بينات من الآيات [23] هناك علاقة وثيقة بين العقل و الايمان ، فالعقل ينبعث من ذات المشكاة التي ينبعث منها الايمان ، فمن اتبع عقله هدي الى الايمان ، ومن آمن أنقذ عقله ، أما من اتبع هواه فقد عطل عقله ، ولن يهتدي الى الايمان ، ويكون كمن أوصد منافذ قلبه حتى لا يصل الىالحقيقة ، ولن يصل إليها ، وحين يتبع الانسان هواه تكثرأنانيته و شهواته ، حتى لا يرى إلا نفسه وما يخدمها مباشرة ، و يبلغ به حب الذات حد العبادة ، إذ يجعل ما تشتهيه نفسه شرعا يلتزم به ، و حينئذ يسجن في زنزانة نفسه ، و لا يؤمن بغيرها ، ولا يقدر أن يسمو بها الى حالة الايمان برب العالمين .
[ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ]
لماذا يقول ربنا : " أفرأيت " ولا يخاطب من اتبع هواه مباشرة ؟
و الجواب :
أولا : لأن مثل هذا الانسان ليس من السهولة أن يميز خطأه ، بل هو كالميت لا يستحق خطابا .
ثانيا : لكي يتخذ المخاطب حذره ، فلا يقع فيما وقع فيه عابد هواه ، و يتعلم عبادة ربه من عابد هواه ، كما قيل لذلك الحكيم : من أين تعلمت الأدب ؟ قال : ممن لا أدب له ، عمل ما ساءني فلم أعمل مثله ؟ كذلك يكفينا عبرة النظر الى عاقبة من يعبد هواه ، فلا ندعشهواتنا الطاغية تستدرجنا الى هذا المصير ، بل نعتبر الهوى أشد أعدائنا ، و نعتبر الوقوف أمامه شجاعة بالغة .. على أن أكثر الناس يطيعون أهواءهم بقدر معين ، إلا أن من يتخذ هواه إلهه عبرة لهم ، ليعرفوا عاقبة الاسترسال مع الهوى .
[ و اضله الله على علم ]
إنه ما أضلهم إلا من بعد أن أعطاهم العلم ، فاختلفوا بغيا بينهم ، و قيل على علم من الله أنه يستحق الاضلال بسبب جحوده بعد اليقين ، و كفرانه بنعمة الهدى ، و يكون كلا التفسيران الى معنى واحد .
[ و ختم على سمعه و قلبه ]
فلا يسمعون ولا يعوون الحقائق ، لأن الله أبعدها عنهم ، و هل يعطي ربنا دينه من يعرف أنه يكفر به سلفا ؟!
[ و جعل على بصره غشاوة ]
فعندما يبصر الآيات لا يرى ما وراءها من العبر ، وما قيمة ظواهر الآيات إذا لم يهتد الانسان الى معانيها ، أو تنتفع من سماع لغة لا تعرفها ، أو ينتفع الأمي إذا نظر في كتاب ، و هل يهتدي غير الطبيب الى حقيقة المرض من رؤية أعراضه ؟
كذلك نظرات الذين يعبدون أهواءهم تذهب عبثا ، لأن تركيزهم إنما هو على ظواهر الأمور ، ولا يريدون بلوغ الحقائق فهم محجوبون عنها .
جاء في الحديث عن أمير المؤمنين - عليه السلام - في صفة هؤلاء :
" أقبلوا على جيفة ( الدنيا ) قد افتضحوا بأكلها ، و اصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئا أعشى بصره ، و أمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، و يسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، و أماتت الدنيا قلبه ، و ولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها ، حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها " (1)[ فمن يهديه من بعد الله ]
لقد أنعم الله على الانسان بالعقل ، و آتاه البينات ، فإن اهتدى فلنفسه ، و إن أساء ، و اتبع هواه ، و انحرف عن هدى عقله ، و كذب بالبينات ، سوف يضله الله .
(1) نهج البلاغة / خ 109 - ص 159
أرأيت من يعطيه العقل من بعد الله ، و من يمن عليه بهدى البينات .
و الآية تحذرنا من مغبة الاسترسال مع الذنوب الى أن تسد علينا منافذ الهدى كليا فلا مناص من النار ، وقد قال ربنا : " ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزؤون " (1)و جاء في الحديث عن الامام الباقر - عليه السلام - : " ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة ! إن القلب ليـواقـع الخطيئة فمـا تزال به حتى تغلب عليه ، فيصيـر أسفله أعلاه ، و أعلاه أسفله " (2) .
قال رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلم - : (( إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب و نزع و استغفــر صقــل قلبــه منه ، و إن زاد زادت ، فــذلك الريــن الذي ذكره الله تعالى في كتابه : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانـــوا يكسبون " )) (3) .
و جاء في رواية أخرى عن الامام الصادق - عليه السلام - : " إن الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء ، و فتـح مسامع قلبه ، و وكل به ملكا يسدده و إذا أراد بعبــد سـوءا نكت في قلبه نكتة سوداء ، و شـد عليــه مسامع قلبه ، و وكل به شيطانا يضله " (4) .
[ أفلا تذكرون ]
بهؤلاء و تعتبرون بهم .
(1) الروم / 10
(2) روضة الواعظين / ص 414
(3) المصدر
(4) بحار الانوار / ج 70 - ص 57
[24] و يبرر هؤلاء عبادتهم لأهوائهم بقولهم :
[ و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا وما يهلكنآ إلا الدهر ]لا شيء وراء ظاهرة الحياة و الموت ، ولا حتى الله الذي قدرهما ، وما الدهر سوى الطبيعة ، وهل للطبيعة إرادة و حكمة ؟! أفلا ينظرون الى السموات و الأرض وما فيهما من عظمة التدبير و دقة التقدير ؟! أفلا يهديهم العقل الى أن لكل تدبير مدبر ، و لكل تقدير مقدر؟!
و يبدو أن مرادهم من الموت فناء جيل ، و الحياة نشأة جيل من بعدهم ، فالزمان في زعمهم يميت الأولين ، و يحيي من بعدهم الآخرين ، و هكذا في دورة متتابعة لا يعرف مبتداها ولا منتهاها ، و تبقى الأسئلة حائرة : من أين جئت ، إلى أين أسير ؟ و ينادي ليس ادري !
و يبدو أن هذه النظرية يفرزها القلب المختوم عليه بسبب عبادة الهوى ، وهي تحلل الانسان من كل قيد ، و تطلق عنانه في اتباع الشهوات حتى النفس الأخير ، وهي نظرية قائمة على أساس الفراغ العقيدي .
[ وما لهم بذلك من علم إن هم الا يظنون ]
أي يتخيلون أن لا بعث ولا حساب ، أفينبغي أن نرسي بنيان أفكارنا و أساس مجمل ثقافتنا على قاعدة الظن بعيدا عن العلم ؟! ولكن ماذا يملك من عبد هواه ، و أضله الله ، سوى الظنون ؟! إن العلم أعظم نعمة ، وهو من عند الله ، فلو سلبه من أحد ، أترى يعرف شيئا ؟ هل يقدر الحائط - مثلا - أن يعي ما في الحقل ، أم المكيال ما في البيدر ؟! ولماذا ؟ مستحيل أن يعرفا . أوليس لأن الله لم يرزقهما العلم ؟ كذلك محال ان يعرف من عبد هواه بداية الخلق و نهايته ، لأنه قد سلب منههذا العلم ، وقد تم إضلاله على علم .
الذي يرى الرياض الجميلة تتوق نفسه إليها ، ولكن الأعمى يظل يتخيل ، و يقول ليس ثمة شيء أبدا . دعه في ضلاله أبدا .
[25] [ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ]
حتى تكاد تلزمهم بالحقيقة تهربوا منها دون أن يملكوا حجة ، بل :
[ ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بابائنا إن كنتم صادقين ]وهل إذا أحياهم يؤمنون ؟
كلا .. إنهم يبررون بذلك تهربهم من مسؤولياتهم .
[26] [ قل الله يحييكم ]
من بعد العدم ، بالقدرة التي خلق بها السموات و الأرض من العدم .
[ ثم يميتكم ]
وليس الدهر كما زعموا أنه يهلكهم .
و يبدو أن هناك فرقا بين الموت و الهلاك : فالموت هو انفصال الروح عن الجسد ، أما الهلاك فهو اندثار الشيء ، وهو يتناسب مع الزوال بعذاب ومع الظروف التي تمحي آثار الميت و كأنه قد تلاشى ، كما استخدم الهلاك في قوله سبحانه : " ولقد جاءكم يوسف من قبلبالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك
قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا " (1) ، و قوله تعالى " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرء هلك " (2) ، وقوله : " كل شيء هالك إلا وجهه " (3) ، فهلاك يوسف اندثار رسالته ، و عدم التقيد بها ، و هلاك المرء انتهاء دوره حتى أنالكلالة يتقاسمون إرثه ، وكذا في الآية الثالثة حيث يتم تلاشي كل شيء إلا وجه الله ، كما قال ربنا سبحانه : " كل من عليها فان " .
و الله القادر على الاحياء و الاماتة هو القادر على البعث و النشور .
[ ثم يجمعكم الى يوم القيامة لا ريب فيه و لكن أكثر الناس لا يعلمون ]إذا كان يوم القيامة لا ريب فيه ، فلماذا نرى أكثرهم لا يعلمون بها ؟
بلى . يوم القيامة لا ريب فيه واقعا ، أي لا محالة واقع ، وليس في ذلك تردد ، و لكن اكثر الناس لا يعلمون بهذا الواقع ، ولا يغير جهل البشر من الواقع شيئا ، فنحن نجهل - مثلا - وجود منظومة شمسية في آخر آماد هذا الفضاء ، فهل يجعل جهلنا بها وجودنا عدما ؟ كلا .. ولعل هذه الآيات في القرآن تعالج حالة نفسية عند البشر أنه يزعم أن مجرد شكه في شيء يجعله في حل من الالتزامات المرتبة على وجوده ، و بالتالي يتجاهل أشياء واضحة بزعم أنه يدرأ عن نفسه أخطارها ، كالنعامة التي تخفي رأسها زاعمة أنها إذا لم تر الصياد فإنه لا يراها ! كلا .. الواقع واقع ، سواءا آمنت بـه أو لم تؤمن ، فإذا كان ذلك الواقع كيوم القيامة الرهيب فإن تجاهله مأساة حقيقية للانسان .
[27] [ و لله ملك السماوات و الأرض و يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر(1) غافر ( المؤمن ) / 34
(2) النساء / 176
(3) القصص / 88
المبطلون ]
أولئك الجاهلون يزعمون أن تكذيبهم بالساعة و استهزاءهم بها يكفيهم ، كلا .. يقول ربنا : إن ملك السموات و الأرض لله ، و الله لا يعطي شيئا منها لأحد باطلا ، و إنما رزقهم منها ما يمتحنهم به ، فإذا عملوا باطلا فإنهم يخسرون يوم القيامة . أوليست الدنيا مزرعة الآخرة ؟ أوليس ما بأيدينا من قوة و مال و بنين هو رأسمالنا الوحيد ، فإذا لم نصلح أمره بل جعلناه في يد اللهو و الباطل فإن ذلك الخسران ؟
[28] و يقص علينا حالة الأمم التي قالت و عملت باطلا في ذلك اليوم الرهيب ، و يقول :
[ و ترى كل أمة جاثية ]
الجثو : هو الجلوس على الركب بخشوع و ذل .
[ كل أمة تدعى إلى كتابها ]
إن الكتاب هو كتاب أعمال الأمم .
وهناك سؤال : لماذا يقول ربنا : " كل أمة تدعى الى كتابها " ، ولم يقل : ( كل فرد يدعى .. ) ؟
و لعل الجواب أن القرآن الحكيم يشير الى حس التوافق مع المجتمع في الانسان ، التي تجعل المجموع مسؤولا عن كل فرد ، كما أن الفرد له مسؤولية تجاه المجموع ، ذلك لأن كثيرا من أعمال الفرد و عاداته إنما المسؤول عنها المجموع ، و نستطيع أن نشبه التجمع بقافلةركاب ، فلو سقطت في الوادي لهلك أهلها جميعا .
و القرآن يسفه حالة الانسياق وراء المجتمع ، قال رسول الله (ص) : " لا يكنأحدكم إمعة ، يقول : إن أحسن الناس أحسنت ، و إن أساؤوا أسأت ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم " .
و نستفيد من الحديث أنه لا يوجد في الاسلام حتميات إجتماعية ، ومن الممكن تغيير الثوابت و الحتميات الاجتماعية بإصرار أبناء المجتمع ، ولكن من عادة الناس اتباع الحالة الاجتماعية ، إلا من عصمه الله ، و لذلك فهم مشتركون في الجزاء .
[ اليوم تجزون ما كنتم تعملون ]
لو قال ربنا : ( اليوم تجزون بما كنتم ) لاحتمل أن يكون الجزاء من غير جنس العمل ، ولكن حذف الباء يؤكد أن الجزاء هو ذات العمل الذي اجترحه الانسان .
[29] [ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ]
نطق الكتب قد يكون بسبب وضوح الأعمال ، وقد يكون النطق بالمعنى الظاهر للكلمة ، أي أن الكتـاب يفرز الصوت ، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا المعنى في قوله : " حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون * و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ... " (1) ففي يوم القيامة تجسيد حي لعمل الانسان ، فربما عرض عليه الصوت و الصورة لعمله ، و الفرق بين كتابة العمل في الدنيا عنه في الآخرة أنه في الدنيا تكتب ظاهر الأعمال ، بينما في الآخرة تثبتبخلفياتها ، و بكل مقاديرها و نسبها ، إذ تكتب صلاة الاثنين ، و لكن لكل صلاة خصوصياتها ، فصلاة هذا أكثر إخلاصا و خشوعا و تأن من الآخر ، وكذا في سائر الأعمال .
(1) فصلت / 20 - 21
[ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ]
و الاستنســاخ هو إعادة كتابة الأصل ، فالأصل عند الانسان ، و الكتبة من الملائكة يكتبون ما يعمل ، و يدل على ذلك قوله : " إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " (1) .
وهذا يقودنا الى أن الأعمال تنعكس على ظاهر الانسان في القيامة ، فقد جاء في القرآن عند بيان حالة المنافقين : " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم و لتعرفنهم في لحــن القول " (2) و يحفظ الله الأعمال أيضا على قلب الانسان على شكل نكت سود لانراها ، ولكن الله يعلمها ، وقد ينطقها يوم القيامة ، كما ينطق الله أعضاء الانسان ، و لعل هــذا أحد مصاديق الاستنساخ ، و العلم الحديث بدأ بمعرفة الحقائق عبر أعضاء الانسان ، عبر بصماته ، و عبر ضغط الدم في جهاز كشف الكذب ، و عبر تقاسيم الوجه ، و متى ما علم الانسان أن أعماله تصور له في الآخرة و تجسد فإنه قد يؤوب الى الله إذا كان غافلا ، لأن الكثير إنما يعملون السيئات وهم في غفلة عن الآخرة .
(1) الإسراء / 14
(2) محمد / 30
13 + 106
|