الإطار العام طف بفكرك آفاق السماوات ، و أقطار الأرض . ماذا ترى ؟ ألا ترى آيات الله تتجلى في كل شيء ؟ إذا لماذا يكفر هؤلاء الناس ؟! تجيب سورة الجاثية التي نستلهم من إطارها أنها تعالج حالة الإفك عند البشر - تجيب عن ذلك ببساطة - : إن الآيات ليست لكل الناس ، انماهي للمؤمنين ، و لقوم يوقنون ، و لقوم يعقلون (5) .
و إذا كفروا بهذه الآيات فبماذا عساهم يؤمنون ؟! انهـم لا يؤمنون بشيء فويل لهم ، و لكل أفاك أثيم ، يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبرا (8) .
وقد تنفذ آية في أفئدتهم ولكنهم لا يسعهم الاستكبار دونها ، هناك يتخذونها هزوا إيغالا في الجحود .
كيف نعالج هؤلاء ؟ لا بشيء يمكن شفاؤهم ، بل بشرهم بعذاب أليم و مهين (9) في جهنم التي تأتيهم من ورائهم ، فلا يستطيعون لها ردا (10) .
ثم يذكرنا السياق بتلك الآيات التي تهمنا مباشرة : فهذا البحر كيف سخره الله مطية للسفن ، و مخزنا للطعام و الزينة ، و آية تبعث نحو شكره .. كما سخر لنا ما في السماوات و الأرض ، كل ذلك نعمة و فضل منه علينا ، لعلنا نبلغ هدفا ساميا هو التفكر .
ولكن كيف نفكر تفكيرا سليما ؟
الجواب : لابد أن نتجنب التأثر بالبيئة الضالة ، ولا نأبه بهؤلاء الذين يكفرون ، لانهم لا يرجون أيام الله ، فلهم أعمالهم التي سيجزون بها ، ولن تصلكم سيئاتهم ، كما لن تصلهم صالحاتكم .
و البعض ينتظر شيئا مجهولا حتى يهتدي ولكن عبثا . إذا لم تكن أنت الذي تبتغي الهدى فلن تنتفع بكل وسائل الهداية . و إليك مثلا من بني إسرائيل : لقد آتى ربنا بني إسرائيل الكتاب ، و الحكم ، و النبوة - من وسائل الهداية - و رزقهم من الطيبات - من النعم المادية - و فضلهم على العالمين ، و لكنهم - إذ اتبعوا شهواتهم - غرقوا في الخلافات ، و ضلوا عن الطريق بغيا بينهم .
وهذا الكتاب الكريم من عند الله ، الذي انزل ذلك الكتاب ، فلا فرق بينهما ، و الذي لا يؤمن بعد نزول هذا الكتاب ، و ينتظر مثل التوراة لن يبلغ الفلاح أبدا .
وفي هذا الكتاب بصائر و هدى و رحمة ، و لكن هل ينتفع به كل الناس ؟! لا بل الذين يريدون ذلك . ( أي لقوم يوقنون ) .
ومن التمنيات الباطلة : الوهم الذي يعيشه الكثير من الناس ، حيث يزعمون أنهم و المؤمنون سواء . كلا .. ليس الذين اجترحوا السيئات ، و الذين آمنوا و عملواالصالحات سواء . لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أولا تعلمون ان الله خلق السماوات و الأرض بالحق ، فكيف يجعلهما سواء . أليس ذلك باطلا ؟! انه يجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون .
و يبقى سؤال : لماذا ينتهي البعض الى هذا المصير الأسوأ ؟ لانهم يتخذون آلهتهم أهواءهم ، فتراهم لا يتبعون الهوى فقط بل و يطيعونها الى حد التقديس .
و حين يضل الله الذين يؤلهون اهواءهم يسلبهم مصادر العلم من العقل و الاحاسيس ، و آنئذ لا أحد قادر على هدايتهم .
و يتخبطون في ظنونهم خبط عشواء ، فاذا بهم يقولون : " ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا وما يهلكنا إلا الدهر " و يتحدون النذر إذا قالوا لهم : احذروا الآخرة ، و يحتجون - إذا تليت عليهم آيات الله - " أن أتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " وهكذا يحجبون أنفسهم عن الحقيقة ببعض الشروط التعجيزية ، و سواءا آمنوا أم لم يؤمنوا فان الجزاء واقع . الله يحييهم ثم يميتهم ثم يجمعهم إلى يوم القيامة لا ريب فيه .
وهل يضرون ربهم لو كفروا و لله ملك السماوات و الأرض ، و المبطلون يخسرون يوم تقوم الساعة .
هنالك يتزيل الكفار عن المؤمنين ، بل يتميز الكفار فيما بينهم - كما المؤمنون - إذ " ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون " .
هنالك يتجلى الفرق بين الناس حسب أعمالهم : فاما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلون الجنة ، بينما يحاكم الكفار ، و يسألون : لماذا استكبرتم عنالتسليــم لآيــات اللــه ، و كنتم قوما مجرمين ، و زعمتم انكم لستم على يقين من الساعة - بينما الساعة لا تحتمــل الريب أنهـا حـق - ؟ في ذلك اليوم تبدو سيئات أعمالهم ، كما ان الحقائق التي استهزؤوا بهــا تحيــق بهم ، اما نسيانهم للحقائق - وهو واحد من الأفعال القلبية - فانه يقابل بنسيان مثله ، و يقال لهم : " اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكــم هــذا " .
وفي خاتمة السورة يعود السياق و يبين : ان جزاء اتخاذ آيات الله هزوا النار ، و سببه الاغترار بالحياة الدنيا ، و لله الحمد ( أولا و أخيرا على رحمته و عدله ) وله الكبرياء في السماوات و الأرض ، و هو العزيز الحكيم .
|