الذي ينجي به من النار إذا ما استذكر به و اتبع آياته الميسرة .
[ فانما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ]
(1) بح / ج 72 - ص 322
(2) الاسراء / 87
هكذا يلخص ربنا هدف كتابه في التذكرة ، لأنه بما فيه من مواعظ و معارف إنما جاء ليذكر الانسان بعهده مع ربه . أوليس أعدى أعداء البشر في الحياة الغفلة ؟ بلى . وما وظيفة الأنبياء و الرسل - عليهم السلام - سوى تبليغ هذه التذكرة و بيانها للناس .. ولولا أنالله سبحانه قد يسر القرآن لم يكن البشر يعقلون حرفا منه ، كيف وهو يذكرنا بالغيب المحجوب علمه عنا ، بتلك السنن الثابتة لحقائق الخلق ، بصفات الرب ، بأشراط الساعة ، بما في الحياة الآخرة التي قد تبعد عنا ملايين السنين ، وفي الحديث المأثور عن الامام الصادق( عليه السلام ) : " لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن ، وأنى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال " (1) .
وقد نستوحي من هذه الآية بصيرتين :
1- إن الله جعل القرآن عربيا بلغة الرسول و قومه تيسيرا لفهمه ، و بالتالي التذكر به . أورأيت لو كان القرآن بلغة أخرى هل كان يفهمه العرب بيسر و سهولة ؟ ثم هل كانوا يتعظون به ؟ كلا .. ومن هنا فان المنهاج الأفضل لتيسير فهم القرآن للمسلمين غير العرب ليسترجمته ، وإنما تعليمهم لغة القرآن نفسه .
2- إن للرسول دورا هاما في بيان القرآن ، و تقريب الأذهان الى معانيه التي لا تتيسر إلا بكلامه (ص) ، ومن هنا فان أي منهج يبتعد عن السنة ( احاديث الرسول و أئمة الهدى ) في فهمه و تدبره لمعاني الوحي سوف ينتهي الى تفسيرات و تأويلات خاطئة أو قاصرة . أولميضل الكثير ممن حاولوا فهم القرآن من خلال الفلسفات البشرية في متاهات خطيرة .
[59] وكالكثير من السور يختتم الباري عز وجل هذه السورة ، بانذار مبطن(1) تفسير نمونه / ج 21 - ص 219 نقلا عن تفسير روح البيان / ج 8 - ص 433لأولئك الذين لا يستجيبون لدعوته ، ولا يتذكرون بآياته ، بأن تأخير الجزاء ينسجم و طبيعة الحياة الدنيا حيث أنها دار امتحان و بلاء ، فهو لا يعني بأن الله يهملهم ، بل العذاب آت و لابد من ارتقابه .
[ فارتقب إنهم مرتقبون ]
إرتقب نصر الله ، و ليرتقبوا خذلانه ، إرتقب بعملك الصالح جزاء الله الحسن ، و ليرتقبوا بسيئاتهم الانتقام ، بلى . إن الزمن في مصلحة الحق و أهله ، ولا يمر ردح منه إلا و يقرب أهل الباطل من العذاب .
|