فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[26] عندما يفر الجاحد - لآيات الله - من مسؤولية الاعتراف بالحق ، و التسليم له ، يلجأ - في زعمه - إلى ركن الغرور بالقوة و العلم ، و يعتقد أن ما يملكه من أموال ، ومن كيد ، ومن مكر تغنيه شيئا عندما يحدق به خطر الدمار ، بسبب كفره بالله و رسالته .


كلا .. إن مصير الغابرين من عاد ، و ثمود ، و فرعون و هامان و جنودهما ، و غيرهم يكفينا عبرة بأن قدراتنا المادية و العلمية إن هي إلا غرور .

[ و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ]

قال المبرد : " ما " في قوله : " فيما " بمنزلة ( الذي ) و " إن " بمنزلة ( ما ) و التقدير : و لقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه ، و المعنى : أنهم كانوا أقوى منكم ، و أكثر منكم أموالا (1) و كذا في قوله تعالى : " كانوا أكثر منهم و أشد قوة و آثارا في الأرض "

و هكذا كانت الإمكانات التي سخرت لهم أكثر مما سخرت لقريش ، و ربما لكل قوم يتلون الكتاب من بعدهم .

[ و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة ]

و بما أنهم كانوا مزودين بهذه الأجهزة زعموا بأنها تنقذهم من عذاب الله . ذلك أن الانسان يهلك إذا كان ضعيفا ، أو جاهلا ، أو غافلا ، ولم يكن أولئك القوم كذلك ، ومع ذلك أهلكوا عندما أراد الله .


(1) يمرط : ينزع .


[ فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء ]و انما ينتفع الانسان بهذه الجوارح إذا كان مؤمنا بآيات الله ، أما إذا كفر بها فإنه سوف يخطأ المنهج السليم للانتفاع بها .. أرأيت الذي يملك أفضل وسيلة سير ثم يخطأ السبيل فهل تنفعه وسيلته لبلوغ غايته إذا كانت وجهة سيره خاطئة ؟! كذلك الذي لا يؤمن بالحقائق الكبرى ثم لا يستفيد من معرفته بالحقائق الجزئية التي تقع في اطارها و يكون مثله كالذي لا يعترف أن عدوه يمتلك قنبلة نووية ، ثم يجد في معرفة عدد دبابات العدو .. انه سيخسر المعركة قطعا حتى إذا عرف كل حقيقة في سلاح المدرعات عند العدو .

هكذا من لا يعتقد بقوة الله التي ارسلت على قوم عاد تلك العاصفة الهوجاء ، التي دمرت كل شيء بإذن ربها ، أو التي أخذت فرعون و جنوده و نبذتهم في اليم نبذا . إن مثل هذا الرجل لن ينتفع شيئا بمعرفته مثلا بأصول الهندسة ، أو كيفية تنظيم الجيش ، لأن كل ذلك وضع في مواجهة أخطار بسيطة ، أما مقاومة تغيير طبيعي هائل فانه فوق قدراتنا المنظورة .. تماما كالذي يجهد نفسه في بناء خندق عميق في مواجهة سلاح ذري .. إنه مغرور لأن الخندق انما انشئ لمواجهة سلاح تقليدي وليس سلاحا ذريا .

وهكذا السمع و الأبصار و الأفئدة انما هي أدوات لمواجهة أخطار عادية ، ولا تنفع الذي يخالف إرادة الله شيئا .

[ إذ كانوا يجحدون بآيات الله و حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ]من الحقائق الكبيرة التي جحدوها ، و سخروا منها . انها نزلت بهم كالصاعقة ، و تنزل بمن يسير في خطهم الباطل .


[27] لا تزال على الطبيعة من حولنا آثار تنطق بسنن الله في التاريخ ، فهذه القــرى مـن حولنا قد أهلكت بفعل ضلالتهم عن الحق . ولكن هل أهلكوا فجأة ومن دون نذر ؟ كلا ..

و كانت قريش تمر على قرى مدين و ثمود عند رحلتهم صيفا نحو الشمال ، وعلى قرى الأحقاف عند رحلتهم شتاءا نحو الجنوب ، و جاء القرآن يبصرهم بعبر تلك القرى الخاوية على عروشها ، و تلك الآبار المعطلة ، و آثار القصور المشيدة .

و هكذا يستنطق كتاب الله حوادث التاريخ و آثار الغابرين ، و يجعلها تحكي للإنسانية عبر أسلافهم لعلهم يسعدون بتجاربهم .

[ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى ]

و في أي بلد كنت طف على القرى الغابرة من حولك . قف على أطلالها ، واستنطق آثار الأولين ، و سائلهم : لماذا أهلكوا ، فاستوعب عبر حياتهم قبل أن تكون عبرة لمن يعقل من بعدك ، ذلك أن البلاد جميعا لا تخلو من آثار الغابرين الذين كتبوا عليها دروسا لم يتعلموها من أحد ، ولو تعلموا بعضها إذا ما أهلكوا .

[ و صرفنا الأيات ]

لنا كما لأولئك الغابرين ، فلم تدمر حياتهم بلا سابق إنذار ، و كانت النذر تترى عليهم بهدف صرف العذاب عنهم إذا اتبعوا النذر و عادوا إلى الرشد .

[ لعلهم يرجعون ]

و نستوحي من كلمة " يرجعون " أنهم كانوا مستبصرين في أول حياتهم ، ماضين على الفطرة الأولى ، فلما انحرفوا انذروا بالعذاب لعلهم يرجعون الى فطرتهمالأولى .

[28] فلماذا تولوا عن النذر ، ولم يستجيبوا لداعي الله ، و لماذا لم يعتبروا بمصير من سبقهم ؟

لأنهم اتخذوا من دون الله قربانا آلهة فزعموا أنهم ينصرونهم من عذاب الله ، ولكن هيهات .

وهكذا يزعم الإنسان أن بمقدوره التمسك بذيل من يزعم أنهم مقربون إلى الله ، من آبائه أو عظماء قومه لينجونه من مصيره ، و هكذا يخدع نفسه و يظل في غروره حتى يأتيه العذاب فيكتشف متأخرا أنه كان في ضلال بعيد ، و أنهم لا يستطيعون نصره أبدا .

[ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة ]و كما أنهم لم يقدروا على نصرهم في الدنيا من الدمار فإنهم لا ينصرونهم في الآخرة من عذاب النار .

[ بل ضلوا عنهم ]

لقد ضلت الآلهة عنهم فلم يجدوا لها أثرا عند نزول العذاب ، شأنهم شأن كل دجل و خداع ترى له صورا ، و تسمع جلبة ، و تستقبل وعودا في الرخاء ، أما عند الشدة فهي تتلاشى كما يتلاشى السراب عندما تقترب منه .

ولكن من المسؤول : الآلهة التي طالما وعدت أنصارها بالنصر ثم ضلت عنهم عندما دقت ساعة الإنتقام ، أم أولئك الذين خدعوا بهم ؟ لا ريب أن الذين قبلوا الإنسياق مع ضلالات الآلهة هم المسؤولون ، لأن الآلهة من دون الأنصار لا تعنيشيئا . أرأيت لولم يعبد أحد صنما هل يختلف الصنم عن أية حجارة أخرى ؟ أورأيت إن لم يتبع الناس الطغاة هل هم يتميزون شيئا عن غيرهم ؟

إذا المسؤول أولا الانسان الذي يصنع الإفك ، و يفتري على الله .

[ و ذلك إفكهم ]

قالوا : الإفك الكذب ، و كذلك الأفيكة ، و الجمع الأفائك ، و إفك الجماعة كان يتمثل في تقديس الآلهة و الإعتقاد بقوتهم .

[ وما كانوا يفترون ]

ولعل المراد من ذلك الأنظمة الفاسدة التي كانت تترتب على هذا الإفك ، و التي كانوا يفترونها على الله كذبا .

وهكذا تكون الحالة الشركية و الفساد العريض الذي يؤدي إليه نتيجة ثقافة الضلالة ، و فساد الأخلاق و الأنظمة و العادات ، و يزعم البسطاء أن الكيان السياسي الفاسد و النظام الإقتصادي و الإجتماعي المنحرفين قادرين على المحافظة على مصالحهم ، و لكنهم يصطدمونفجأة بالواقع المرير الذي يفرزه هذا الإفك الكبير حين لا ينفعهم الندم .

وقد نستلهم من الآية أن الأصنام التي كانت تعبد من دون الله ، و كذلك الطغاة و المترفين الذين كانوا يسيطرون على مقدرات الناس ، إنما هم جميعا صورة مجسدة لمجمل ضلالة المجتمع و انحرافه .

[29] و من الناس من يتخذ الجن آلهة من دون الله ، و يأفك القداسة لهم ، فلا ينتفع بعبر الغابرين اتكالا عليهم ، و قد يستعيذ بهم من دون الله ، و يزعم أنهميمنعونه عن سيئات عمله ، و يغنون عنه من الله شيئا .

كلا .. الجن كالإنس خلق برأهم الله ، و هم بحاجة الى الرسالة ، و ان الرسل الذين يبعثون إلينا هم النذر المرسلون إليهم أيضا .. و إذ يحدثنا السياق هنا عن قصة استماع الجن للقرآن و ايمان نفر منهم ثم انصرافهم الى قومهم منذرين فإنه يصحح بذلك تلك الصورة المشوهة عنهم في أذهان كثير من الناس حيث يزعمون بأن الجن مصدر كل شر و خبث ، كلا .. بل منهم المؤمنون الذين يحملون رسالات الله إلى قومهم .

و يبدو من خطاب القرآن إليهم في آيات عديدة أنهم مكلفون به ، وأنهم متعايشون معه ، و لكننا حتى الآن محجوبون عنهم ، كما يظهر أنهم مجزيون على إيمانهم و أعمالهم كما الإنس سواءا بسواء ، فلا يجوز أن يستعيذ بهم الإنس لأنهم يزيدونهم رهقا .

[ و إذ صرفنآ إليك نفرا من الجن ]

أي ألهمنا نفرا من الجن الحضور عندك ، أو حملناهم على المرور بك من دون تقدير منهم .

[ يستمعون القرآن ]

قالوا : في أثناء عودة الرسول (ص) من سوق عكاظ نزل بمكان يقال له : مجنة ، نسبة إلى الجن ، فبات فيه ، و كان من عادته (ص) أنه يبيت لربه ساجدا قائما ، يتلو أجزاء القرآن يرتلها ترتيلا ، و بينما كان يتلو القرآن مر به نفر من الجن قالوا كانوا من اهل نصيبين، فإذا بهم يسمعون ذكرا عجبا .

[ فلما حضروه قالوا أنصتوا ]


دعونا نستمع لهذا الذكر !

وقد ذكر المفسرون هنا قصة رحلة النبي (ص) إلى الطائف التي التقى في العودة منها بالجن ، وهي رحلة حافلة بالدروس و العبر ، بالذات فيما يتصل بالصبر و الإستقامة اللذين أمرنا بهما في نهاية السورة ، و لهذا نجد من المفيد بيان أبعاد هذه الرحلة الجهادية العظيمة .

قال المفسرون ( ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد و غيرهم ) : لما مات أبو طالب خرج النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) وحده الى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة ، فقصد عبد ياليل و مسعودا و حبيبا و هم إخوة بنو عمرو بن عمير - و عندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فدعاهم الى الايمان ، و سألهم أن ينصروه على قومه ، فقال أحدهم : هو يمرط (1) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ! و قال الآخر : ما وجد الله أحدا يرسله غيرك ! وقال الثالث : و الله لا أكلمك كلمة أبدا ، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك . ثم أغروا به سفهاءهم و عبيدهم يسبونه و يضحكون به ، حتى اجتمع عليه الناس و الجؤوه الى حائط لعتبة و شيبة ابني ربيعة ، فقال للجمحية : " ماذا لقينا من أحمائك " ؟ ثم قال : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، و قلة حيلتي ، و هواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستتضعفين ، و أنت ربي ، لمن تكلني ! إلى عبد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك أو يحلعلي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " ، فرحمه ابنا ربيعة ، و قالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس ، خذ قطفا من العنب و ضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل ، فلما وضعه بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله و سلم ) قال النبي


( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " باسم الله " ثم أكل ، فنظر عداس الى وجهه ثم قال : و الله إن هذا الكلام ما يقولــه أهـل هذه البلدة ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك " ؟ قال : أنا نصراني من أهل نينوى ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى " ؟ قال : وما يدريك ما يونس أبن متى ؟ قال : " ذاك أخي كان نبيا و أنا نبي " فانكب عداس حتى قبل رأس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و يديه و رجليه ، فقال له ابنا ربيعة : لم فعلت هكذا !؟ فقال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا ، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . ثم انصرف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين ، و كان سبب ذلك ان الجن كانوا يسترقون السمع ، فلما حرست السماء و رموا بالشهب قال إبليس : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف الخبر ، أولهم ركب نصيبين و هم أشراف الجن إلى تهامة ، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة و يتلو القرآن ، فاستمعوا له و قالوا : أنصتــوا . (1)[ فلما قضي ]

حين انتهى الرسول من قرائته ..

[ ولوا إلى قومهم منذرين ]


(1) تفسير القرطبي / ج 16 ، ص 210 - 211 . وما نقله القرطبي قد يتعارض مع ظاهر الآيات التالية . من أن إبليس قد بعث بسراياه ليعرفوا ما الخبر من حراسة السماء . لأنهم أولا : وكما أكدت الآيات التالية انهم مؤمنون بموسى (ع) . وهذا يتناسب و الآية (10) من ايمانبعض علماء بني إسرائيل بالنبي (ص) ، و ثانيا : هذه الحادثة ( أي ارسال ابليس لسراياه ليعلموا ما الخبر ) ذكرها المفسرون في بعثة النبي (ص) و بعض ذكرها في مولده الشريف (ص) .


يبدو أنهم كانوا ذاهبين إلى مهمة ما ، ولكنهم حينما استمعوا إلى القرآن عادوا دون أن يقوموا بمهمتهم ، لكي ينذروا قومهم .

[30] و فيما يلي من الآيات نص الإنذار الذي حمله الجن إلى قومهم :

[ قالوا يا قومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ]قالوا : إن الرسالة الحقيقية من بعد رسالة إبراهيم (ع) كانت رسالة الله إلى عبده و كليمه موسى (ع) ، وأما الإنجيل فقد كان تكميلا للتوراة ، كما قال الله عن لسان عيسى (ع) : " و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " (1) ، و استمرت رسالة موسى الى أن بعث الله نبينا الأكرم (ص) ، و خلال هذه الفترة - بين الرسالتين - بعث الله أنبياء ولكن ضمن رسالة موسى (ع) .

[ مصدقا لما بين يديه ]

إن وحدة القيم و المبادئ و التعاليم و المناهج و الشرائع في الرسالات الربانية شاهد صدق على أنها من عند الله الواحد ، ولولا ذلك كيف تتناغم هذه المنظومة المتكاملة من المعارف و الأنظمة عبر العصور المختلفة و البلاد المتفاوتة و الرجال المتباعدين عن بعضهمفي أكثر الأبعاد المادية ؟

وهكذا اهتدى الجن إلى صدق الرسول من خلال النظر العميق في رسالته و أنها تنسجم مع جوهر رسالات الله السابقة ، فهي صادقة كما أن ما سبقتها كانت صادقة .

ويا ليت شعري كيف كان يكفر بالقرآن من آمن حقا بالتوراة ، و القرآن هو(1) آل عمران / 50


الصيغة الأكمل للتوراة ؟!

[ يهدي إلى الحق ]

و الحق هو ذلك النور الذي يسطع على كل قلب سليم ، وكل عقل متحرر ، وكل فطرة نقية ، وحين يذكر القرآن به لا يجد الإنسان مبررا للكفر به ، إذ يتوافق الكتاب مع حقائق العقل .

وهكذا استدل الجن على صدق الرسالة بمحتواها الحق ، فعرفوا الرسول برسالته فصدقوا به .

[ و إلى طريق مستقيم ]

ليس في الكتاب آية إلا و تهدينا إلى ما يحكم به العقل ، إلا أن العقل لا يقدر على معرفة الشرائع الواضحة لتحقيق الحق ، فمثلا عبادة الله و التحرر من الطاغوت و العدالة و التقدم و التعاون و السلام تلك هي الحقائق التي يذكر بها الشرع ، و يشهد بها العقل ، ولكن كيف نحققها ؟ إن الإجابة عن ذلك نجدها في الرسالة التي تهدينا إلى السبل الواضحة و القويمة لبلوغ الأهداف السامية ، تلك التي نسميها بالشريعة و الأحكام .

[31] وما لبث المنذرون من الجن أن تحملوا مسؤولية الدعوة بإصدار الأمر بطاعة الرسول بعد أن عرفوا صدقه قائلين :

[ يا قومنآ أجيبوا داعي الله ]

و أشاروا بكلمة " قومنا " أنهم يريدون لهم الخير باعتبارهم من قومهم ، ثم أمروا بطاعة الرسول لأنه يدعو إلى الله ، و هكذا يؤدبنا القرآن ألا نكرم أحدا أو نطيعه إلاباسم الله و باعتباره داعيا إليه .

[ وءامنوا به ]

لعل الإجابة هي التسليم له بصورة مجملة ، بينما الإيمان هو العمل برسالته .

[ يغفر لكم من ذنوبكم ]

تلك الذنوب التي تراكمت علينا قد ذهبت لذاتها و تلاشت دوافعها ، بينما بقيت تبعتها و آثارها على القلب ، و عواقبها على المستقبل ، لعلنا نسيناها ، بيد أن كتاب ربنا قد أحصاها ، لذلك كان الخلاص منها غاية منى الموقنين ، و أعظم باعث لهم نحو الطاعة للقيادةالشرعية ، و الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق ، و ربما الشهادة في سبيل الله .

و تساءل المفسرون : لماذا قال " من ذنوبكم " ، أوليس الإسلام يجب ما قبله ، مما يعني أن الله يغفر كل الذنوب السابقة عليه ؟ ومن هنا قال بعضهم : إن " من " زائدة .

ولكن قال الآخرون : إن " من " ليست زائدة ، وإن مجرد الإسلام لا يطهر صاحبه من تبعات كل الذنوب ، بل كلما عمل الإنسان ببعض الواجبات كلما سقطت عنه طائفة من الذنوب حتى لا يبقى منها إلا النزر اليسير ، و انطلاقا من هذا التفسير الموافق لظاهر القرآن ( حيث أن الظاهر ألا تكون أية كلمة أو حرف زائدة ) يجتهد المؤمنون في الأعمال الصالحة لتذهب بالسيئات .

[ و يجركم من عذاب أليم ]

و من ذا الذي يجير العبد من ربه المحيط به علما و قدرة ؟! و إذا كان الجنبحاجة الى من يجيرهم من عذاب الله ، فهل يقدرون على إجارة أحد من الإنس ممن يستعيذون بهم ؟!

حقا : إننا جميعا نبحث عن الأمن فهل نجده إلا عند ربنا الكريم ، ولكن هل يجيرنا الرب من دون طاعة رسوله الداعي إليه ؟

[32] وهل يستطيع أحد أن يهرب من حكومة الله ، و يخرج من حدود سلطانه ؟ أنى له ذلك وكل ذرة في وجوده قائمة به سبحانه .

[ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ]

فلا يستطيع هربا من عاقبة كفره أنى مضى من أطراف هذه الأرض التي هي في قبضة ربها . إنه لا يعجـزه فرارا كما يعجز أحدنا الآخر بالإنتقال من حدود سيطرته أو علمه .

[ وليس له من دونه أوليآء ]

ينصرونه ، بالرغم من أن الإنسان يزعم أن عشيرته أو اسرته أو حزبه و ناديه يهرعون إلى مساعدته عندما يتعرض للعذاب ، ولكن ذلك لا ينفعه أمام عذاب الله الذي قد يشملهم جميعا .

بلى . الخلاص من العذاب ممكن بالهرب إلى الله من عذابه ، و الإلتجاء إلى فناء عفوه ، فرارا من سطوة انتقامه ، ولكن ذلك مشروط بإجابة داعي الله .

[ أولئك في ضلال مبين ]

قد يضل الإنسان وهو يزعم أنه على هدى ، و لكن ضلال البشر عن ربه لا يمكنتبريره أو إخفاءه أنه ضلال مبين ، لأن القياس باطل تماما بين الله و خلقه . أليس كذلك ؟ فكيف يمكن للانسان أن يزعم ان من خلقه الله بقادر على إنقاذه من غضبة ربه الخالق الجبار ؟!

[33] و العذاب الأدنى في هذه الحياة شاهد صدق على العذاب الأكبر في الآخرة ، أولا : لأنه ينسف بنى التبرير ، و التشبث بالأعذار ، و الغرور بنعم الله ، و الإعتقاد بأن الله لا يعذب أحدا ، كلا .. أوليس قد عذب عادا الأولى ، و ثمود فما أبقى ؟ ، و ثانيا : لأنه يرينا صورة واضحة عن شدة عذاب الله ، فإذا كان العذاب الأدنى ريحا تدمر كل شيء بإذن ربها فكيف بالعذاب الأكبر ؟! إذا فإن ما أنذر به المرسلون من عظيم العقاب في اليوم الآخر حق لا ريب فيه ، ثالثا : حينما نشهد عذاب الله للأمم الغابرة تلين القلوب ، و تستعدلتقبل المواعظ الربانية ، و كانت من قبل سادرة في غفلتها ، محجوبة بغرورها و بانشغالها بالشهوات العاجلة و الأماني و الأحلام ، لذلك كانت تلجأ إلى كهف التكذيب بالآخرة ، و اختلاق الشبهات حولها ، فرارا من ثقل المسؤولية ، و مسارعة في اللذات ، و مضيا مع الشهوات حتى الثمالة .

و أكثر الشبهات شيوعا عندهم ما قالوا : كيف يعيد الله هذه الأعظم البالية وقد أضحت رميما تذروه الرياح ؟! و كيف يحيي الله الموتى وقد فسد نظام اجسادهم ، و ماتت خلايا المخ عندهم ، ولم نر أحدا منهم عاد إلى الحياة أبدا ؟!

وهذه الشبهة تافهة جدا ، إلا أنها تستمد قوتها من عزم البشر على التهرب من الايمان بالآخرة خشية تحمل مسؤولياته الثقيلة ، و لولا ذلك فإنها تتلاشى كما يتلاشى ظلام الليل حينما ينبلج فجر الحقيقة ، بشرط ألا يحتجب الانسان عنه بغشاوة الشهوات ، دعنا نستمع إلى القرآن وهو يبدد هذه الشبهة بتساؤل يمس أوتار


الفطرة النقية مسا رقيقا :

[ أولم يروا ]

إنها حقيقة ترى ليس بالعين وحدها ، فإن البصر قد يزيغ ، ولكن بالقلب الذي تجتمع لديه أحاسيس كل الجوارح .

[ أن الله الذي خلق السموات و الأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ]بلـى . لأننا نشهد في كل أفق من آفاق هذه الخليقة الواسعة تجدد الحياة بعد الموت ، فهذا الربيع حيث تحيا الأرض بعد موتها ، و تستيقظ الأشجار بعد همودها ، تشهد بقدرة البارئ التي تحيط بكل شيء .

إن التنوع الهائل الذي يعجز البشر عن إحصائه في الخلق : من أقسام الأحجار و المعادن و الأتربة و صنوف الأحياء ، ومن الفيروس حتى الفيل ، و من أصغر خلية حية في البحر حتى الحوت العظيم ، ومن أصغر حشرة طائرة حتى النسور و العقبان .

و اختلاف البشر خلقا ، و تقلبهم من حالة النطفة حتى بلوغ مرحلة الإكتمال .

ثم ما أوتينا علمه من عظيم خلق السماوات التي لو قيست أرضنا بها لكانت كحبة رمل في صحراء واسعة .

كل ذلك يرينا جانبا من قدرة الله ، و أنه سبحانه لا يعجزه شيء أبدا .. فهل يستحيل عليه أن يحيي الموتى ؟!

[ بلى إنه على كل شيء قدير ]


و قدرة الله تنبسط على الخليقة ، حتى لا تدع شيئا يتصوره البشر إلا وقد خلقه ربنا ، و أكمل خلقه ، و خلق له صنوفا و أنواعا . سبحان ربنا و تعالى !

[34] وما عسى أن ينفع التكذيب ؟ هل يذهب نور الشمس لو احتجبت عنه ؟! هل يدرأ خطر الموت عن نفسه من يكذب به ، أم أنه بتكذيبه يقربه إلى نفسه أكثر فأكثر ؟!

هكذا من يكذب بالآخرة لا يدرأ عن نفسه عذابها ، بل يزداد إثما بتكذيبه و استحقاقا للعذاب أكثر فأكثر .

وحين يحس جحدة البعث بحرارة النار ، و يرون بأم أعينهم جبالا من اللهب الذي يتميز من الغيظ في جهنم حتى لتكاد قلوبهم تنخلع من شهيقها و زفيرها ، يومئذ يؤمنون بالعذاب ، ولكن بعد فوات الأوان .

[ و يوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ]إنها عاقبة من كفر بالعذاب ، و جحد بالبعث ، و تساءل مستنكرا : كيف يحيي الله الموتى ؟!

حقا : مجرد تصور تلك اللحظة التي يأتي الله بالكفار ليشهدوا جهنم و نيرانها الملتهبة يكفي للتصديق بها . أوتدري لماذا ؟ لأن أساس الكفر بالآخرة قائم على الغفلة ، و الإسترسال مع الهوى ، و الإستهزاء بالحق ، فيكون تصور هذا العذاب المهيب كافيا لزعزعة أساسالكفر ، و تنبيه الإنسان إلى ضرورة التفكر الجدي ، و إيقاف استرساله الخطير مع الشهوات ، و بالتالي إسقاط حجب الغرور عن عينه ليرى بها الحقائق مباشرة .


[35] لكي تمضي سنة الإمتحان في الكافرين كما أرادها الله بحكمته البالغة ، لابد أن يكتفي المنذرون بالبلاغ ، و يصبروا على أذى قومهم دون أن يستعجلوا لهم العذاب .

ولكي لا يتحول الصراع مع الكفار إلى صراع ذاتي بين طائفة و أخرى ، بل يبقى نقيا عن أية مصلحة مادية لأهل الحق حتى تتم الحجة على أعدائهم ، لابد من الصبر .

[ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ]

أوليس الرسول (ص) منهم وهو أفضلهم ، فيصبر كما صبر نوح (ع) عندما دعى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فلم يؤمن به إلا نفر قليل ، وكما صبر إبراهيم (ع) عندما ألقي في النار ، و عندما هاجر إلى ربه ، و عندما أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم ،و عندما حاول ذبح ابنه استجابة لأمر ربه ، و كما صبر موسى (ع) في مواجهة أعتى طاغوت مع شعب خائر العزيمة كبني إسرائيل ، و كما صبر عيسى (ع) على مكاره الدنيا بزهده و مقاومته لعتاة بني إسرائيل .

هؤلاء هم أولوا العزم من الرسل الذين أخذ الله منهم ميثاقا غليظا ، لأنهم كانوا أصحاب شريعة جديدة ، لكل أهل الأرض ، و كانوا بحاجة إلى صبر عظيم لتبليغها إلى الناس .

فقال ربنا سبحانه عنهم : " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك ومن نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا " . (1)(1) الأحزاب / 7


وهذه الآية تشهد على مدى الأذى الذي كان ينتظر هذه الصفوة الخالصة من الأنبياء فأخذ منهم ميثاقا غليظا على ضرورة الصبر عليه .

و قال ربنا وهو يبين أن هؤلاء الخمسة المطهرين هم أصحاب شريعة : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى " (1) .

و هكذا جاء في الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :

" سادة النبيين و المرسلين خمسة ، وهم أولوا العزم من الرسل ، و عليهم دارت الرحى : نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد " (2) .

أما عن سبب تسمية هؤلاء الخمسة بأولي العزم فقد جاء في حديث مروي عن الإمام الصادق (ع) قال :

" لأن نوحا بعث بكتاب و شريعة ، وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح و شريعته و منهاجه ، حتى جاء إبراهيم بالصحف و بعزيمة ترك شريعة نوح لا كفرا به ، فكل نبي جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعته و منهاجه و بالصحف ، حتى جاء موسى بالتوراة و شريعته و منهاجه و بعزيمة ترك الصحف ، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة و شريعته و منهاجه ، حتى جاء المسيح بالإنجيل و بعزيمة ترك شريعة موسى و منهاجه ، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته و منهاجه ، حتى جاء محمد فجاء بالقرآن و بشريعته و منهاجه ، فحلاله حلال الى يوم القيامة، و حرامه حرام الى يوم القيامة ، فهؤلاء أولوا العزم من الرسل " (3)(1) الشورى / 13

(2) تفسير نمونه / ج 21 - ص 380 نقلا عن الكافي / ج 1 - باب طبقات الأنبياء و الرسل .

(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 22


[ ولا تستعجل لهم ]

لأن العذاب الذي يرونه يكفيهم ، و الأجل الذي يتمتعون فيه لا يسوى شيئا إذا قيس بذلك العذاب الرهيب الخالد .

[ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ]فإذا كان اليوم الواحد في الآخرة ألف عام ، فما قيمة سبعين عاما إذا قيست بسني تلك الأيام ؟! إنها في أفضل حال لحظات من نهار في عمر طويل ، وهل يسعد من خسر كل عمره لقاء لحظات تمتع فيها ؟!

وهكذا ينبغي أن يتسلح المؤمن بحسابات أخروية ، فلا يجزع من تأخير النصر ، و يقـول : كم سنة مرت ولما ينصرنا الله ! بل يحسب سنواته قياسا على أيام الآخرة و سنينها ، هنالك يستطيع أن يتبع خطى أولي العزم من الرسل في الصبر و الإستقامة . أليس يتبعهم في مسؤولية إداء الرسالة و بلاغها ؟

كذلك نجد في النصوص الإسلامية التوصية بالصبر اتباعا لنهج الأنبياء ، ففي رسالة مفصلة إلى أصحابه يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) :

(( إنه لا يتم الأمر حتى دخل ( يدخل ) عليكم مثلما دخل على الصالحين قبلكم ، وحتى تبتلوا في أنفسكم و أموالكم ، و حتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا و تصبروا و تعركوا (1) بجنوبكم ، و حتى يستذلوكم و يبغضوكم ، و حتى تحملوا الضيم ، فتحتملوه منهم ، تلتمسون بذلك وجه الله و الدار الآخرة ، وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله جل و عز ، يجترمونه إليكم ، و حتى يكذبوكم بالحق ، و يعادوكم فيه ، و يبغضوكم عليه ، فتصبروا على ذلك منهم .


(1) عرك الأذى بجنبه أي احتمله .


و مصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل على نبيكم . سمعتم قول الله عز وجل لنبيكم : " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم " )) (1)[ بلاغ ]

ألا يكفينا هذا البلاغ ؟ بلى . لمن يأخذه مأخذ الجد .

[ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ]

الذين يتجاوزون الحدود بأعمالهم .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 23


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس