الإطار العام لكي نبصر حقيقة الأشياء لابد أن نعرف الحقائق الكبرى التي هي غيب كل حقيقة وهي :
أولا : حقيقة الخلق ، و أن كل شيء قد أنشأ و قدر و دبر أمره من لدن عزيز حكيم .
ثانيا : حقيقة الواقعية ، و أن الأشياء حق لا وهم ولا خيال .
ثالثا : حقيقة الزمن و أن لكل شيء أجلا .
و لكن لماذا لا يفقه أكثر الناس هذه الحقائق الواضحة ، وحتى حين ينذرهم الله عبر الرسل تراهم يعرضون عنها ؟
لعل أهم قضية تعالج في القرآن هي هذه القضية ، لأنه من دون معالجتها لا يبلغ الإنسان علما و لا حكمة .
و السؤال : ماهي الحجب التي تغشى أبصار الخلق عن رؤية هذه الحقائق ؟
إنها عديدة ، و لعل السياق في سورة الأحقاف يعالجها مع التركيز على بعضها ، شأنها شأن سائر السور .
أولا : الشرك بدعوة غير الله ، و يتساءل السياق : ترى هل خلقوا ما يدعونهم شيئا من الأرض أم لهم مساهمة في إدارة السماوات ؟
كلا .. ثم أنهم لا يستجيبون لهم بشيء إلى يوم القيامة ، و يعادونهم يوم الحشر .
ثانيا : كيل التهم ( و الأحكام المسبقة و الباطلة ) على الرسالة و الرسل ، مما يحجبهم عن معرفة حقيقتهما ، فقالوا أنها سحر و أنه مفتر .
و كيف يكون مفتر و الله يحيط قدره بمن يفتري ، و يحيط بكل شيء علما ، وهو شهيد على صدق الرسالة ؟! وهذا الرسول ليس بدعا فلقد بعث الله أنبياء سابقين .
ثم أن الرسول متمحض في رسالته فما عليه إلا البلاغ ، ثم أن بعض علماء بني إسرائيل قد شهد بصدقه ، بينما استكبر الجاهلون .
وقد يكون الحسد و الضغينة و العصبية تجاه صاحب الدعوة سببا للكفر بها ، ولكن لماذا يحرم الإنسان نفسه من الحق لموقفه الشخصي ممن يدعوه إليه ، وأساسا : لماذا هذا الموقف الظالم الذي يصد الإنسان عن الهدى ، ذلك أن الله لا يهدي القوم الظالمين ؟
و كتاب موسى ( الذي يتعصب البعض له ، و يصدون عن النسخة الأكمل منه ) مــا نــزل لتأييد الظلم ، بل رحمة ، وهكذا القرآن ، فهو نذير للظالمين ، و بشرى للمحسنين .
و أصحاب الرسالة بحاجة الى الإستقامة لمواجهة تلك العقبات ، و آنئذ لا خوفعليهم ولا هم يحزنون .
و الموقف السليم من الجيل الماضي يساهم في توفير فرص الإيمان ، و يبين السياق وصية ربنا بالوالدين ، كما يبين التطلع المشروع عند الانسان في إنشاء ذرية صالحة .
و يعــد التائبيـن في سن الأربعين المسلمين لربهم غفران الذنوب ، و دخول الجنات .
أما المتمرد على والديه وهما يدعوانه للإيمان ، لأن وعد الله حق ، فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين فانــه مثل لمن أعاقته نزوة الشباب عن اتباع الحق الذي يدعو إليه آباؤه ( وهو بالتالي مثــل للظالم الذي منعه تمرده على أبيه عن اتباع الحق لمجرد أنه دعوة أبيه ) .
وبعد أن يبين القرآن ان درجات الناس على قدر أعمالهم ، يعرض لنا صورة أهل النار تستقبلهم جهنم بلظاها ، وهم يحاكمون هنالك لأنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ( و يبدو أن الإسراف في اللذات عقبة أخرى في طريق الإيمان ) ، و لعل الإسراف في الإستمتاع بالطيبات سببه الإستكبار في الأرض ، و عاقبته الفسق عن حدود الشريعة .
و أية عقبة كأداء كالإسترسال مع العادات البالية و التقاليد الباطلة ، كما فعلت عاد حيث أعرضوا عن أخيهم هود وهو ينذرهم بالأحقاف و يستعجلونه العذاب ، ولكن حين استقبلهم عارض في الأفق زعموا من فرط غفلتهم أنه عارض ممطرهم ، بينما كان ريحا تدمر كل شيء بأمرربها .
لماذا كفرت عاد ، هل لفقر و حاجة ، أم لنقص في وسائل المعرفة من السمعو الأبصار ؟ كلا .. إنما لجحود آيات الله و الإستهزاء بها ، فكانت عاقبتهم الدمار .
أفلا نعتبر بمصيرهم قبل أن نصبح عبرة لمن يتعظ من بعدنا ؟ أفلا نزور الأطلال التي بقيت من القرى الهالكة ، و ننتفع بالآيات التي صرفها الله لإيقاظنا من الغفلة ؟
إن هذه الآية التي يعتمد عليها الإنسان في كفره بربه ، و يزعم أنها مانعته من عذاب الله ، هلا منعت عن تلك القرى العذاب .
و ترى بعضهم يستعيذون بالجن ، و يزعمون أنهم يكفونهم العذاب ، بينما الجن كما الإنس أنذروا بالرسالة ، و لقـد صرف الله نفرا منهم فاستمعوا للقرآن فأصبحوا منذرين ، و دعوا قومهم للاستجابة للرسالة ، و بينوا لهم أن من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض .
و تبين الآيات الأخيرة من السورة قدرة الله على إحياء الموتى ، و أن الكفار يؤمنون بذلك حين يرون العذاب ، و أن على الرسول الصبر في دعوته دون أن يستعجل لهم ، لأنه مهما طال بهم العمر فان مكثهـم فــي الدنيا يشبه ساعة إذا قيس بالخلود في النــار .
|