فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[30] يميز الله الناس يوم القيامة فريقين :

[ فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ]الرحمة في الدنيا بالنسبة للمؤمنين تختلف عنها في الآخرة ، ففي الدنيا قد يشوبها البلاء و الامتحان ، وفي الآخرة تأتيهم صافية من كل كدر ، ولعل هذا هو إيحاء كلمة " في رحمته " حيث تحيط بهم رحمة الله من كل صوب ، كما أن في قوله " ربهم " لمسة حنان و عطف ، و إشارة إلى رحمات الله في الدنيا .

[ ذلك هو الفوز المبين ]

الذي لا فوز فوقه ، فقد نجوا من عذاب شديد ، و ضمهم الرب في ضيافته ، و أدخلهم في بحار رحمته . أفيتصور القلب فوزا أعظم منه ؟ تعالوا نسمو الى حالة التطلع إلى هذا الفوز العظيم ، لعلنا ندركه بتوفيق الله .

[31] [ وأما الذين كفروا ]

فإنهم يدخلون النار ، و يطالبون بالاعتراف بجرمهم المتمثل في استكبارهم ذلك الذي أرداهم في جهنم .

[ أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم و كنتم قوما مجرمين ]في هذه الآية مصطلحات ثلاثة : الكفر و الاستكبار و الاجرام ، أما الاستكبار فهو منطلق الكفر ، بينما الجريمة عاقبته ، ذلــك لأن الانسان إذا استقبل آيات الله من دون حجب ، ومن دون مفاهيم و عقائد مسبقة ، فإن فطرته و عقله يقودانه الى تقبلها ، ولكن إذا مااستقبل الانسان آيات ربه عبر نظارة الاستكبار السوداء ، و رأى نفسهأكبر من الحق ، أو أن ذاته هي المحور وليس الحق ، فإنه لن يتقبلها ، ومتى ما جعل الانسان نفسه فوق الحق أو اعتبرها هي الحق ، فإنه سوف يتجاوز الآخرين و يظلمهم و يجرم بحقهم ، و نقرأ في الروايات ما يهدينا إلى ذلك :

1- عـن أبــي عبد الله (ص) قال : " الكبر ان تغمص الناس ، و تسفه الحق " (1) .

2- وعنه (ع) : " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أعظم الكبر غمص الخلق ، و سفه الحق " ، قال ( الراوي ) : قلت : و ما غمص الخلق ، و سفه الحـق ؟ قــال : " يجهـل الحق ، و يطعــن علـى أهلــه ، فمــن فعـل ذلك فقد نازع الله رداءه" (2) .

[32] و لكي نتخلص من الكفر و الاستكبار و الاجرام يجب أن نجعل الحق هو المحور ، و أن نتذكر بالآخرة ، و نخشى الجزاء فيها .

[ وإذا قيل إن وعد الله حق و الساعة لاريب فيها ]

لم ينكرون الآخرة على شدة وضوحها ، فالانسان يرى بفطرته أن الجزاء واقع ، كما يرى تحقيق ذلك في الدنيا ، فمن يظلم يبتليه الله ، بينما يحصل المحسن على جزاء حسن ، و لكنه يرى أن سنة الجزاء ليست دائمة في الدنيا ولا وافية مما يهديه الى يوم الجزاء الأوفى .


و حين يراجع قلبه يراه مقتنعا به ، إلا أنه يجحد به لاستكباره عنادا و عتوا ، و يتساءل : ما الساعة ؟ أيان مرساها ، وما أشراطها ، و كيف يبعث الله الرميم ، و كيف تتمثل الأعمال فيها تمثلا ؟


(1) بحار الأنوار / ج 73 - ص 217

(2) المصدر / ص 218


[ قلتم ما ندري ما الساعة ]

كذلك يجعلون جهلهم بالساعة ( كيف و متى ... ) عذرا لانكارها ، بينما العقل يدعوهم الى الايمان بالحقيقة إذا توافرت لديهم الشواهد ، ثم السعي لمعرفة المزيد من تفاصيلها . أرأيت لو تكاملت الحجة على وجود مدينة في أقصى الشرق ، ولكن لا تعرف عنها شيئا كثيرا ،فهل تنكر وجودها رأسا أم تعترف بها ثم تبحث عن التفاصيل ؟

و الواقع : إن كثيرا من الناس ينكرون حقائق الرسالة لأنهم لا يعرفون التفاصيل عنهــا ، بـل تراهم يعادونها بمجرد جهلهم بأبعادها ، و قد قال أمير المؤمنين - عليه السلام - : " الناس أعداء ما جهلوا " .

[ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ]

هكذا شككوا أنفسهم حتى زعموا أنهم لا يملكون إلا الظن دون اليقين ، ولكن هب أنهم يظنون أفلا تدعوهم عقولهم إلى أخذ الحيطة و الحذر ؟! فالظن ليس مبررا للجحود بالساعة . أوليس مجرد الظن بوجود أسد في الغابة كاف لأخذ الحيطة ؟ وكذا الظن بالساعة يجب أن يدفعناالى تجنب خطرها .

[33] [ و بدا لهم سيئات ما عملوا ]

و نتساءل : لماذا قال ربنا : " و بدا لهم سيئات ما عملوا " ، ولم يقل : ( و بدا لهم سيئات عملوها ) ؟

ربما لأنهم في الآخرة لا تبدو لهم الأعمال السيئة ، و لكن نتيجة عمل السيئات ، كالحيات و العقارب و الحميم و العذاب .


[ و حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ]

ففي الآخرة تنزل بهم نتيجة الاستهزاء ، و تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم ، وقد قال البعض أن كلمة " حاق " مشتقة من مادة الحق ، و يكون معناها آنئذ أن ذلك الذي سخروا منه - زعما بأن باستطاعتهم التهرب منه - قد نزل بهم ، و أصبح حقا واقعا لا مناصمن الاعتراف به .

[34] [ و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هذا ]لقد تغافلوا عن الآخرة و نعيمها حتى كأنهم نسوها ، و هناك يغفل عنهم حتى لكأنهم منسيون ، فلا يقدر لهم خير ، ولا يدفع عنهم ضر ، جزاءا وفاقا لتناسيهم الحق ، و إمعانا في إذلالهم عقابا على استكبارهم .

و بالطبع لا يعني نسيان الله جهله بهم ، كما لا يدل نسيانهم جهلهم بالآخرة ، قد ذكر في الرواية أنه جاء بعض الزنادقة الى أمير المؤمنين - عليه السلام - وقال : لولا ما في القرآن من الاختلاف و التناقض لدخلت في دينكم ، فقال له علي - عليه السلام - : وما هو؟ قال : قوله : " نسوا الله فنسيهم " و قوله : " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " و قوله : " وما كان ربك نسيا " ... الخ .

قال أمير المؤمنين - عليه السلام - : " فأما قوله تعالى : " نسوا الله فنسيهم " يعني إنما نسوا الله في دار الدنيا ، لم يعملوا بطاعته ، فنسيهم في الآخرة ، أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئا ، فصاروا منسيين من الخير ، و كذلك تفسير قوله عز وجل: " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه ، الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين ، حين آمنوا به و برسوله ، و خافوه بالغيب .


و أما قوله : " وما كان ربك نسيا " فأن ربنا تبارك و تعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ولا يغفل ، بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب : قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنه لا يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به " (1) .

[ ومأواكم النار و مالكم من ناصرين ]

و كثيرا ما يؤكد الله عدم النصرة في الآخرة ، لأنه لا ينجي من عذاب الله ناصر - إن وجد فعلا - فلا الطواغيت و الأخلاء ولا الثقافة الفاسدة و الأهواء تنصرنا من الله ، و تنجينا من عذابه ، وهذا غاية الضعف و المسكنة في الآخرة ، فالانسان يقف فريدا ، و أمامه النار ، ولا يجد من يذب عنه ، فتراه مستسلما .

[35] لماذا يحيق بهم العذاب ، و ينساهم الله ، ولا يجدون لهم نصيرا ؟

أولا :

[ ذلكم بإنكم اتخذتم آيات الله هزوا ]

ثانيا :

[ و غرتكم الحياة الدنيا ]

و تصورتم أنكم فيها ماكثون ، و كفرتم بآخرتكم .

[ فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون ]

إنهم لا يخرجون من النار لأنها حاقت بهم ، و صارت مأواهم ، ولا يعاتبهم الله لأنه لا داعي للعتاب ، مادام قد أدخلهم النار ، و العتاب نوع من الاكرام وهم(1) بحار الانوار / ج 93 , ص 98 - 99


لا يستحقونه ماداموا قد استهزؤوا بالحق .

[36] [ فلله الحمد رب السماوات و رب الأرض رب العالمين ]ربما لأن الله أراد أن ينهي سورة الجاثية التي كانت شديدة الوقع على النفوس بما فيهــا من آيات الانذار و العذاب بإعطاء الأمل ، فلله الحمد لأنه تعالى يفعل ما يستحق الحمد ، وله الحمد لأنه رب السموات و الأرض ، إذ بث فيهما آياته ، و جعلها هدى للمؤمنين ،و لأنه يمسك السموات و الارض أن تزولا ، وله الحمد رب العالمين لأنه خلقهم و رزقهم ، و فطرهم على الايمان ، وهو بهم رحيم .

[37] وكما أن له الحمد في السموات و الأرض فله السلطان و الملك .

[ و له الكبريآء في السموات و الأرض ]

فلماذا تتكبرون عن آياته ، مادام هو واسع الكبرياء ، و إن آيات كبريائه سبحانه تتجلى في كل شيء في السموات و الأرض .

[ وهو العزيز ]

فهو المقتدر القاهر على عباده ، يجري فيهم سننه ، و يمضي فيهم قدره ، شاؤوا أم أبوا ، و لكنه لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته البالغة .

[ الحكيم ]

فلا يظلم ولا يجور ، و يعطي كل ذي حق حقه ، سبحانه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس