بينات من الآيات [1] لماذا يضل الله أعمال الكافرين ؟ و كيف تتلاشى جهودهم ، و تنهار مقاومتهم للرسالة الإلهية ؟ أرأيت الذي يجد السير في اتجاه الشرق وهو يبتغي مدينة في الغرب ، هل يبلغ هدفه يوما ؟ كذلك الذي يعاكس حركة التاريخ ، و يخالف سنن الله في الحياة ، ألم يخلق الله السموات و الأرض بالحق ، فكيف يحقق من ينشد الباطل هدفه ؟
لقد جاهد المترفون من النصارى أكثر من ألف عام ليثبتوا للناس أن الجنس لعنة ، فهل استطاعوا تمرير ذلك ؟ و حاول الماديون أن يلغوا الجانب الروحي في الإنسان ، فهل قدروا ؟ لماذا فشل هؤلاء و أولئك ؟ لأنهم ساروا في الإتجاه المعاكس لسنن الله ، لأن الله أودعفي البشر الجنس ، كما فطره على الإيمان ، فهو لا يستطيع أن يتجرد عن المادة كليا ولا عن المعنويات ، فذهبت جهود القوم سدى ، لأنهارامت الباطل ، و هكذا قاوم الجاهليون على امتداد الزمن بعثة الرسل فأضل الله أعمالهم ، لأنها لم تكن في الإطار الصحيح .
[ الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ]
فلأنهم كفروا فقد أضل الله أعمالهم التي كانت ظاهرة الصلاح ، فحتى لو سقوا الحاج ، و عمروا المسجد الحرام ، فإنها لم تكن نافعة ، لأنها كما البناء الذي زلزل أساسه أو الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض .
فمن كفر بالله يكفر بقيم الرسالات ، بالحرية و الإستقلال و العدالة و المساواة و المنهجية العلمية و .. و .. ، و هذه القيم أساس كل عمل صالح .
و هكذا لا ينبغي أن نغتر بظاهر التقدم الذي يحرزه هذا الفريق من الناس ، لأنه ينطوي على تخلف خفي ، و لا يزال بنيانهم على شفا جرف هار .
أرايت كيف وظفوا تقدمهم في انتهاب ثروات الشعوب ، و استعباد المحرومين ، و العلو في الأرض بغير الحق ؟
أرأيت كيف أشعلوا نار الحروب ، و دمروا الديار لكي يحركوا عجلة اقتصادهم ببيع الأسلحة ؟
ألم تر كيف تسابقوا في صناعة اللعنة ، و ملأوا ترساناتهم بأدوات التدمير ذات الشر المستطير ؟
أليس ذلك شاهدا كافيا على تلك الحقيقة ، أن أعمالهم قد ضلت عن طريقها ، ولم تحقق أهدافا في رفاه الإنسانية و خيرها ؟
كما أنهم حين صدوا عن سبيل الله ، و قاوموا الرسالات الإلهية و امتداداتها ، فشلوا و ذهبت مساعيهم سدى ، و هل ينفع سعي من أراد حجب ضوء الشمس بيده ؟!
[2] أما الذين آمنوا بالله ، و آمنوا بكل تلك السنن الماضية في الكائنات و القيم المنبعثة منها ، فإنهم اختاروا الإطار المناسب لعملهم ، و بالتالي وفروا الضمانة المناسبة لبقاء أعمالهم ، كمن يبني في الصحراء سورا منيعا يحفظ أرضه من الرياح السافيات و العواصف الهوج ثم يزرع ما يشاء .
[ و الذين ءامنوا و عملوا الصالحات ]
ضمن إطار الإيمان ، و على أساسه ، و انطلاقا من قيمه .
[ و ءامنوا بما نزل على محمد ]
الرسول الذي أكمل الله به رسالاته ، فلم يفسدوا قلوبهم بالعصبية و الحقد و العداء للرسول و التكبر عليه .
و تشير الآية الى ضرورة الإيمان بالنبي محمد ( صلى الله عليه و آله ) بصورة كاملة ، فمن يزعم بأنه نبي العرب دون غيرهم ، أو أنه قائد بشري لا يتميز بالعصمة الإلهية ، أو أنه قد ينطق عن الهوى ، أو يهجر حسب الظروف ، أو ما أشبه ، فإنه لم يؤمن حقا بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد قال الله سبحانه : " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (1) ، وقال : " و إنك لعلى خلق عظيم " ، و قال : " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " .
(1) الحشر / 7
الإيمان بمحمد (ص) دليل لصدق الإيمان بالله ، فمن استكبر عن هذا الإيمان فإنه قد كفر بالحق وهو أساس كل إيمان .
[ وهو الحق من ربهم ]
فلأنه حق من الله لابد من التسليم له ، لا على أسس باطلة ، فلأن محمدا (ص) خليفة الله في الأرض لابد من طاعته و التسليم له ، لا لأنه قائد عربي أو سيد قرشي أو عظيم من بني هاشم .
ومن آمن بالرسول انطلاقا من هذه القيمة - قيمة الحق - آمن كذلك بخلفائه الأئمة الأبرار ، لأنهم الإمتداد الصادق له ، و من آمن بالأئمة على هذا الأساس فإنه يؤمن بالفقهاء الصالحين ، الذين هم ورثة الأنبياء و حجج الله بالنيابة .. وهكذا لا يجد المؤمن بالحقحرجا في نفسه من طاعة أولي الأمر الشرعيين ومن التسليم لكل ماهو حق ، لأن مقياسه في كل ذلك سواء .
اما من آمن بالرسول بحوافز مادية فإنه ينفصل عن خط الرسول ، و يمضي أنى اتجهت حوافزه ، فإذا وجد قائدا عربيا مخالفا للرسول أو سيدا قرشيا عاصيا لله أو عظيما هاشميا فاسقا فإنه لا يجد حرجا في أتباعه ، بينما الله يأمره بالكفر بالطاغوت و الثورة عليه .
[ كفر عنهم سيئاتهم ]
يبدو أن هذا جزاء إيمانهم . أتدري لماذا ؟ لأن الهدف الاسمى من تشريع الأحكام إبتلاء الإنسان في مدى طاعته للحق و تسليمه لمن أرسل به ، فإذا أطاع الإنسان ربه ، و سلم للقيادة الشرعية ، فقد ابتلي بأصعب الأمور ، ذلك لأن الطاعة في المسائل السياسية و الإجتماعية ، وحيث تعصف رياح الفتن ، و تغتلم
العصبيات ، و يعلو غبار الشبهات . إن هذه الطاعة هي صعب مستصعب لا يحتمله إلا من امتحن الله قلبه للإيمان .
و إن كثيرا من الناس ممن سكن شيطان الكبر و العصبية في قلوبهم يفضلون إداء أحمز الأعمال الصالحة على لحظة واحدة من التسليم للقيادة الشرعية فيما يخالف أهواءهم أو يعارض أراءهم .
من هنا يكفر الله سيئات من أطاع الله و رسوله و أولي الأمر الشرعيين تسليما لله و رضا بما فرضه عليه .
[ و أصلح بالهم ]
قالـوا : البال هو الحال أو الشأن ، و أمور الإنسان ، و أهم أحواله ، وقال بعضهم : هو القلب ، من قولهم : ما يخطر ببالي . (1)و إصلاح البال : رخاء الحال بما يرضي القلب .
و يبدو أن ذلك يتعلق بالأعمال الصالحة التي أدوها ضمن إطار الإيمان فأثمرت صلاحا في أنفسهم وما يتعلق بها من شؤون ، لأنها كانت في الطريق السليم ، ولو كانت في سبيل الكفر فإنها لن تثمر بل كان الله يضلها .
[3] كيف نقيم الناس ، و على أي مقياس ، هل بلغتهم أو وطنهم أو أنسابهم أو بقدر ما يملكون من مال و جاه و سلطة ؟ كلا .. لأن كل ذلك جاهلية و تخلف ، فهل تصادق كل من يتحدث العربية ولو كان خائنا شقيا ؟ و إيهما أفضل لك من يسكن بلادا بعيدة و يسدي إليك خدمة أو جارك السيء الذي دائما يؤذيك ؟ وهل
(1) القرطبي / ج 16 - ص 224
هما سواء عندك ابن عمك الذي يأكل أموالك بالباطل و القاضي الذي يرد حقك إليك ؟ وماذا ينفعك غنى الثري الذي يمتص دماء المحرومين ؟ و ماذا يضرك فقر البائس الذي يعيش إلى جنبك بوداعة و طيبة ؟
العقل يحكم بفساد تلك المقاييس جميعا ، و إنما المقياس هو الحق ، فمن اتبعه صاحبناه ، و من خالفه عاديناه ، أنى كانت سائر الوشائج بيننا و بينه .
وبما أن الكفار اتبعوا الباطل بما يحمل من أخطار عليهم وعلى الإنسانية فإننا نعاديهم ، حتى ولو كانوا ينطقون بلغتنا ، و يسكنون وطننا ، أو كانوا من ذوي أقاربنا .
بينما المؤمنون الذين يتبعون الحق نستريح إليهم ، لأن الحق ينفعنا جميعا ، حتى ولو كانوا من الأبعدين لغة ، و وطنا ، و قرابة .
[ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل و أن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم ]و العقل يعــرف الحق ، و لكن ليس بذلك الوضوح الذي يجعله مطمئنا بكل تفاصيله ، بينما الوحي الذي يهدينا إليه العقل يفصل مجملات العقل تفصيلا مبينا . العقل يحكم - مثلا - بحسن العدل ، و لكنه قد يتشابه عليه العدل في قضية فيقف حائرا ، وهنا يفصل الوحي حكم العدل فيها بما يستثيره من دفائن العقل ، و يكشفه من خبايا العلم ، وما يبينه من أحكام الشرع .
[ كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ]
المثال : مجموعة الصفات التي يجسدها الشخص ، فإذا قلنا : مثال فلان ، أيجملة نعوته الحسنة أو السيئة ، مما تستصحب على من يشابهه فيها ، وهي في مقابل الذات ، و الذات لا تهمنا ( لأن الناس في الذات لا يختلفون ) ، إنما يهمنا الصفات التي تحيط بهذه الذات ، وهي مثالهم .
و حين يعطينا القرآن مقياس الحق و الباطل فإنه يبين لنا أمثال الناس ، و جملة صفاتهم ، و التي بها نستطيع أن نعرف كيف نتصرف مع هذا و ذاك ، فمن اتبع الحق واليناه ، لأنه ( مثل حسن ) ، و من اتبع الباطل عاديناه ، لأنه ( مثل سيء ) .
[4] و لأن هنالك مثالين : مثال الحق المتجسد في المؤمنين ، و مثال الباطل المتجسد في الكفار ، فإن الصراع قائم بينهما ، و يتحول إلى قتال ، و على المؤمنين أن يستعدوا نفسيا للمواجهة .
[ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ]
اللقاء هنا هو لقاء المواجهة الدامية ، ولا يعني - فيما يبدو من سياق الكلمة في سائر الآيات - أي لقاء بين مؤمن و كافر .
و ضرب الرقاب : تعبير عن أشد أنواع القتل و أوضح صوره ، و به يتجلى الغضب المقدس الذي تمتلأ به روح المؤمن المخلص للحق .
و قالوا : معناه : اضربوا ضرب الرقاب .
و لعل الكلمة توحي بضرورة حسم المعركة بأقوى الأسلحة ، مما تسمى بالحرب الصاعقة التي عادة تقلل من الخسائر في الطرفين ، بعكس حرب الإستنزاف التي قد تكون وبالا على الطرفين .
و لعل الحرب الصاعقة هي المرادة أيضا من آيات أخرى في الكتاب ، كقولهسبحانه : " فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم " .
[ حتى إذآ أثخنتموهم ]
قالوا : الثخن بمعنى الغلظة ، و يطلق على الغلبة ، و نقل عن لسان العرب اثخن إذا غلب و قهر ، و قال البعض : أنه بمعنى تراكم القتلى و الجرحى فوق الأرض .
[ فشدوا الوثاق ]
أي قيدوهم بحبل أو ما أشبه بشدة كناية عن أسرهم .
و يستوحى من الآية أن مرحلة أخذ الأسرى متأخرة عن مرحلة القتال ، فلا ينبغي أن ينشغل الجيش قبل قهر عدوه بالأسرى .
[ فإما منا بعد و إما فدآء ]
هنالك يختار القائد بين أن يمن على الأسير بإطلاق سراحه ، حين لا يرى في إبقائه مصلحة أو يرى في إطلاق سراحه مصلحة هامة للمسلمين ، و بين أن يقبل الفدية التي قد تكون قدرا من المال يفرض على العدو بإزاء كل أسير ، و قد تكون بعض التنازلات و الضمانات أو ماأشبه ، و لعل من معانيه القيام بتبادل الأسرى مع العدو .
و قال الفقهـاء تبعا للنصوص الشرعية : إن هنالك خيارا ثالثا هو استرقاق الأسرى .
[ حتى تضع الحرب أوزارها ]
و الوزر هو الثقل ، و الحرب ثقيلة على الأمة بما فيها من مشاكل ، كما أنساحات القتال تشهد الأسلحة و الأدوات و الأجهزة القتالية و إذا توقف القتال أعيدت كليا إلى المخازن ، و هذه كناية عن توقف الحرب ، و لكن متى تتوقف حرب المسلمين مع أعدائهم بصورة كلية ؟
إن من السذاجة الركون إلى السلم في عالم تحكمه شريعة الغاب ، يأكل القوي الضعيف ، و ينفق الأعداء قسما كبيرا من مواردهم في الإستعداد للحرب ، بالرغم من أن النفوس تكره الحرب بطبعها ، و تميل إلى الخفض و الدعة ، و قد ينخدع الإنسان بمظاهر الود و الموادعة الحاكمة على الأجواء ، فلا يعد نفسه للقتال ، فيؤخذ على غرة .
لذلك أمرنا القرآن بالإستعداد أبدا للدفاع عن أنفسنا وعن الرسالة التي نحملها إلى الإنسانية المعذبة ، فقال : " و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل " . فمادام المسلمون يرفضون التخلي عن قيمهم و استقلالهم و حقوقهم فلابد أن يستعدوا للدفاع المقدس ، و قد يكون الإستعداد التام للدفاع أفضل وسيلة لتجنب ويلات الحرب ، لأنه يردع الأشرار من الإعتداء .
لذلك جاء في الحديث المأثور عن النبي ( صلى الله عليه وآله و سلم ) : " و الجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " . (1)[ ذلك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ]فالله سبحانه الذي دمر عادا الأولى بالريح الصرصر ، و أهلك ثمود فما أبقى ، و لم يذر أحدا من القرى المؤتفكة من قوم لوط ، أوليس بقادر على أن يبعث على كل طاغية و مستكبر صاعقة من السماء فيهلكهم ؟ بلى . وقد يفعل بهم عندما يبلغون(1) مجمع البيان / ج 6 - ص 98
آجالهم ، لأنه ينصر دينه بما يشاء ، كيف يشاء .
بيد أن حكمة الحرب التي يخوضها المسلمون تتلخص في إظهار خبايا المسلمين ، و إبلاء سرائرهم .
أولا : بفصل الصادقين منهم عن الكاذبين .
ثانيا : بتطهير قلوب الصادقين منهم من شوائب النفاق و المصلحية .
وقد قال ربنا سبحانه ( وهو يبين الهدف الأول ) : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين " (1) ، و قال تعالى ( وهو يشير إلى الهدف الآخر ) : " و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين " . (2)
و إذا كانت الحــرب بوتقة تطهر المجتمع الإسلامي من العناصر الضعيفة و المنافقة ، كما تطهر قلب كل من يخوضها من أدرانه ، فإن علينا أن نتخذ منها مدرسة للبطولة و الإيثار ، لا ننشد منها فخرا ولا نصرا ، و إنما نسعى لتزكية أنفسنا فيها ، و تربيتها على الشجاعة و الفداء ، و نتبع في ذلك الإمـام علي ( عليه السلام ) حيث يقول : " و الله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها " (3) ، و يقول وهو يوصي نجله محمد بن الحنفيـة حين يدفع به في أتون المعركة : " تزول الجبال ولا تزل عض على ناجذك . أعر الله جمجمتك . تد في الأرض قدمك . إرم ببصرك أقصى القوم ، و غض بصرك ، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه " (4) .
(1) آل عمران / 142
(2) آل عمران / 141
(3) نهج البلاغة / كتاب 45
(4) المصدر / ص 55
و إذا كان الهدف من الحرب الأساسي إبتلاء المؤمنين فإن النصر من عند الله ، ينزله عليهم متى تمت حكمة الإبتلاء ، و علم منهم الصبر و الإستقامة ، سواءا توافرت عوامل النصر المادية ، أم لا ، و معرفة هذه الحقيقة تزيد الجيش الإسلامي بطولة و استبسالا و صبراو استقامة .
[ و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ]
لأنهم مضوا على النهج الإلهي ، و استشهدوا في سبيل الله ، فإن الله الذي لا تضيع عنده الودائع ، الله الذي له ملك السماوات و الأرض . إنه سبحانه يحفظ أعمالهم ، و يؤيد بقدرته القضية التي ضحوا من أجلها ، و هذا هو أهم ما ينشده العاملون في سبيل الله .
و نستوحي من هذه الآية أن الدم المقدس الذي يرخصه صاحبه في سبيل الله هو السياج المنيع لقيم الرسالة .
و ربمــا اشار الى ذلك الحديث المأثور عن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) في فضل الجهاد في سبيل الله :
" للجنة باب يقال له باب المجاهدين ، يمضون إليه فإذا هو مفتوح ، و هم متقلدون سيوفهم ، و الجمع في الموقف ، و الملائكة ترحب بهم ، فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا في نفسه ، و فقرا في معيشته ، و محقا في دينه . إن الله تبارك و تعالى أعز أمتي بسنابك خيلها ، و مراكز رمحها " (1)
[5] الأمة التي تجاهد في سبيل الله لا تضيع جهودها ، و لا تضل أعمالها .إنها سوف تحقق أهدافها ، ولا يستطيع أحد أن يصادر حقوقها ، و ينهب ثرواتها .
(1) بحار الأنوار / ج 97 - ص 9
أليست تقاوم المعتدي ، و تصنع حول حقوقها و جهودها سورا منيعا من بطولات أبنائها و دماء شهدائها ؟
و هذه الأمة لا تضل طريقها ، لأن الله يهديها بفضل جهادها في سبيله .
[ سيهديهم ]
إن الجبن أكبر حاجز دون فهم الحقائق ، و كثير من الناس يبررون الفساد و التبعية جبنا و فرارا من مواجهة السلطات الطاغية ، و هكذا يخدعون أنفسهم ، و يسلب الله عنهم نور الهداية ، و يذرهم في ظلمات الجهل ، أولم يقل ربنا سبحانه : " و الله لا يهدي القومالظالمين " ؟
بينما المجاهدون الذين يتقدمون بخطى شجاعة حتى الشهادة في سبيل الله ، يتبصرون الحقائق بوضوح كاف ، لأنهم مستعدون لمواجهتها أنى كانت عواقب المواجهة .
وهذه الهداية التي يورثها الشهداء لأمتهم تتصل بالهداية في الآخرة حيث تبلغ بهم منازلهم في الجنة .
[ و يصلح بالهم ]
إن الشهادة عنوان الإستقلال ، و سور التقدم ، و طريق الغنى ، و سبيل العزة ، و أمة تملك الشهداء لا تعدم هذه المكاسب .
إن الحياة السعيدة المطمئنة الصالحة رهينة الدماء التي تراق في سبيل الله .
و صلاح البال و رفاه الحال في الدنيا يتصل بصلاح بال الشهداء في الآخرة ( بلو صلاح بال من هم في خطهم و على خطاهم من أنصارهم ومن تجري فيهم شفاعتهم ) حيث هم أحياء عند ربهم يرزقون .
وهكذا نستوحي من الآية أن المعني بها ليس فقط الشهداء أنفسهم ، بل أمتهم ايضا و ليس في الآخرة فحسب ، بل في الدنيا أيضا ، أوليست الآخرة امتدادا للدنيا ، و هما بالتالي حياة واحدة أولها هنا و آخرها هناك ؟
و إننا نجد في النصوص الإسلامية التي وردت في فضل الجهاد توضيحا لهذه الشمولية ( للدنيا و الآخرة ) ، لأن المجاهدين كلمة تعم الشهداء منهم و الأحياء المنتظرين للشهادة ، كما قال ربنا سبحانه : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " . (1)[6] [ و يدخلهم الجنة عرفها لهم ]
تلك الجنة التي طالما اشتاقوا إليها بما عرفها ربهم لهم ، و ربما شاهد كل واحد منهم منزله في الجنة قبل خروج روحه لينتقلوا الى الدار الآخرة بكل رضا و طمأنينة ، فقد جاء في حديث مفصل مأثـــور عـــن أمير المؤمنين عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) :
" و إذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله عز و جل زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة ، فإذا وصل إلى الأرض تقول له : مرحبا بالروح الطيبة التي أخرجت من البدن الطيب . أبشر فإن لك ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
و يقول الله عز و جل : أنا خليفته في أهله ، و من أرضاهم فقد أرضاني ، و من أسخطهم فقد أسخطني ، و يجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة(1) الاحزاب / 23
حيث تشاء ، تأكل من ثمارها ، و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش ، و يعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس ما بين صنعاء و الشام ، يملأ نورها ما بين الخافقين ، في كل غرفة سبعون بابا ، على كل باب سبعون مصراعا من ذهب " (1) .
[7] و يحرض القرآن الذين آمنوا ، و استعدوا لتنفيذ أوامر الرسالة ، و عرفوا قيم الحق الذي أنزل من ربهم ، يحرضهم على الجهاد في سبيل الله بنصر دينه ، و يبشرهم لقاء ذلك بالفتح و الثبات .
[ يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم ]ذلك أن الإيمان ليس مجرد العمل بالإسلام في حدود القضايا الشخصية ، و إنما ايضا تحمل مسؤولية الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض .
و ربما جاء التعبير بنصر " الله " مع أن الله غني عن العالمين ، ليكون شاملا لنصر كل ما يتصل بالإيمان بالله ، في كل حقل ، وفي كل عصر و مصر ، حتى يكون المؤمن قواما لله ، مستعدا للدفاع عن الحق أبدا في مواجهة أي شخص أو قوة .
و إنما جزاء النصر نصر مثله ، فمتى نصرت الله بتطبيق دينه على نفسك و أهلك و الأقربين منك و مجتمعك ، و دافعت عنه ضد أعداء الله ، فإن الله ينصرك بذات النسبة . أما إذا اقتصر نصرك على بعض المجالات فلا تنتظر نصرا شاملا .
و هكذا تتسع آفاق هذه الآية لكل جنبات الحياة ، و لا تختصر في الجهــاد المقــدس ، بالرغم من أنه المثل الأعلى لها .
(1) راجع موسوعة بحار الأنوار / ج 100 - ص 13
و ثبات القدم هو التأييد الرباني الأسمى ، لأن هزيمة النفس أنكر هزيمة ، و الحرب صراع إرادات قبل أن تكون مقارعة الأسلحة ، و من كان أكثر صبرا ، و أمضى إرادة ، و أعظم ثباتا ، فإنه يكون أقرب إلى النصر .
و صراع الإنسان مع هوى نفسه أعظم من صراعه مع أعدائه . ألم تكن مخالفة الهوى هي الجهاد الأكبر ؟ و الله سبحانه قد وعد المؤمنين بأن يعينهم في جهادهم مع أنفسهم إن هم نصروا دينه و جاهدوا أعداءه ، و هذه أعظم نعمة من نصرهم على عدوهم الظاهر .
و الواقع : إن سنة الله قد قضت بأن القيم و الشرائع التي أريقت الدماء من أجل تكريسها أشد ثباتا في النفوس و في المجتمع من غيرها ، و هكذا في كل أمر ، فكل مكسب حصلت عليه بصعوبة لابد أن تتشبث به بشدة ، أما الذي ملك البلاد بغير حرب فإنه يهون عليه تسليمالبلاد .
[8] أما الكفر الذي يتشعب إلى شعب ، فمنه الكفر بالله ، و منه الكفر بالرسول ، و منه الكفر ببعض ما أرسل به كالجهاد في سبيل الله ، فإنه يؤدي الى زلزلة الموقف ، و ضياع الجهد .
[ و الذين كفروا فتعسا لهم ]
قالوا : التعس هو الوقوع على الوجه ، و كأنه تعبير عما يقابل ثبات القدم .
[ و أضل أعمالهم ]
حتى الذي يبدو صالحا من أعمالهم ، لأنه لم يكن على الطريق السوي .
[9] ما هو سبب كفرهم و هلاكهم ؟ إن جذر ذلك كرههم لرسالة الله المنبعثمن كبرهم و تعصبهم و تقليدهم لآبائهم ، فاتخذوا موقفا سلبيا من الرسالة .
[ ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله ]
و بالذات فيما يخالف هواهم ، أو يعارض مصالحهم كالسياسة و الإقتصاد .
[ فأحبط أعمالهم ]
فإذا لم يسلموا لولاية الله في السياسة و الإقتصاد و سائر الأمور الأساسية لم تنفعهم صلاتهم و صدقاتهم ، لأنها لم تكن ضمن الإطار الصحيح ، و كان مثلهم كالذي زرع في غير أرضه أو سعى بغير هدى أو سار على غير طريقه .
إن عشرات السنين من الجهد قد تذهب بها ساعة من التهور أو الجبن أو اتباع الشهوة ، كالذي يبني أعظم عمارة فوق أرض رملية ! أرأيت كيف يقود طاغية مهووس بالسلطة باحث عن الكبرياء في الأرض شعبه الذي سلم له خوفا و طمعا في حرب طاحنة ، تهدم البلاد ، و تقتل الملايين ، و تضيع مساعي عشرات السنين في بضعة أيام ؟ أو ما سمعت ما حدث في المانيا على عهد الطاغية هتلر ، و كيف أنهم بخضوعهم لذلك الديكتاتور أحبطت أعمالهم ، و تلاشت جهودهم ؟
وكم من مثل يتجلى لنا في صفحات التاريخ لهذه المعادلة .
وليس الإقتصاد الفاسد بأقل خطرا من السياسة الفاسدة ، فإن الإستغلال قد يذهب بمكاسب الملايين من البشر ، و لا يدعهم يستفيدون من مكاسبهم . أليس من الحكمة أن يصلحوا اقتصادهم حتى لا تحبط أعمالهم ، ولا تذهب جهودهم سدى ؟
قالوا : إن الجسم الذي يبتلى بالطفيليات لا تنفعه المقويات ، إذ أنها بدل أن تقوي الجسد تقوي عدوه المتمثل في الطفيليات ، و كذلك الإقتصاد المبتلى بالمستغلينلا ينشط إلا لمصلحتهم ، و باعتبارهم أعداء الإقتصاد فإن دورة نشاطه لا تزيده إلا تخلفا ، وهذا أحد معاني الإحباط .
وفي الأخلاق - كما في السياسة و الإقتصاد - تصدق هذه المقولة ، فإنك تجد البعض من الناس يفقدون في لحظة تهور أو نزق ما اكتسبوه من سمعة حسنة خلال عشرات السنين . أليس ذلك يعني الإحباط ؟
و بكلمة : إنما ينفع العمل إذا كان أساسه سليما ، أما العمل القائم على أساس منهار فإنه ليس لا ينفع فقط ، بل وقد يصبح خطرا على صاحبه .
و أساس العمل الصالح : السياسة الصالحة ، الإقتصاد الصالح ، القيم الراشدة في السلوك .
[10] و التاريخ أفضل مدرسة ، و السير في الأرض لدراسة تجارب الأولين على الطبيعة أفضل منهج في هذه المدرسة ، إذ يجعلنا نلمس الحقائق بصورة مباشرة بعيدا عن تفسيرات المتخلفين ، و خرافات الأولين .
[ أفلم يسيروا في الأرض ]
دعنا نسير في مناكب الأرض لنبحث عن آثار الأولين فيها ، بشرط ألا تستوقفنا الآثار بل العبر التي وراءها .
[ فينظروا ]
بأم أعينهم على الطبيعة ، دون وسائط نقل ، و تفسيرات خاطئة .
[ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ]
كان الدمار شاملا فوقهم ، فلم يبق من أنبائهم و أموالهم و ديارهم شيء ، و هذه ليست خاصة بعصر دون عصر ، إنما هي شاملة لكل العصور .
[ و للكافرين أمثالها ]
فكل كافر لابد أن ينتظر شيئا مشابها لذلك العذاب ، لأن سنن الله لا تتغير .
[11] مـا الذي يضمن أعمال المؤمنين ؟ إيمانهم بالله ، و دخولهم في حصن ولايته ، وهي الولاية الحق التي تشمل الخليقة . أما الكفار فهم بقوا خارج هذا الحصن المنيع فضاعت جهودهم ، و تلاشت مساعيهم .
[ ذلك بان الله مولى الذين ءامنوا ]
و قد زعم الكفار بأن الآلهة المزيفة تحفظهم و تحفظ أعمالهم فخاب سعيهم ، لأن الآلهة ليست أبدا موالي بحق . إنهم ضعفاء مثلهم ، وهل يحمي ضعيف ضعيفا ؟
[ و أن الكافرين لا مولى لهم ]
|