بينات من الآيات [15] بما تتميز الوصية عن الحكم ؟ و لماذا نجد في القرآن التعبير بالوصية حينا و بالحكم حينا ؟ لعل الوصية تتصـــل بالقيم التي هي محتوى الأحكام ، بينما يعبر عن النظام ، و الذي هو منهج تطبيق القيم ، فاذا كان التعبير بالحكم فلابد من الالتزام بحدوده و حروفه و تفاصيله بدقة و صرامة ، بينما اذا جاء التعبير بالوصية فلابد من الالتزام بالقيم بأية طريقة ممكنة ، و بالمنهج الذي يراه العرف مناسبا .
و حين يأمــر ربنا بالعدل فان التعبير يأتي بصيغة الأمر : " إعدلوا هو أقرب للتقوى " ، ذلك لأن العدالة قيمة تتحقق بالأحكام المفصلة ، و النظام الشامل ، أما إذا كان الحديث عن الإحسان فانه يأتي بصيغة الوصية ، لأن الإحسان يتحدد بالعرف و حسب ظروف كل شخص و منهجه .
[ و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا ]
لابــد أن يهتم الانسان - أي انســان - بوالديه أنى كانا إهتماما يبلغ درجة الاحسان ، و هي فوق إداء حقوقهم القانونية .
و يختلف الأمر بالإحسان عن الأمر بالطاعة اختلافا كبيرا ، ذلك أن الإحسان ينبعث من اليد العليا ، بدافع الاحساس بالاستقلال و القدرة ، و صاحبه يقدر متى و كيف و بأي قدر يمارسه ، بينما الطاعة حالة التسليم و الخضوع و فقدان الاستقلال و حسب الأمر الموجه إليه دون أن يكون لصاحبه الحق في تقدير أي أمر منه .
و لم يأمر الاسلام بطاعة الوالدين بل بالإحسان إليهما ، لأن الطاعة لله و للرسولو لأولي الأمر ، ولا يستطيع الوالدان أن يحرما حلالا أو يحللا حراما ، بل أمر بالإحسان إليهما ، وقد يتجلى الإحسان في قبول أمرهما فيما لا يخالف الشرع و العقل ، و يكون فيه فائدة عائدة إليهما .
و الدليل الذي يبينه السياق للوصية بالاحسان إلى الوالدين يعم المؤمنين و الكافرين ، البرين و الفاجرين ، حيث يعزي السياق ذلك إلى الجهود الكبيرة التي بذلاها في سبيل تنشئة الولد .
[ حملته أمه كرها ]
فمنذ الساعات الأولى من الحمل يمتص الجنين طاقات الأم مما يعرضها للارهاق و الأخطار ، و كلما تقدم بها الحمل كلما زادت الصعوبات الجسدية ، كما تزيد عندها المخاوف و الهموم .
[ و وضعته كرها ]
و قد تكون الولادة عسرة مما تجعل الأم تقول : يا ليتني مت قبل هذا اليوم و كنت نسيا منسيا .
ثم أن ذلك لا يتم عبر فترة بسيطة ، بل يمتد أشهرا عديدة ، مما يجعل دين الأم عظيما في ذمة الولد .
[ و حمله و فصاله ثلاثون شهرا ]
فخلال تسعمائة يوم تقريبا تنشغل الأم بوليدها . أفلا ينبغي للولد بعد أن يشتد عوده و تخور طاقات أمه أن يحسن إليها ؟
بلى . وهذا من ديدن الرجل الصالح الذي قد تستمر رعاية الوالدين إليه حتىيبلغ أشده ، بل و يبلغ أربعين سنة و تكتمل رجولته .
[ حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي ]و متى يبلغ الانسان أشده ، هل عندما يصل الى سن البلوغ الشرعي الذي هو عند الفتى كمال سن الخمسة عشر أو الاحتلام ، و عند الفتاة كمال التاسعة من عمرها ، أم عندما يبلغ سن الرشد الذي قيل أنه بلوغ الثامنة عشر ؟
قال البعض : إن الانسان لا يبلغ أشده إلا عند سن الأربعين ، بيد أن الأقرب الى ظاهر الآية هو بيان نوعين من البلوغ : الأول : البلوغ الأولي الذي يجعل الفرد مستعدا لدخول الحياة ، الثاني : البلوغ الأتم الذي يحدث عند سن الأربعين حيث يكتمل نمو خلايا المخ ،و تتراكم تجارب الحياة ، و يكون الانسان في قمة عمره حيث ينحدر من بعدها شيئا فشيئا الى نهايته ، و من هنا جاء في الحديث أن الشيطان يمسح يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، و يقول : بأبي وجه لا يفلح .
و يؤيد ذلك أن الانسان يمثل في العقد الأربعين من عمره دور الولد الذي أكمل الوالدان دورهما في نموه و تطوره ، كما يمثل الوالد الذي ذاق - بدوره - الصعوبات التي تحملها والداه في أمره فعرف قدرهما ، و وعي قدر النعم التي أسبغها الله عليه . فطفق يشكر اللهشكرا جزيلا ، و لكنه كلما ازداد وعيا بالحياة و مشاكلها كلما عرف عجزه عن إداء شكر الله فأخذ يدعو الله أن يوفقه لشكرهما بفضله ، لأن منبعث الشكر الرؤية الايجابية الى الحياة ، وهي تطلق قدرات الانسان من عقال اليأس و التشاؤم و السلبية ، و تزرع في قلبه حب السعي ، و روح النشاط ، و همة التقدم ، و التطلع إلى الأهداف السامية .
[ و أن أعمل صالحا ترضاه ]
و نستوحي من الآية مقياسين لصلاح العمل : المقياس الذاتي الذي يتمثل في فائدة العمل و صحته بحكم العقل و العرف ، و المقياس الشرعي الذي يتمثل في مرضاة الله التي نعرفها بالقيم الدينية .. و المؤمن يتطلع لتحقيق العمل الصالح في ذاته الذي يقربه شرعا الى الله ، وهو بالطبع ليس كل عمل صالح ، بل الذي يقع ضمن استراتيجية الرسالة ، فمثلا : تعبيد الطرق عمل صالح ، إلا أنه قد لا يكون مرضيا عند الله ، كما لو ابتغى الفرد منه علوا في الأرض أو فسادا ، كذلك حين يكون هذا الفعل الصالح معارضا لعمل أولي كالدفاع عن الوطنأو مقاومة الطاغية .
وهكذا يدعو الانسان السوي ربه التوفيق للقيام بعمل صالح مرضي عنده وليس كل عمل صالح ، كما يدعو إلى أن يكون امتداده في الحياة و ذريته من الصالحين . لقد سهر الآباء لتربية هذا الجيل على الفضيلة و التقوى ، و أنفقوا في سبيل إنشاء المدارس و المعاهد ، و توفير الثقافة الحكيمة ، و بناء الجوامع و مراكز التوعية و التوجيه ، وقد أثمرت جهودهم في بناء هذا الجيل الصالح . أفلا نسعى نحن في سبيل بناء الجيل الصاعد على ذات الأسس الصالحة ؟ بلى . إن ذلك هو الشكر العملي على نعمة الصلاح التي أسبغها علينا الرب .
[ و أصلح لي في ذريتي ]
إن صلاح الذرية يكرس مكاسب هذا الجيل الحضارية ، و يبقى لهم الذكر الحسن ، ويكون بمثابة صدقة جارية تغدق عليهم الثواب وهم مستريحون في أجداثهم ، و لعله لهذه الأسباب جاء التعبير القرآني " لي " ، بلى . إن فائدة صلاح الذرية لي قبل غيري .
[ إني تبت إليك ]
فخلال رحلة العمر ذات الأربعين ربيعا أزاغته الذنوب عن صـراط ربه العزيز الحميد ، و قد ذهبت الآن شرة السهو عنه ، كما تلاشت لذات الشهوات ، و أزالت طوارق الزمن سكرة الشباب ، و اكتمل عقله ، و عرف أن طريق الفلاح ينحصر في التوبة إلى الله عز وجل .
لقد قرأت أخيرا في مجلة غربية واسعة الانتشار مقالا يدعو من بلغ الأربعين ألا يحاول تغيير عاداته ، و يبدو أن الكاتب كان يعتمد في ذلك على أن الانسان في مثل هذا الوقت لا يملك إرادة التغيير ، و هذا ينسجم مع النظرة المادية الى الانسان ، و تلخيص دوافعه فيالشهوات الدنيوية التي تتراجع عند سن الأربعين و يتلاشى بعضها مما لا يجد دافعا نحو التغيير ، بينما البصيرة القرآنية تدعونا إلى التوبة عند سن الأربعين ، حيث يكتمل العقل ، و تلتهب جذوة الضمير ، و تتهيأ فرصة الاصلاح ، و تتنامى دواعي الخير و بواعث الفضيلةفيه .
وهكذا يكون عقد الأربعين أفضل مناسبة للثورة الذاتية ، بالتوبة الى الله ، و التسليم للشريعة التي تخاطب العقل ، و تذكي دواعي السعي للآخرة التي يكون صاحب الأربعين أقرب إليها من غيره .
[ و إني من المسلمين ]
فاذا دعتني سكرة الشباب الى التمرد ردحا من الزمن فها أنا ذا اليوم أعترف بالذنب ، و أخضع لك يا رب خضوعا تاما ، و أفتش في صفحات تاريخي ، فاذا وجدت فاحشة هنا و خطيئة هناك ، و ظلما للناس ، و غصبا للحقوق ، و انحرافا في العقيدة و زيفا في الثقافة ، و عادات سيئة و ما أشبه ، فاني اسعى لتغييرها و التخلص من وزرها و تبعاتها بتوفيقك . أوليس كل ذنب و زيغ و انحراف يخلفأثره في قلب الانسان ، دعنا إذا نتخلص منه بالتوبة ، لنطهر القلب من أدرانه ، و السلوك من سيئات العادات ، و نترك جانبا الاستخفاف بالقيم ، و التهاون بالواجبات و السهو عن الصلاة و الزكاة و .. و ..
[16] و بالرغم من ابتعاد هذا الفريق من الناس حينا عن الصراط السوي فان توبتهم مقبولة ، و يتقبل الله حسناتهم ، و يتجاوز عن سيئاتهم ، و يدخلهم الجنة مع الصالحين من عباده .
[ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ]
و إنما يتقبل الله من المتقين ، و قد يتقبل من غيرهم بعد توبتهم حيث يعتبرهم كالذين لم يذنبوا أبدا وهم المتقون من عباده .
وقال المفسرون : إن المراد من أحسن الأعمال الواجبات و المندوبات ، بينما المباحات لا ثواب عليها بالرغم من حسنها .
وقد يقال : إن لقبول الحسنات أيضا شروطا لا تتوافر فيها جميعا فلا يتقبل الله منها إلا الأحسن ، مما يبعث الانسان الى السعي لتحقيق كل شروط العمل الصالح . مثلا لا يقبل الله من الصلاة إلا ما التفت العبد فيها إليه ، فلنقم الصلاة بحيث يتقبلها الله جميعا لا جزء منها هو الأحسن .
[ و نتجاوز عن سيئاتهم ]
أوليسوا قد تابوا إلى الله منها توبة نصوحا ، و الله سبحانه هو التواب الرحيم ؟
[ في أصحاب الجنة ]
أولئك الصالحين الذين أخلصوا لله حياتهم ، و أية كرامة أعظم لأمثالنا أنيدخلنا الله في الصالحين من عباده و نحن ممن خلط عملا صالحا و آخر سيئا ؟!
[ وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ]
[17] و يضرب القرآن مثلا من واقع الصراع بين الأجيال ، حيث يتمرد الجيل الصاعد على قيم الحق و تقاليد الصلاح عند الجيل السائد ، لنعتبر به ألا نهلك بأتباعه .
[ و الذي قال لوالديه أف لكما ]
بينما الدين أوصانا بالإحسان إليهما نجد هذا الفاسق يضجر من والديه اللذين هما أصل وجوده وكل خير فيه ، و يقول لهما : أف لكما .
و كلما يحذره الوالدان من مغبة الإيغال في الخطيئة ينهرهما ، و يكفر بالجزاء قائلا :
[ أتعدانني أن أخرج ]
بعد الموت للحساب ، كلا .. إنه وعد مكذوب ، ثم يستشهد بما درج عليه الجاحدون للجزاء : بأن القرون المتطاولة قد مضت ، و لما يخرج منهم أحد . أرأيت ميتا أحياه الله بعد أن أقبر و أوقفه للجزاء ؟! كذلك لا أخرج أنا .
[ وقد خلت القرون من قبلي ]
أفلا يعلم أن الحياة الآخرة تأتي بعد انقضاء الحياة الأولى ، و يومئذ يبعث الله الأولين و الآخرين معا ، و يحقق وعده الحق ؟
وهكذا يتمرد الفاسق على تربية الوالدين وهما يبذلان كل جهد ممكن لاقناعهبالحق ، فاذا شعرا بالفشل استغاثا بالله أن يعينهما في إصلاح ابنهما الضال .
[ و هما يستغيثان الله ]
و التربية الحق هي التي تزرع في قلب الولد خشية الله ، إذ ما قيمة السعادة في الدنيا إذا أعقبها الشقاء الأبدي ؟!
[ ويلك ءامن إن وعد الله حق ]
و نستلهم من هذه الآية المنهج السليم لتربية الطفل الذي كان يتبعه الوالدان المؤمنان ، و الذي أنشا الله به ذلك الجيل الصالح الذي احترم الجيل الماضي بالاحسان إليه و الاستغفار له ، كما عمل في سبيل إنشاء جيل صالح بالدعاء و العمل . وهذا المنهج قائم على أساس توسيع رؤية الطفــل ليــرى الحياة الأخرى فيوازن بينها و بين الدنيا في قراراته ، فيسعى لهما سعيا عادلا ، ولا يترك إحداهما للأخرى ، لأنهما في الواقع حياة واحدة ممتدة من اليوم حتى يوم الجزاء .
بيد أن بعض الآباء يخفقون في هذا السبيل ، و عليهم ألا يقلقوا فقد أدوا مسؤوليتهم ، وما جعل الله لهما سلطانا يكرهان به ولدهما على اتباع الحق . كيف وقد خاطب الله رسوله الكريم : " لست عليهم بمسيطر " ، و قال : " لا إكراه في الدين قد تبينالرشد من الغي " .
وقد خلق الله الناس أحرارا يبتليهم ، و لعلنا نستفيد من هذه الآية أن مسؤولية الدعاة و حملة الرسالة تقتصر على البلاغ ، و حتى لو كانت لديهم قوة رادعة فلا يستحسن التوسل بها لاكراه الناس على اتباع الرشد ، فبالرغم من أن للوالدين السيطرة الطبيعية على الولد إلا أنهما حين يقومان بدور الداعية يستفرغان الجهد في إقناعه بالحجة ، وليس باكراهه ، و عادة ينجحان ، أما إذا فشلا فذلك أمر يعود الىوجود حرية القـرار عند الولد الذي قد يتمرد على الحق بحجة أنه تقاليد بالية و أفكار رجعية .
[ فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ]
و يبدو من هذه الكلمة أنه متمرد على الماضي ، و يتهمه بانه يمثل الخرافة و الدجل ، و هذا شأن صراع الأجيال الذي يحرم الجيل الصاعد من ثقافة الجيل السائد و تجاربه و عبره و عظاته ، و يقضي على التواصل الحضاري الذي هو عنوان تقدم الأمم .
وقد كان لهذا النفس المشؤوم آثاره السيئة علينـا نحن المسلمين في العصر الحديث ، حيث لم يميز الشباب بين السمين و الغث من تجارب آبائهم فرفضوها ، و سعوا نحو تقليد الأجانب ، فكانوا كالغراب الذي حاول تقليد الطاووس في مشيته فلم يفلح فضيع المشيتين !
إن من لا يملك إصالة لا يستطيع الانتفاع بتجارب الآخرين ، لأنه لا يملك مقياسا سليما يميز به ما ينفعه من تجاربهم وما يضره ، فيكون كمن يبني على الرمال سرعان ما ينهار بناؤه .
وقد دلت تجارب التاريخ على أن الأمم ذات الإصالة هي الأقدر على احتواء تجارب غيرها من الأمم المتمردة على تاريخها و مكاسب حضارتها .
و نحن اليوم بانتظار ذلك الجيل المؤمن الذي يعيش بثلاثة أبعاد : متفاعلا مع حاضره ، مستفيدا من ماضيه ، متطلعا لمستقبله .
[18] الدين و الكفر قديمان عند البشر ، فكما كان منذ القدم رجال صالحون ملتزمون بالدين كان آخرون يكفرون به ، فاذا كان كل قديم رجعية فان الكفر هوالآخر قديم ! وهذه الأفكار التي يروجها الجاهليون باسم التقدمية موغلة في الرجعية ، إذ أنها تدعو الى حالة البدائية حيث لم يكن لدى أهلها التزام بالقيم و العادات الصالحة ، وهذا الذي يكفر بالبعث و يدعي أنه من أساطير الأولين سوف يحشر مـع أولئك الكفار من الأولين ، حتى يتبين له أن الكفر - وليس الدين - هو من أساطير الأولين .
[ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس ]و كيف حق القول عليهم ؟
لقد كفروا فطبع الله على قلوبهم ، و سلبهم توفيق الايمان ، فظلوا كافرين حتى أدخلهم الله النار في الأمم الغابرة .
[ إنهم كانوا خاسرين ]
و علينا أن نعتبر بمصيرهم فلا نبادر إلى الكفر فيغلق الله علينا باب التوبة إلى الأبد ، و لا يقولن الواحد : أكفر الآن فاذا أردت الايمان فالطريق مفتوح أمامي . كلا .. إن فرصة الايمان محدودة ، وقد تسلب منك حتى الأبد .
وفي هذا درس للداعية ألا يهلك نفسه اسفا على بعض الناس إن لم يؤمنوا ، فلعلهم ممن طبع الله على قلبه فلا يستطيع الايمان أبدا .
[19] ولكي لا يزعم الانسان أن تقسيم الناس على الجنة و النار اعتباطي ، يزيدنا السياق هدى بأن أعمال الناس هي التي تسوق أصحابها الى المصير النهائي إما الجنة أو النار ، و تأكيدا على ذلك أن للجنة درجات كما للنار دركات ، و منازل أهل الجنة أو أهل النار تحدد بأعمالهم ايضا ، حتى لا يدع للشك مجالا في أنهم لايظلمون ، بل هم يجزون بما كانوا يعملون .
[ و لكل درجات مما عملوا ]
يبدو أن المراد من " و لكل " أهل الجنة و أصحاب النار لكل درجته و منزلته حسب عمله .
[ و ليوفيهم أعمالهم ]
أي ليجزيهم أعمالهم جزاءا تاما وافيا .
[ وهم لا يظلمون ]
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا هنا ، يره هناك بدرجاته المتعالية في الجنة ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا هنا ، يره هناك بعذاب دركات النار .
[20] ولا يدع كتاب ربنا الحكيم الانسان في غمة من أمره بل يكشف له أسباب الكفر فيبين له علاجها ، لكي لا تكون للناس حجة بعد البيان ، ذلك أن النار شيء عظيم ، فكيف يلقي رب الرحمة عبده العاصي فيها دون أن يتم عليه الحجة كاملة .
[ و يوم يعرض الذين كفروا على النار ]
هنالك حيث تستعد النار لاستقبال أفواج الكفار و العصاة بألسنة اللهب المتصاعدة و الشهقات الواسعة التي تبتلع الملايين ، هنالك إذ تتوضح الحقائق ، فلا غفلة ، ولا استرسال ولا تبرير ، ولا إهمال ، هنالك تقال لهم كلمة الحق التي لو عرفوها في الدنيا إذا ما أهملوا ، ولا تشبثوا بالأعذار التي لا تغني شيئا .
[ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ]فهذا هو السبب المباشر للمأساة . الوقت و الطاقة و الفراغ و سائر النعم هي ذخيــرة الانسـان ليوم الحساب ، فمن بذرها للمتعة العاجلة في الدنيا فماذا يبقى له ليوم فاقتــه ؟
إنما السعيد من قدم شيئا مما عنده لحياته الخالدة ، و قسم وقته و طاقاته بين السعي للدنيا و العمل للآخرة ، ولم يكن همه التمتع بكل ما يملك في دنياه فيكون مثله كذلك الشاب الذي أبلى شبابه في اللذات فاذا تقدم به العمر إلى خريف الحياة لم يجد إلا الحرمان والألم و الحسرات .
و لكن ما الذي يدعو الانسان إلى التبذير بالطيبات في الدنيا ، هل الحاجة الضرورية ؟ كلا .. ذلك أن حاجات الانسان محدودة ، و يمكن له توفيرها ببعض قدراته . إنه يوفر لقمة عيشه و سكناه و امتعته بأيسر الجهد ، إنما لهث البشر يكون عادة وراء الكماليات . إنه يختار ألذ الطعام ، و أرفه المساكن ، و أرقى المتاع ، حتى ولو كان على حساب آخرته ، فيظلم الناس بالسرقة و الغش ، و قد يصبح أداة للطغاة من أجل الحصول على الكماليات ، ولأن الكماليات بدورها درجات ولا يمكنه أن يبلغ مداها فانك تراه دائب اللهث وراءها ، فاذا بنى قصرا و وجد قصر صاحبه أفخم عقد العزم على بناء ماهو أعظم من بناء صاحبه ، و إذا اقتنى سيارة و علم أن أخرى خيرا منها دخل السوق سعيا نحو شرائها بكل وسيلة ممكنة ، وهكذا ..
وهنا نتساءل : ماهو جذر التنافس على الكماليات بهذه الشدة ، مع أن بعضها لا يمس شهوات الانسان من قريب ؟!
الجواب : إنه الاستكبار . حيث يبحث الانسان أبدا عن التعالي على أقرانه بحق أو بباطل ، وإذا نزع الانسان رداء الكبرياء ، و تسربل بالخشوع و القنوع ، فانه يقتلع جذر الانحراف من نفسه ، هناك يكتفي بالضرورات وما يتيسر له من زينة الدنيا ،فيقسم طاقاته بعدالة بين حياته هنا و حياته الأبدية هناك . أما إذا استكبر فانه يشتري هوان العذاب في الآخرة ، و يقال لمثله :
[ فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تفسقون ]و الفسق هو الخروج عن الحدود ، مما يدل على أن المستكبر بغير حق يتجاوز حدود الشرع مما يوجب له أليم العذاب .
الحياة بين الحكمة و المتعة :
إن حياتنا في هذه الدنيا ذات حكمة تنبسط على كل ممارستنا فيها ، مما يجعل لكل بعد منهـا هدفــا محددا لو سعينا نحوه كانت الحياة شريفة . أما إذا فرغنا أعمالنا من أهدافها ، و مارسناها لذاتها ، فإنها تصبح متعة زائلة ، فمثلا : الطعام سبيلنا الى القوة فمنطعمه لشهوة الأكل ( لا لبلوغ سلامة البدن و قوته ) كان ممن أذهب طيباته ، و الثياب وسيلة للستر و الزينة فمن استهدف المفاخرة بها أذهب طيباته ، و هدف التعلم العمل فمن تعلم العلم للعلم دون أي هدف آخر ضل سبيله و اضل عمله ، و ليس صحيحا أن نجعل الفن للفن ، إنما لتوعية الناس ، و تحسيسهم بالحقائق ، و إثارة حوافز الخير فيهم ، و من دون ذلك يصبح الفن هراء ، و يذهب بطيباتنا .
و حين يفقه الانسان حكمة الحياة و مفرداتها يعتدل سلوكه فيها . يبصر الهدف من طعامه فيزهد فيما لا ينفع جسده ، و يعرف الهدف من ثيابه فلا يفاخر ولا يبذر ، و يضع علمه في خدمة قيمه ، و إذا مارس الفن حقق أهداف أمته من وراءه .
ألا ترى كيف كان يعيش رسول الله و الأئمة الصالحون من خلفائه عليهم جميعاصلوات الله .
روي في الحديث أن عمر ابن الخطاب قال : استأذنت على رسول الله (ص) فدخلت عليه في شربة أم إبراهيم ، وإنه لمضطجع على خصفة و إن بعضه على التراب ، و تحت رأسه وسادة محشوة ليفا ، فسلمت عليه ثم جلست فقلت : يا رسول الله أنت نبي الله و صفوته و خيرته من خلقه ،و كسرى و قيصر على سرر الذهب و فرش الديباج و الحرير ؟!! فقال رسول الله (ص) : " أولئك قوم عجلت طيباتهم ، و هي وشيكة الإنقطاع ، وإنما أخرت لنا طيباتنا " (1) .
أما الإمام أمير المؤمنين فيقول عنه حفيده الإمام الباقر ( عليهما السلام ) :
و الله ان كان علي يأكل أكلة العبد ، و يجلس جلسة العبد ، و إن كان يشتري القميصين فيخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر ، فإذا أجاز أصابعه قطعه ، و إذا جاز كعبه حذفه ، و لقد ولي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أورث بيضاء ولا حمراء، و إن كان ليطعم الناس خبز البر و اللحم ، و ينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير و الزيت و الخل ، و ما ورد عليه أمران كلاهما لله عز وجل فيه رضا إلا أخذ بأشدهما على بدنه ، ولقد أعتق ألف مملوك من كد يمينه ، تربت منه يداه ، و عرق فيه وجهه ، وما أطاق عمله أحد من الناس ، وإن كان ليصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة ، و إن كان أقرب الناس به شبها علي بن الحسين ما أطاق عمله أحد من الناس بعده " (2) .
و هكــذا كان يربي النبي أصحابه . فقد ورد في الحديث أنه ( صلى الله عليه و آله ) دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم (3) ما يجدون لها رقاعا ، فقال :
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 15
(2) المصدر / ص 16
(3) الجلد المدبوغ
" أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة و يروح في أخرى ، و يغدى عليه بجفنة و يراح عليه بأخرى ، و يستر بيته كما تستر الكعبة ؟ قالوا : نحن يومئذ خير ، قال : بل أنتم اليوم خير " (1) .
[21] عذاب الدنيا أهون من جهنم ، ولكنه شاهد عليها ، ولقد استمتع الكفار بدنياهم ، و أذهبوا فيها طيباتهم ، فابتلوا بعذاب بئيس هنـا قبل الآخرة . ألا يكفينا ذلك عبــرة ؟
هؤلاء قوم عاد ملأ قلوبهم حب الدنيا حتى حجبهم عن فهم حقائق الآخرة ، فإذا بهم يعرضون عن النذر بالرغم من بلاغ إنذارهم .
و يبدو أن السياق يضرب لنا من قصة عاد مثلا على جملة البصائر التي تقدمت في هذا الدرس ، و التي منها : تشبث الإنسان بالتقاليد ، و توغله في شهوات الدنيا .
[ واذكر أخا عاد ]
دعنا نذكرهم لنتعظ بمصيرهم .
وكان هود من ذات القبيلة فكان إنذاره بليغا . أوليس يتحدث بلسانهم و حسب مستواهم العقلي ؟ و بالإضافة إلى ذلك هو من أنفسهم يحب لهم الخير .
[ إذ أنذر قومه بالأحقاف ]
قالوا : الأحقاف هي الكثبان الرملية التي تتجمع هنا و هناك .
و قالوا : إنها كانت وسط الجزيرة العربية بين نجد و الأحساء و حضرموت(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 17
و عمان .
و قال بعضهم : كانت جنوب الجزيرة باتجاه اليمن أو في سواحل بحر العرب بين عمان و عدن ، و قيل أنهم كانوا مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر . (1)و يبدو أن ذكر الأحقاف هنا للدلالة على أن الله أسبغ عليهم نعمة الماء و الكلأ في موقع يندران فيه أي بين التلال الرملية المتحركة ، و كان عليهم أن يشكروا نعمة الله ، و يستجيبوا للنذر . أولا يرون طبيعة الأرض من حولهم ، و كيف تكاد الرمال المتحركة تبتلــع حضارتهم الهشـة ، و لكنهم اغتروا ، و تجبروا ، و استكبروا في الأرض بغير الحق ، و فسقوا عن أمر ربهم فجاءتهم عاصفة رملية دمرت حياتهم .
[ و قد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ]
لعل المراد من هـذه الكلمة : أن النذر توالت عليهم في فترات متعاقبة قبل بعثة هود ، فبعضهم كانوا قريبين من عصره " من بين يديه " ، بينما كان بعضهم بعيدين من عصره " من خلفه " ، و الله العالم .
[ ألا تعبدوا إلا الله ]
هذه هي الرسالة بصورة مختصرة ، وهي تحتوي على سائر التعاليم ، فمن عبد الله وحده تعبد بالشريعة التي أمر بها ، و من عبد الله وحده كفر بالطاغوت وكل مستكبر و ظالــم ، و رفض التبعية ، و من عبد الله وحده لم يسترسل مع شهوات الدنيا حتى الهــلاك .
[ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ]
(1) راجع التفاسير و بالذات تفسير القرطبي / ج 16 - ص 204 و تفسير نمونه (بالفارسية) ج 21 / ص 351[22] أما عاد فقد تشبثوا بالواقع الراهن رغم فساده ، لأنهم زعموا أن مصالحهم تتعرض للخطر لو آمنوا بربهم .
[ قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا ]
و كأن آلهتهم التي كانت رمزا لقوى الظلم و الإستكبار هي المقدسات التي أراد هود أن يصرفهم إفكا عنها .
و ربما يوحي الإستفهام بأنهم لم يصدقوا أنفسهم كيف يجرأ أحد على مقاومة تلك الآلهة ، لذلك تحدوا هودا بكل صلافة قائلين :
[ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ]
وهكذا الذي يركن الى المادة يستبد به الغرور الى درجة تراه يتحدى من ينذره ، و يستعجل لنفسه العذاب .
[23] و كعادة الكفار بالغيب زعمت عاد أن هودا هو الذي ينزل عليهم العذاب ، و أن بيده أمره ، فنفى ذلك بصراحة :
[ قال إنما العلم عند الله ]
و إنما هو رسول يبلغهم أمر الله .
[ و أبلغكم ما أرسلت به ]
وهذه مسؤولية أصحاب الرسالة الأساسية ، بيد أن ذلك لا يعني أنه مجرد ساعي بريد ، كلا .. بل له بدوره كلام ينصحهم به ألا يكذبوا بالرسالة :
[ و لكني أراكم قوما تجهلون ]
ذلك أن تحدي جبار السماوات و الأرض ، و استعجال عذاب الإبادة و التدمير ، لا يكون إلا عن جهل مطبق .
[24] وها هي إرهاصات العذاب تلوح في الأفق . أرأيت الأعاصير الترابية كيف تبدو من بعيد ؟ كأنها سحابة سوداء ، و بما أنهم قد منع عنهم الغيث لفترة حتى أجدبت أرضهم استبشروا خيرا بما رأوا ، و زعموا أنه غيث يستقبل أوديتهم العطشى .
[ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ]ولعل تأخر المطر عنهم كان بهدف إنذارهم عمليا لعلهم يتضرعون إلى ربهم ، كما كانت بين يدي غرق فرعون و جنوده آيات تهدف إيقاظهم من سباتهم ، ولكنهم أصروا على كفرهم ، فجاءهم النداء :
[ بل هو ما استعجلتم به ]
من العذاب .
[ ريح فيها عذاب أليم ]
[25] إنها عاصفة رملية مأمورة من عند الله بأن تدمر كل شيء مما عند قوم عاد في الوقت المحدد ، فهي إذا ليست هوجاء تمضي من دون أمر .
[ تدمر كل شيء بأمر ربها ]
تتصل ظواهر الطبيعة بعمل الانسان حتى لا تكون حادثة صغيرة أو كبيرة إلا ولها علاقة بما يختلج في قلبه أو تكسبه يداه ، أو تبلو به سرائره و تختبر إرادته ، فحتىالأمواج الهادرة التي تحيط بالسفن الشراعية وهي تمخر عباب البحر ليست بعيدة عما يجري في داخل السفينة . أرأيت كيف تتساقط أغشية الشرك عن أبصارهم فيهرعون إلى الدعاء لكي ينقذهم الله من ورطتهم ، كما يصف ربنا ذلك بقوله : " هو الذي يسيركم في البر و البحر حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة و فرحوا بها جاءتها ريح عاصف و جاءهم الموج من كل مكان و ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين " (1) .
بلى . إن هذه البصيرة تجعل الإنسان يزداد تحسسا بالمسؤولية ، و اتقـاءا للأخطاء ، و انضباطا في أعماله و أقواله و نياته ألا تفسق عن الحدود التي رسمهـا له الله . أوليس كل شيء يحدث بأمر ربه ؟ أوليس الله حكيما لا يقضي بشيء من دون استحقاق ؟ إذا دعنا نكن حذرين ، نتورع عن ما يغضب الرب ، و نعتبر بمصير الغابرين .
إن الجهل و العناد و الجحود لا تنفعنا شيئا ، بل هي مسؤولة عن وقوع أكثر الناس في المهالك . أنهم يزعمون أن الطبيعة عمياء تصيب ضحاياها بلا قانون ! كلا .. إنها مأمورة ، و ربها الذي يدبرها عليم حكيم .
وها قد نزلت الكارثة بقوم عاد بأمر الله ، و اجتاحت العاصفة ديارهم و دمرتهم .
[ فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ]
و دليل أن الريح كانت مأمورة أنها لم تأخذ إلا المجرمين منهم .
[ كذلك نجزي القوم المجرمين ]
(1) يونس / 22
فهي سنة عامة لا تخص عادا وحدهم ، فأي قوم مجرمين لابد أن يحيق بهم عملهم يوما .
أما هود و المؤمنون معه فقد أنجاهم الله . قالوا : إنهم اعتزلوا في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه إلا ما يلين أعلى ثيابهم ، و تلتذ الأنفس به ، بينما كانت تمر من عاد بالظعن بين السماء و الأرض و تدمغهم بالحجارة حتى هلكوا . (1)وقد جاء في التاريخ : أن الخليفة العباسي المهدي أمر بحفر بئر بقرب قبر العبادي ( وهو حسب قول الحموي : منزل في طريق مكة من القادسية الى العذيب ) لعطش الحاج هناك ، فحفروا أكثر من مأة قامة ، فبينما هم يحفرون إذ خرقوا خرقا و إذا تحته هواء لا يدرى قعره ،وهو مظلم ، و للريح فيه دوي ، فأدلوا رجلين فلما خرجا تغيرت ألوانهما فقالا : رأينـا هـواءا واسعا ، و رأينا بيوتا قائمة ، و رجالا و نساءا ، و إبلا و بقرا و غنما ، و كلما مسنا شيئا رأيناه هباء ، فسألنا الفقهاء عن ذلك فلم يدر أحد ما هو ، فقدم أبو الحسن موسى بن جعفر - عليه السلام - على المهدي فسأله عن ذلك فقال : " هؤلاء اصحاب الأحقاف وهم بقية من قوم عاد ، ساخت بهم منازلهم " و ذكر على مثل قول الرجلين . (2)(1) تفسير القرطبي / ج 16 - ص 207
(2) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 18 نقلا عن الخزايج و الجرايح .
|