فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الإطار العام


لقد كان صلحا صاخبا ذلك الذي رجع المسلمون به من مكة بعد أن تمنوا دخولها منتصرين أو لا أقل آمنين ، و الصلح مع مشركي قريش واحد من أهم أحداث السيرة النبوية إثارة للجدل .. إذ كيف يمكن للمؤمنين الذين امتلأت نفوسهم غضبا على الكفار و سوقا الى القتال معهم، و شوقا الى الشهادة أن يصالحوا عدو كافر ظالم ؟

و لعل نزول سورة كاملة في هذا الموضوع و تسميتها باسم الفتح دليل على حساسية معالجة موضوع الصلح ، و من زوايا عديدة .

أولا : إن الصلح لا يعني تسليما ، ولا ضعفا ، ولا تنازلا عن الأهداف الاستراتيجية للامة .

ثانيا : لا يعني الصلح تغليب رأي المنافقين الداعين الى الصلح أو التهاون بالتعبئة العسكرية .


ثالثا : الصلح أو الحرب رهين أوامر القيادة ، و الامة المتمسكة بحبل قيادتها الإلهية لن تهزم لا في الحرب ولا في الصلح .

ولعل هذه الزوايا هي مجمل محاور هذه السورة الكريمة التي وصفت الصلح بأنه فتح مبين ، و أن الله قد غفر لنبيه ما تقدم وما تأخر مما اعتبرها الأعداء ذنوبا ، وأنه هداه الى الصراط المستقيم الذي يؤدي الى أهدافه السامية و التي منها النصر العزيز .

و بعد هذه البراعة في افتتاح السورة ( 1/3) نجد القرآن يمدح المؤمنين ، الذين أطاعوا الرسول في الصلح بمثل طاعتهم له في الحرب ، و يجعل ذلك وسيلة للنصر ، حيث أنه سبحانه أنزل سكينته في قلوب المؤمنين .. و علموا أنهم لمنصورون ما داموا قد انتظموا في سلك جند الله ، الذي له جنود السماوات و الأرض ، و أنهم ينتظرون جنات تجري من تحتها الأنهار .

أما المنافقون الذين خالفوا الرسول في السلم بمثل مخالفتهم له في الحرب فان الله يعذبهم ، لأنهم ظنوا بالله ظن السوء - وأنه لا ينصرهم - فدارت عليهم دائرة السوء أنى اتجهوا وجدوا سوءا ، و غضب الله عليهم و لعنهم و أعد لهم جهنم .

إذا محور المجتمع الاسلامي هو الرسول الذي لو نصحوا له أطاعوه مخلصين سعدوا به ، لأن الله قد أرسله شاهدا و مبشرا و نذيرا ، و جعله محورا لحياتهم ، ليؤمنوا بالله و رسوله ، و يعزروه و يوقروه .. و يعظموا الله بتعظيم رسوله . ذلك أن يد الرسول هي يد الله، و يد الله فوق أيديهم .

و ينعطف السياق على المنافقين الذين أرادوا أنتهاز فرصة الصلح ليطعنوا في مصداقية الرسالة و يقول : سيقول الاعراب الذين تخلفوا عن الرسول في خروجه الى مكة شغلتنا أموالنا و أهلونا ، و يريدون العودة الى صفوف الرسالة بعد أن أبعدواعنها بتخلفهم ، و لكن الله يفضح مكرهم و أنهم كانوا يرجون ألا يعود الرسول اليهم ، و ظنوا ظن السوء فكانوا قوما بورا - هالكين - .

و الآن حيث صعد نجم المسلمين و طوعوا أكبر قوة في الجزيرة - قريش - حتى اعترفت بهم كقوة سياسية مناوئة ، يريد الانتهازيون الالتحاق بركب الرسالة طمعا في المغانم ، و هذه من مشاكل الصلح دائما . و رفض الاسلام عودتهم إلا إذا استعدوا للجهاد إذا دعوا اليه مرة أخرى ، فيومئذ إن أطاعوا يؤتيهم الله أجرا حسنا ، و إن تولوا - كما في السابق - يعذبهم الله عذابا أليما .

و بعد ان استثنى السياق من هذا الحكم المرضى و المعوقين عاد و أثنى على المؤمنين الذين بجهودهم حصل المسلمون على هذا الصلح حيث أنهم بايعوا الرسول على القتال تحت شجرة كانت هنالك فرضي الله عنهم ، و أنزل السكينة عليهم ، و أثابهم - في الدنيا - فتحا قريبامتمثلا في مكاسب صلح الحديبية ، ثم فتح مكة . و يعدد الله مكاسب المؤمنين بما يلي : صلح الحديبية كما أنه صد أذى الناس عنهم ، و جعل ذلك آية ، و عبرة تاريخية يستفيد منها المؤمنون .

وكان نصر المؤمنين على اقتدار ، وليس عن ضعف أو ذل و مهانة ، فلو قاتلهم الذين كفروا عند مداخل الحرم المكي لولوا الأدبار وهذه سنة الله التي لا تتبدل ، ولو أن الله أراد لشب القتال و انهزم الكفار ، و لكن لحكمة كف الايدي عن الحرب ببطن مكة . وكانت قريش تستحق القتال ، فقد صدوهم عن المسجد الحرام ، أما حكمة كف الايدي فلأنه كانت طوائف من المؤمنين متداخلين مع قريش يعملون بالتقاة .

قتال المؤمنين لا ينبعث من العصبية بل من مصلحة الرسالة لذلك فهو يدور على محور المصلحة الايمانية ، بينما قتال الكفار ينطلق من منطلق العصبيات الجاهلية ،و لذلك فهم لا يبلغون أهدافهم به .

فقلوب الكفار مليئة بالحمية الجاهلية ، بينما تعتمر أفئدة المؤمنين بالسكينة الايمانية ، لأنهم قد التزموا بكلمة التقوى .

هذا وقد تبين صدق الرؤيا التي رآها الرسول ، بأنه يدخل المسجد الحرام هو و المؤمنين بالحق ، بلا خوف فجعل قبله فتحا قريبا . أما الهدف الأبعد فهو أن يظهر الدين الاسلامي على الدين كله ولو كره المشركون .

وفي خاتمة السورة يبين القرآن صفات أصحاب الرسول الذين اتبعوا الرسول في ساعة العسرة ، في السلم كما في الحرب ، و يبين أن كل فضائلهم آتية من علاقتهم بعبادة ربهم ، و التبتل إليه ، لذلك تراهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، يبحثون عن رضوان ربهم سيماهم فيوجوههم من أثر السجود ..

و بهذا تحيط السورة بكل زوايا الصلح مع قريش ، و تعالج المشاكل الجانبية التي قد تنشأ من أي صلح محتمل مع عدو كافر .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس