البلاء نصرهم بعزته .
بينات من الآيات [16] [ ولقد آتينا بني إسرائيل ]
أولا :
[ الكتاب ]
التوراة ، و الانجيل ، و الزبور ، التي أثارت عقولهم ، و برمجت حياتهم .
ثانيا :
[ و الحكم ]
فلقد جعل الله في بني إسرائيل ملوكا حاكمين ولقد فسرنا ذلك في آية (98) من سورة الأنعام .
ثالثا :
[ و النبوة ]
فقد جعل الله في بني إسرائيل أنبياء كثير منذ يعقوب (ع) حتى عيسى (ع) ، وهذا العدد من الأنبياء نعمة كبيرة لبني إسرائيل و فخر عظيم ، لأن عظمة الأمة تقاس بعدد و نوعية النخبة الطيبة فيها ، و عالمنا اليوم يقيس تقدم الأمم بنسبة الكفاءات فيها ، و هكذا أضحتبنو إسرائيل أمة متقدمة بالنسبة الى سائر الأمم في عصرهم ، ثم إن الله يحفظ الناس و يمنع عنهم العذاب بأنبيائهم و صالحيهم ، قال تعالى : " وما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم " . (1)(1) الأنفال / 33
و بالنسبة لنا كمؤمنين يجب أن نعرف أنه كلما كثر فينا الصالحون و العلماء الربانيون و الرساليون المخلصون كلما أمسينا أقرب الى الانتصار بإذن الله .
رابعا :
[ و رزقناهم من الطيبات ]
فقد رزق الله بني إسرائيل رزقا حسنا بعد أن أمرهم بدخول باب حطة إلى القرية المقدسة التي بارك فيها .
خامسا :
[ و فضلناهم على العالمين ]
في الحضارة عن غيرهم من سائر الأمم من قبلهم ومن كانوا في زمانهم ، ولعل في الآية إشارة الى أن هذا التفضيل كان بسبب تلك النعمة الآنفة ، فلما زالت زال فضلهم .
سادسا :
[17] [ و آتيناهم بينات من الأمر ]
يبدو أن الأمر في لغة القرآن يعني المسألة العامة ، قال تعالى : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " (1) فقد أعطى الله بني إسرائيل بصيرة الأمر و بيناته ( أي تفصيلاته ) فعرفهم كيف يصرفون حياتهم ، و كيف يتعاملون مع غيرهم ، و كيف يرتبون اجتماعهم .
[ فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ](1) النساء / 83
اختلفوا ولم يكن اختلافهم لنقص في رسالتهم أو شحة طعامهم ، إنما كان ببغيهم بالرغم من وجود العلم الذي كان جديرا بفض خلافاتهم لو تجنبوا البغي ، و لقد كان العلم عند وصي موسى يوشع بن نون ، وكان الناس يعلمون ذلك ، إلا أن حب الرئاسة وهوى السلطة لعب دورا خبيثا في إزالة الحق عن مرساه ، و الولاية عن مستقرها ، فاختلفوا أشد اختلاف .
و يضرب القرآن صفحا عن ذكر ويلات الاختلاف ، من حروب داخلية تؤدي الى زعزعة أساس المدنية ، و غلبة الأعداء الخارجيين .
ولا ريب أن العلم هنا هو علم الدين الذي يقضي على الاختلاف بين أصحاب الرسالة ، ولا يعني أي معلومات كانت ، لان سلاطين الجور يحاولون أبدا الاستغناء عن علماء الدين بمن يسمى عالما من أصحابهم ، و يغرونهم ليصنعوا لهم فلسفة و مذهبا .
[ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ]إن الله سيقضي بينهـم بالحق ، فلا تذهب نفســك عليهم حسرات ، ولا تعجل عليهم ، و اطمأن إلى أن الحق باق برغم التشويش عليه .
[18] [ ثم جعلناك على شريعة من الأمر ]
الشريعة : الطريقة الواضحة ، فقد جعل الله الرسول (ص) على الطريق الحق ، و الدين الواضح .
[ فاتبعها ولا تتبع اهوآء الذين لا يعلمون ]
ومن لا يتبع شريعة الله فإنه يتبع " أهواء " قوم لا يؤمنون بالله ، وهذه مشكلةالعلماء الذين باعوا دينهم ( شريعة الله ) بالدنيا فاتبعوا أهواء الطغاة ، ومن هنا فإن مسؤولية العلماء الاستقامة على هدى الله ، بالرغم من كل الضغوط التي يمارسها أصحاب القوة و الثروة .
و إذا بقي العلماء صامدين أمام أهواء الجاهلين فإنهم يكونون مقياسا للحق ، و محورا لأهله ، و قيادة موثوقة للثائرين من أجله .
أما إذا اتبعوا أهواء أولي القوة و المال فسوف يضيع الحق ، و يختلف الناس من بعد ما جاءتهم شريعة الله بغيا بينهم ، كما فعلت بنو إسرائيل من بعد نبيهم ، و دالت دولتهم ، و زالت الفضائل التي فضلهم الله بها .
و نستفيد من الآية أن أهم بنود الشريعة هـي التي تمنع الاختلاف ، و تحقق العدالة ، و تقاوم البغي ، و لا ريب أن كل ذلك موجود في نظام الحكم عند الدين .
[19] ثم يهدد ربنا هؤلاء العلماء الغاوين الذين يتبعون أهواء الظالمين :
[ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ]
يوم القيامة ، فلا يدفعون عنك العذاب ، إذا أطعتهم و صاروا يستغلونك من أجل تضليل الناس ، بل دخولهم النار .
[ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ]
فالأفحش ظلما يتولى جمعهم ، و يذيقهم من ويلات ظلمه ما يشاء ، ثم يتسلسل الظلم نازلا حتى يصبح كل واحد منهم ظالما لمن دونه ، و مظلوما ممن فوقه ، لا يذوقون برد العدالة و الأمن أبدا .
ومن أيدهم دخل في حزبهم ، و احتمل وزر أعمالهم الذي يتجسد في الآخرة عذابا شديدا ، أما في الدنيا فيشمله ظلمهم الناشئ في مجتمعهم .
وقد دلت آية كريمة على أن الله يولي الظالمين بعضهم ( قد يكون أشدهم ظلما ) ، حيث يقول ربنا : " و كـذلـك نولـي بعض الظالمين بعضا " ، و في الحديث المعروف : " كما تكونون يولى عليكم " . (1)أما العلماء الذين يواجهون الظلم فإنهم ينجون من آثاره في الدنيا وفي الآخرة .
[ و الله ولي المتقين ]
فهو سبحانه يؤيد المتقين بنصره في مقاومة الطغاة .
[20] [ هذا بصآئر للناس ]
واضحة تهدي القلوب و العقول ، و طريقة للرؤية الصائبة ، و منهج للتفكير السليم .
[ و هدى ]
فالقرآن لا يكتفي ببيان البصائر ، بل و يقربنا حتى نلامسها ، و نتفاعل معها ، و نشهدها عن كثب ، وهذا هو الهدى .
[ و رحمة لقوم يوقنون ]
إذ أنقذهم من الغواية و الاختلاف ، و هداهم الى شريعته الواضحة السمحاء .
أما الذين لا يوقنون ، و بالتالي لا ينفذون أوامره في الأوقات الحرجة ، و بالذات عند اختلافهم ، فإن القرآن لا يغني عنهم شيئا ، ولعل الآية هذه تشير الى ما تدل(1) نهج البلاغة / ج 211 - ص 506
عليه الآية الكريمة : " فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما " (1) .
[21] لان الدنيا دار ابتلاء فهي دار غرور يخيل للانسان ان المجرم و المحسن فيها سواء ، وما هي إلا فتنة قصيرة الأمد ، و بعده يتميز المحسن بالثواب ، و المجرم بعقاب شديد .
و يوغل البعض في التمني و الغرور حين يزعم أن الآخرة كما لبعض الحالات في الدنيا يتساوى بها المحسن و المسيء ، و هكذا تسول له نفسه الاسترسال في السيئات دون رادع ، كلا . إن ذلك حكم جائر بعيد عن سنن الله في الخليقة .
[ أم حسب الذين أجترحوا السيئات ]
و الاجتراح : الاكتساب ، و نستوحي من الآية ان اجتراحهم للسيئات هو الذي جعلهم يظنون هذا الظن السيء ، ذلك لأن الشيطان يزين للانسان عمله .
[ أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ]كلا فحياة المؤمن زاخرة بالاطمئنان ، و الفلاح ، و الأمل ، بينما يجعل الله صدر الكافر حرجا ضيقا ، و يمنـع عنه الالتذاذ الكافي بنعيم الدنيا ، و يجعله يأكل كما تأكل الانعام ، و يجعله عرضة للعذاب .
أما بعد الموت فان الملائكة يستقبلون المؤمنين بالترحاب ، بينما يغلظون على المجرمين ، ثم يتميزون الى الأبد عن بعضهم ، فهؤلاء في الجنة منعمون ، و أولئك في العذاب الأليم .
(1) النساء / 65
[ سآء ما يحكمون ]
وعند هذه الآية تتلاشى الاماني التي يعيشها بعض المسلمين ، و يبررون بها اجتراحهم للسيئات ، فبعض يقول : سيغفر لنا ، و بعض يزعم انه يتوب قبيل وفاته ، و بعض يتشبث ببعض الطقوس و يزعم انها تغنيه عن الالتزام بالواجبات .
كلا .. ان ربنا عدل لا يجور ، ولا يمكن أن يتساوى عنده المحسن و المسيء .
[22] حين نتفكر في خلق الله في السماء التي تظلنا ، في الأرض التي تقلنا ، في الظواهر الطبيعية ، في الدورات النباتية ، في التفاعلات الحياتية ، في كل شيء ، فان حقيقة واحدة تتجلى بوضوح وهي : أن كل شيء حق ، و يدبر بحق . أرأيت الذي يزرع الشعير هل يحصد حنطة . كلا .. ولماذا لا نتمنى للخامل ان يحصل على علم وافر ، و ثــروة طائلة ؟ وكيف لا يحلم أحد أن تلد البقرة حصانا ، او أن يطير الفيل في الجو كالغراب ؟
لماذا العلم يتوغل في عمق الاشياء لمعرفة الاسباب و النتائج ، أو خصائص المعادن و النبات ، أوليس لأن كل شيء خلق بحق ، و يجري ضمن سنة عادلة ؟!
فكيف نتمنى إذا ان نجترح السيئات و يكدح ذلك المؤمن في إقامة الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و الجهاد ، ثم نجني نحن وهو ثمرات متشابهة . هل رأيت مثالا واحدا في عالم الخليقة حتى تقيس نفسك به مثلا ؟
[ و خلق الله السماوات و الأرض بالحق ]
و يتجلى هذا الحق في حياة الانسان عبر سنة الجزاء .
[ و لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ]
بلى . قد يتأخر الجزاء أو تخفى علاقته بالعمل ، قد يشرب المرء ماءا ملوثا ثم يصاب بمرض خطير بعد مدة ، ولا يصدق أن شربه ذلك الماء كان سبب اصابته بالمرض . قد يعيش مجتمع التخلف ولا يعترف أن خموله ، و تمزقه ، و جهله سبب ويلاته ، و لكن سنة الجزاء جارية . علمنا بها أم لا ، و صدقنا بها أم لا .
|