فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


و الذين كفروا عما أنذروا معرضون
بينات من الآيات

[1] تبدأ هذه السورة المباركة بكلمة قصيرة ، مقطعة تشبه سائر المقطعات القرآنية التي مررنا بها في السور المتقدمة ، و سبق الحديث عن تفسيرها ، وهي :

[ حم ]

[2] [ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ]

سمـي الكتاب كتابا لأنه مكتوب مثبت ، و كذلك القرآن ، فهو مكتوب و دائم و ثابت ، و لهذا سمي باسم " الكتاب " ، و ثبات القرآن يختلف كثيرا عن سائر الكتب لأنه كما قال الرسول الأعظم (ص) : " فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " (1) .

و السؤال : لماذا لا يقاس القرآن بالكتب البشرية ؟ لماذا بينهما مسافة لا تحد ؟


(1) بحار الانوار / ج 95 - ص 19


و الجواب : لأنه نزل من الله ، و الله هو العزيز الحكيم ، فبعزته يفرض الكتاب على الانسان و الطبيعة فرضا ، و بحكمته يجعله كتاب هداية و بصيرة ، و مصدر توجيه للانسان الى الحق و إلى ما فيه صلاحه .

و فيما يلي من الآيات يحدثنا القرآن الحكيم عن تجليات اسمي العزة و الحكمة في الكون ، و عن الظواهر ذات الدلالة الواضحة على عزة الرب و حكمته ، و نحن لابد ان نفقه تلكم التجليات و هذه الظواهر ، لأن فهمنا للخليقة من حولنا لا يكون فهما عميقا إلا إذا كان فهما مترابطا متفاعلا ، فلابد أن نربط - مثلا - بين ارتفاع القمر و نزوله و بين المد و الجزر في البحر ، كما نربط بين طلوع الشمس و بين التفاعلات الكيماوية التي تحدثها في أوراق الأشجار ، فالكائنات حقائق مترابطة يتصل أدنى شيء منها بأقصاها ، و الكبير و الصغيرو القريب و البعيد في ذلك سواء ، كلهم متفاعلون مع بعضهم يجري ربنا عليهم حكما واحدا و نظاما مطردا ، ولا نستطيع أن نفهم القوانين الثابتة التي تجري في الخلق إلا بفهم ذلك التفاعل ، فالقانون الذي تتحرك على أساسه أكبر مجرات الفضاء هو نفس القانون الذي تتحركوفقه الكريات المتناهية في الصغر داخل الذرة المتواضعة ، ثم إن كل ذلك التواصل و التفاعل و الخضوع للسنن الواحدة يهدينا إلى الحقيقة العظمى الا وهي التوحيد : ان ربنا العزيز الحكيم هو الخالق لها جميعا ، وهو المدبر لها .

و يبدو أن منهج القرآن لانماء هذا الوعي الشمولي للكائنات الذي يشكل مستوى رفيعا من تكامل عقل الانسان يتمثل في ان القرآن يذكرنا باسم من اسماء الله الحسنى ، ثم يتدرج نازلا من ذلك الاسم الى مختلف الظواهر التي يتجلى فيها ذلك الاسم الكريم ، في عالم الطبيعة ( الآفاق ) و عالم الانسان ( الأنفس ) ، في حاضر الانسان أو ماضيه أو مستقبله ، لكي تتماوج بنور الله اشعة فكره صاعدة من بعض ظواهر الخلق الى اسماء الخالق ، و نازلة من اسماء الرب الى سائر الظواهر ،ومن ماضي البشرية الى حاضرها و إلى مستقبلها ، فتتسع آفاق معرفته ، و تغور في أعماق الغيب بصائر وعيه ، و يسمو في درجات اليقين عقله ، و تـزكــو بنور الايمان نفسه ، و يهديه الله الى نوره الأبهى ، قويا عزيزا كما أن ربه قوي عزيز ، و يصبح حكيما خبيرا كما أن ربه حكيم خبير ، كل ذلك بمعرفة أسماء الله الحسنى .

و ربما تدرج المنهج القرآني بصورة عكسية ، فيبين ظاهرة في آفاق العالم أو أغوار النفس أو أبعاد التاريخ ، ثم يذكر إسما من أسمائه الحسنى ، و نهايات الآيات القرآنية مثل : " و الله عليم حكيم ، و الله الغني الحميد ، و إن الله غفور رحيم ، ... " مفيدة جدا لو تدبرنا فيها ، لأن الرب يذكرنا بظاهرة ثم يربط بينها و بين إسم من أسمائه الحسنى ، فاذا وعيناه حق الوعي عرفنا تجلياته في سائر الظواهر أيضا .

و حيث ذكر السياق في الآية الثانية أن هذا الكتاب منزل من الله ، و الله هو العزيز الحكيم بين في الآية الثالثة بعض تجليات العزة و الحكمة ، فقال :

[ ما خلقنا السماوات و الأرض وما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى ]لقد خلقها على عظمتها الهائلة فهو إذا قوي عزيز ، و لأن بناءها كان قائما على أساس الحق فهو إذا حكيم .

و نستوحي من هذه الآية أن حكمة الله اقتضت محدودية الخليقة ، فلكل شيء فيها أجل معدود ، و حد محدود ، و هكذا يكون الزمان جزء من حقيقة الخليقة ، و ربما انفتحت أمامنا آفاق واسعة لو تدبرنا أكثر فأكثر فــي حرف الباء الذي يستخدم للاستعانة ، و تساءلنا : لماذا ذكره السياق فيما يتصل بالأجل كما ذكره عند الحديث عن الحق ، فهل يمكن أن نستنتج أن الحق و الأجل هما ركيزتا الخلق ، على أن يكون الحق هو المعبر عن النظام الحق الذي يسير الخليقة ، و الأجل هو الجانبالمـادي للخليقة ، ثم هل نستطيع أن نقول أن الحق تجل لاسم الحكمة ، و الأجـل لاسم العزة ؟ أنى كان فان الله يشير في مواقع عديدة من القرآن الى مثل ذلك ، فيقول - مثلا - في سورة الأعراف ( آية 54 ) : " إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره " ، و يقول في سورة فصلت ( آية 9 - 10 ) : " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين و تجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * و جعل فيها رواسي من فوقها و باركفيها و قدر فيها أقواتها في اربعة أيام سواء للسائلين " .

ولابد أن نعيش هذه الحقيقة فيما يتصل بموقفنا من الوقت الذي هو جزء من حقيقتنا ، وأن وعي الزمن ركيزة أساسية في حكمة البشر ، و سلامة عقله ، و تنامي حضارته .

لابد أن نعرف أننا - نحـن البشـر - كسائر الأشياء الأخرى ، يحدونا الليل و النهار ، و يتعقبنا الموت ، و إذا ينبغي علينا أن نخاف و نخشى ، ليس لأن حياتنا الدنيا ستنتهي و يقفل الموت أبوابها ، بل لأن النهاية ستلقي بنا و إلى الأبد في واحدة من اثنتين إما روضات النعيم و إما حفر الجحيم .

و لأهمية العلم بهذه الحقيقة كان الامام علي - عليه السلام - يذكر بها أبناءه و أنصاره في مواعظه البليغة ، فترى يذكر بها - مثلا - في وصيته لابنه الحسن - عليه السلام - حيث يقول في أولها :

" من الوالد الفان ، المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، و الظاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمل مالا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، و أسير الموت ، و حليف الهموم ، و قرين الأحزان ،و نصب الآفات ، و صريع الشهوات ، و خليفة الأموات " . ثم يشرع فيها (ع) و كان مما قاله خلالها : " و ذلله - قلبك - بذكر الموت ، و قــرره بالفناء ، .. ، و حذره صولة الدهر ، و فحش تقلب الليالي و الأيام " ، " و اعلم أن مالك الموت هو مالكالحياة ، و أن الخالق هو المميت ، و أن المفني هو المعيد " ، " و اعلم أن أمامك عقبة كؤودا ، المخف فيها أحسن حالا من المثقل ، و المبطئ عليها أقبح حالا من المسرع ، و أن مهبطك بها لا محالة اما على جنة أو على نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك ، و وطئ المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، ولا إلى الدنيا منصرف " ، " و اعلم يا بني أنك انما خلقت للآخرة لا للدنيا ، و للفناء لا للبقاء ، و للموت لا للحياة ، و أنك في قلعة ، و دار بلغة ، و طريق الى الآخرة ، و أنك طريد الموت ، الذي لا ينجو منه هاربه ، و لا يفوته طالبه ، ولابد أنه مدركه ، فكن منه على حذر أن يدركك و أنت على حال سيئة ، قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة ، فيحول بينك و بين ذلك ، فاذا أنت قد أهلكت نفسك " ، " يا بني أكثر من ذكر الموت ، و ذكر ما تهجم عليه ، و تفضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، و شددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك " ، " رويدا يسفر الظلام ، كأن قد وردت الأظعان ، يوشك من أسرع أن يلحق ! و اعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل و النهار ، فانه يسار به و إن كان واقفا ، و يقطع المسافةو إن كان مقيما وادعا " ، " و اعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك ، و لن تعدو أجلك " (1)هكذا أشبع (ع) وصيته بتلك الحقيقة ، ولو نظرنا في خطبه و رسائله و حكمه في نهج البلاغة لرأينا أن أغلبها يركز على تلك الحقيقة و تحوم حولها .

و هكذا القرآن الحكيم يذكر البشر بالموت و النشور و الحساب و الجزاء ، و أن الانسان محدود ، و أنه إذا جاءه أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم ، ولكن أكثر(1) نهج البلاغة / رسالة 31


الناس لا يعقلون هذه الحقيقة ، سادرين في الغفلة حتى ينتهي أجلهم ، و يفاجئهم الموت .

[ و الذين كفروا عما انذروا معرضون ]

و العلاقة متينة بين خاتمة الآية و فاتحتها ، حيث ان الذين كفروا يعلمون أن الله لم يخلق السماوات و الأرض وما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى ، ثم تترى عليهم نذر ربهم فيعرضون عنها .

[4] وقد يتهرب الانسان من هذه الحقيقة بالشرك الذي هو حجاب بين الانسان و بيــن فهم الحقائق ، فيزعم بأن شيئا ما يستطيع إنقاذه من قبضة الموت أو الحساب من بعــده .

قال الامام علي (ع) : " ما رأيت إيمانا مع يقين أشبه منه بشك على هذا الانسان ، إنه كل يوم يودع الى القبور و يشيع ، و إلى غرور الدنيا يرجع ، و عن الشهوة و الذنوب لا يقلع " (1) .

و قال الامام الصادق (ع) : " لم يخلق الله عز وجل يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت " (2) .

إن الناس كلهم يموتون ، و هذه حقيقة لا شك فيها ، و لكن أغلبهم يتصورون في خبيئة أنفسهم أنهم يبقون و يخلدون في الدنيا ، و لعل سبب ذلك هو فضاعة تصور الموت وما وراءه من حساب دقيق و جزاء أوفى ، ولذلك تراهم يتشبثون بأي تبرير ليقنعوا أنفسهم بأنهم لا يموتون أو لا يحاسبون ، وهنا تنعقد نطفة الشرك و التوسل بغير(1) بحار الانوار / ج 6 - ص 137

(2) المصدر / ص 127


الله ابتغاء إنقاذهم من مصيرهم المحتوم ، فقد يتصورون المال منقذا لهم من الموت ، فتراهم يجمعون البلايين من الدولارات ، و يحرصون في الحصول على الأكثر ، بالرغم من أن تلك الأموال الهائلة تكفيهم و تكفي ذرياتهم الى عشرات الأجيال ، و لكنهم لا يريدون المال للعيش به ، و إنما لسد النقص الذي يشعرون به في أنفسهم ، إنهم فعلا يفتشون عن الخلود ، و يخافون العاقبة المرة ، يقول تعالى موضحا هذه الحقيقة : " الذي جمع مالا و عدده * يحسب أن ماله أخلده " (1) ، " و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون " (2) ، و قد يتصورون السلطة سببا للفرار من الموت ، و وسيلة للهروب من الفناء ، قال تعالى عن فرعون : " و استكبر هو و جنوده في الأرض بغير الحق و ظنوا أنهم إلينا لا يرجعون " (3) ، و قد يتصورون أن القوة المحدودة التي يملكونها تحجز عنهم أمر الله فيهم بالموتأو الحساب أو العذاب ، قال تعالى : " و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله " (4) .

ولكن كل تلك التصورات زائفة ، و لهذا يقول الرب : " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " (5) ، و يقول عز وجل : " و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " (6) ، فأنت كنت تخاف من سكرة الموت ، و حتى تخلص نفسك منها ولو عبر عملية الخداع الذاتي أشركت بالله ماليس لك به علم ، و الآن هل يمكن أن يغني عنك ذلك الشريك شيئا ؟ كلا .. فهي قد جاءتك ، و ستذوق مرارة الموت ، و تتحسس عنفه و فظاعة نزعاته .


(1) الهمزة / 2 - 3

(2) الشعراء / 129

(3) القصص / 39

(4) الحشر / 2

(5) النساء / 78

(6) ق / 19


وفي الحقيقة : لو يتفكر الانسان و يعمق في واقع أمر الشركاء يعلم بفطرته أنهم لا يغنون عنه شيئا ، و لكنه يشبه ذلك الغريق الذي يتشبث بكل حشيش ، مع علمه بعدم جدوائيتها ، و إنما يريد أن يقنع نفسه بأنه يعمل على إنقاذها .

كلا .. إن فطرة الانسان تهديه الى أن الشريك الذي يتخذه من أجل إنقاذ نفسه لابد أن يكون ذا قوة كافية ، لابد أن يخلق شيئا في الأرض ( حتى يتساوى مع خالق الكائنات و لو بقدر محدود ) أو يمتلك سلطة ما في إدارة السماوات .

[ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات ]وهم يعرفون - حقا - أن شركاءهم ليسوا كذلك ، ولا لهم علاقة بالله يوظفونها لمصلحة المشركين إذا فأين حجتهم في ذلك ؟

[ ائتوني بكتاب من قبل هذا ]

فأي كتاب من الكتب السماوية دل على أن لله شريكا ؟

[ أو أثارة من علم ]

و أي بقية من بقايا العلم ، دلت على أن له شريكا ؟

[ إن كنتم صادقين ]

إذا كان بإمكانكم أن تأتوا ببرهان فأتوا به ، من كتاب يتلى أو حديث يروى ؟

ولكن من لا برهان له يتشبث بأفكار باطلة ، مع علمه بكذبها ، و إنما لكي يخلص نفسه من مواجهة الحقيقة المرة ، وهذه ضلالة خطيرة ، فهو كمن يفقد عزيزاو يصعب عليه امتصاص صدمة فقده فيبادر قائلا : كلا .. إنه غير ميت .

[5] [ و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ]هكذا هم الشركاء . إنهم لو دعاهم الانسان إلى يوم القيامة لما استجابوا له ، بل هم غافلون عن دعائه يشغلهم شأنهم الخاص عن شؤون الداعين ، و سواءا كان الشركاء الحجرية ، أو الاموات ممن يزعم الشركاء المشركون انهم شفعائهم يوم القيامة ، أو الأصنام البشرية التي تعبد من دون الله ، فان لكل واحد منهم سببا لغفلته عمن يدعونهم ، أما الاحجار فانها لا تعي شيئا ، و أما الأموات فهم عند ربهم مجزيون بأعمالهم ، و أما سلاطين الجور و المترفون و أشياعهم فهم لاهون بمصالحهم عن مصالح من يشرك بهم .

[6] [ و إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ]و يوم القيامة يكفر المشركون بشركائهم ، و يعادونهم ، و يقولون لهم : أنتم الذين ضيعتمونا ، و أدخلتمونا النار ، وقد قال ربنا سبحانه في آية كريمة يصور لنا العلاقة بين الطرفين يوم القيامة : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب * و قال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا " (1) .

[7] و أما الرسالة ، فكيف كانوا يتعاملون معها ؟


(1) البقرة / 166 - 167


و الجواب : إنهم من أجل رفض الأفكار القرآنية السليمة كانوا يلفقون تهما و يلصقونها بها .

[ و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ]

إنها واضحة بينة ، حتى لتكاد تكرههم بقبولها ، و لكنهم يصدون عنها بقوة ، و يمنعون عن أنفسهم نورها باصرار ، كالذي يهرب من الغيث أن يصيبه رذاذه أو الشمس أن تحوطه أشعته .

[ قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ]

حينما يأتيهم الحق يقولون بكل وقاحة : إنه سحر مبين . لماذا ؟ لأنه يهيمن عليهم ، ولا يدعهم يواجهونه بدليل و برهان .

إنهم يقولون : هو سحر ، فيقال لهم : ماهو دليلكم على بطلانه ؟ فيقولون : ليس عندنا دليل ، و لكنه سحر !

هكذا يعادي الانسان الحق ، حتى أنه يتهم نفسه بفقدان الارادة و الوعي و يقول : أنا أصبحت مسحورا ، كل ذلك ليخلص نفسه من مسؤولية الايمان بالرسالة .

[8] و البعض الآخر يقول : إنه إفتراء على الله ، و إذا كان قولهم أنه سحر دل بوضوح على مدى تأثير الرسالة عليهم و أخذها بمجامع قلوبهم ، و سد الطريق أمام تخرصاتهم ، حتى أنهم اعترفوا بقدرتها و بعجزهم عن مقاومتها ، فان كلمتهم التي زعموا بها أن الرسالة افتراء دلت على أن الرسول لم يكن يدعو الناس إلى نفسه بل إلى ربه ، مما دعاهم الى اتهامه بأنه مفتر .


[ أم يقولون افتراه ]

ولكن الرسول (ص) هو أول من كان يعلم بوخامة الافتراء ، و أنه لو افترى حديثا على الله فسوف يعذبه عذابا شديدا ، و كان يعترف بذلك عبر ذكر آيات القرآن .. فكيف يدين نفسه بنفسه ؟! كيف يفتري على الله الكذب ، ثم يقول : إن جزاء الذين يفترون على الله الكذب أنهم لا يفلحون ، و لهم عذاب شديد ؟!

[ قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ]

فالرسول (ص) يعلم يقينا بأن الله محيط به علما ، و إنما يفتري على الله الكذب من لا يؤمن به ، ومن لا يعلم بأنه يحيط به علما ، و يعلم ما يدور بينه و بين الآخرين من حديث ، علنا أو سرأ .

[ هو أعلم بما تفيضون فيه ]

من تخرصات أو تهم حول الرسالة ، و هو يحاسبكم عليها جميعا .

[ كفى به شهيدا بيني و بينكم ]

و يبدو أن هاتين البصيرتين ( علم الله بما يسترسلون فيه من كلام ، و شهادته عليه ) هما العلاج النفسي و الحجة البالغة عليهم . أوليس كل واحد منهم يؤمن في قرارة نفسه بكذبه ، و لكنه غافل عن أبعاد جريمة نكرانه للحق ، فيذكرهم القرآن بالله الذي يحيط علما بما يقولون ، و يشهد عليهم شهادة تتمثل بنصره للحق و خذلانه للباطل و أهله .

[ وهو الغفور الرحيم ]

ماهي العلاقة بين المقطعين : " كفى به شهيدا بيني و بينكم " و " و هو الغفورالرحيم " ؟

ربما العلاقة هي أن الله شهيد على الانسان ، يعلم انحرافه و ضلاله ، ولا يرضى عنه و يبغضه ، ولكن لانه غفور رحيم فهو يمهله لفترة معينة .

إذا لا تقل أيها الانسان : أنا سأكفر بالله و ليأخذني إن كان يحب رسالته ، لأنه غفور رحيم ، يتركك تعصي لمدة معينة رحمة بك ، و إذا لم ترعو ولم تراجع نفسك ولم تعد الى الحقيقة فانه يأخذك أخذ عزيز مقتدر .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس