نات من الآيات [22] بالرغم من قوة قريش و حلفائها التي تفوق في ظاهرها قوة المسلمين ، و بالرغم من اعتقادهم - و ربما اعتقاد كثير من المسلمين - بأن الحرب بين الطرفين تعني غلبتهم على حزب الله ، يؤكد ربنا لرسوله و للمؤمنين أن الحرب لو دارت رحاها لانتصروا عليهم ، و لهزموهم شر هزيمة .
[ ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ]
فرارا من المواجهة ، دون أن تجرأ قوى الحلفاء كثقيف و هوازن على إسناد قريش ، لأنها هي الأخرى سوف يدخلها الرعب مما يسلبها شجاعة اتخاذ قرار الدعم و النصرة .
[ ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ]
إن أولئك الذين كانوا يعتقدون بقيادة قريش ، و يسلمون لولايتها عليهم ، سوف تتبدل قناعاتهم فيها ، لأنهم إنما صاروا الى ذلك ثقة في قوتها و قدرتها ، وقد هزمت فهي إذن لا تستحق أن تتولاهم .. ثم لنفترض أنهم تدخلوا لصالحها في الحرب ، فهل ذلك يبدل هزيمتهم الى نصر ؟ كلا .. وما هي قوتهم أمام إرادة الله ؟
[23] ثم ليعلم هؤلاء و أشباههم عبر الزمن أن انتصار الحق على الباطل سنة إلهية ثابتة تحكم الحياة بإذن الله ، و قد عجز أسلافهم الذين هم أشد قوة منهم عنتغيير هذه السنة ، فكيف بهم ؟ وهب أنهم أقوى من الغابرين ، أو جاء في التاريخ من هو أقوى من أولئك ، فهل يغلب الله على أمره ؟
[ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ]أولم ينتصر نوح على كل الكافرين في الأرض ؟
أولم ينتصر طالوت بفئته القليلة من المؤمنين على الكافرين في عصره ؟
أولم يقـل اللـه : " كــم مـن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين " (1) ؟
[24] إن الإنتصار القياسي الذي بلغه المسلمون في صلح الحديبية لم يكن بدهاء منهم ، أو بأن قريشا رحمتهم فكفت أذاها عنهم ، و إنما الله هو الذي صير الأمور الى هذه النتيجة ، " و كف أيدي الناس عنكم " (2) ، بلى . لقد بلغ المسلمون هذه المكاسب السياسية و المعنوية من دون أدنى خسارة عسكرية ، و الحال أن الوصول إلى ذلك محال بالطرق الطبيعية ، و لو تحقق لاقتضى الأمر تضحيات عظيمة .
[ وهو الذي كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ]
فمن ناحية من الله على المؤمنين بالخلاص من أيدي المشركين قبــل صلح الحديبية ، ومن ناحية أخرى من على المشركين حين عفى عنهم الرسول (ص) بعد الفتح .
[ ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم و كان الله بما تعملون بصيرا ](1) البقرة / 249
(2) الفتح / 20
ومع ورود هذه الآية في سياق الحديث عن صلح الحديبية إلا أنها تشير كما يبدو إلى فتح المسلمين عسكريا لمكة المكرمة .
[25] ولكن لماذا كف الله أيدي المؤمنين عن المشركين ، ولم يأمرهم بقتالهم ؟ هل لأنهم طيبون ؟ أو لأن لهم فضلا و سابقة حسنة معهم ؟ بالطبع كلا .. و تشهد على ذلك عقائدهم المنحرفة و أعمالهم السيئة تجاه أتباع الرسالة .
[ هم الذين كفروا و صدوكم عن المسجد الحرام و الهدي معكوفا أن يبلغ محله ]لقد منعوا المؤمنين من حج بيت الله بالرغم من تهيئهم التام لذلك ، و كان ذلك من أبشع الجرائم في عرف العرب يومئذ ، لقد فضح ذلك قريشا التي كانت تفتخر على سائر العرب بأنها حامية البيت الحرام ، و حافظة حرمة الوافدين إليه .
ماذا بقيت لقريش من شرعية السيادة على العرب بعد أن منعت الحجاج و صدتهم عن إقامة الشعائر التي كانت العرب تقدسها ؟
هكذا كشف النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عن زيف ادعاءات قريش ، و أسقطها سياسيا عن كرسي سيادة العرب تمهيدا لاسقاطها عسكريا فيما بعد .
ثم إن جريمة قريش كانت كبيرة ، إذ كيف يمنع المشرفون على البيت ، و المدعون خدمة الوافدين عليه الناس من ممارسة شعائرهم ؟! أولا يستحق هؤلاء القتل و العذاب بعد ظفر المسلمين بهم ؟ نعم . و لكن الله جحز المؤمنين عن أذاهم لوجود المؤمنين بينهم ، سواءا المؤمنين بالفعل ممن أخفى إيمانه تقية ، أو الذين هم على أعتاب الدخول في الدين ، و يحدثون أنفسهم بالانتماء الى الرسالة .
[ و لولا رجال مؤمنون و نسآء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ]يعني لو كنتم تقاتلون الكفار - دون أن يكف الله أيديكم عنهم - لكنتم تقتلون فيمن تقتلون المسلمين من دون علم ، لأنهم كانوا يكتمون إيمانهم على خوف من قريش ، ولأن شروط الصلح كانت لا تسمح لهم باللجوء اليكم ، و لو فعل المؤمنون ذلك لربما أضرهم ، و لكن اللهلم يأمرهم بالقتال .
و نعرف من هذه الآية أولا : أن المؤمنين استفادوا من فترة السلام التي وفرها الصلح في تقوية أنفسهم و بناء حركتهم و توسيعها ، إلى الحد الذي اخترقوا فيه كيان قريش نفسها ، و حيث سارت جيوش الاسلام لفتح مكة كانت قريش منخورة الكيان من الداخل ، و كان الجند- و ربما كثير من الزعماء الذين ينتظر منهم محاربة أتباع الرسالة - ينتظرون الفرصة المناسبة للتلاحم مع صف المؤمنين ضد أعدائهم ، و هذا بالفعل ما تؤكده سورة النصر : " و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " ، و ربما لذلك أيضا لم تجد قريش نفسهاقادرة على اتخاذ قــرار المواجهــة العسكريــة ضد الجيوش القادمة من المدينة بقيادة الرسول الأعظم (ص) ، الأمر الذي جعل المسلمين يدخلون مكة فاتحين دون تضحيات .
و ثانيا : أن المؤمنين كانوا يجهلون هذه المكاسب العظيمة للصلح ، و ذلك هو الذي جعل بعضهم يعترض على الرسول ، و ربما طفق يشك في قيادته ، فهم لم يكونوا يعلمون بالجبهة الايمانية الموجودة في صفوف أهل مكة ، و قول بعضهم و قد حمل الراية ( اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة ) دليل واضح على هذه الحقيقة .
ومن هذا المنطلق يجب أن نستفيد درسا في علاقتنا بالقيادة الرسالية ، و هو أن جهلنا بخلفيات قراراتها لا يعني أنها خاطئة ، و يجب أن لا يدفعنا ذلك إلى التشكيكفيها ، فليس بالضرورة أن يتضح لنا كل شيء ، لأن كثيرا من الأمور يكشف عنها المستقبل ، و رؤيتها تحتاج إلى بصيرة ثابتة و معلومات متكاملة ، مما لا تتوافر إلا عند القيادة الشرعية الرشيدة .
[ ليدخل الله في رحمته من يشآء ]
أي في الايمان ، وهل خلق الله الناس إلا ليرحمهم ؟ " إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم " (1) ، ولو أن المؤمنين قاتلوا المشركين يومذاك لقتلوا الكثير ممن دخلوا الدين فيما بعد ، و منعوا عنهم رحمات الله و بركاته ، و هكذا ينبغي أن تكون استراتيجية الدولة الاسلامية قائمة على أساس اجتذاب الناس الى الدين ، ولو بتقديم بعض التنازلات ، وليس تحطيم الخصم و قهر إرادته ، ولو سبب ذلك إثارة البغضاء في أنفسهم مما يشكل حاجزا نفسيا يمنعهم مستقبلا من الدخول في الدين .
بلى . لو امتاز الفريقان لعذب الله المشركين و الكافرين بسيوف عباده المؤمنين .
[ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ]وفي الروايات المأثورة : إن الله ليدفع البلاء عن القرية بالمؤمن ، و جاء في الحديث القدسي : " لولا شيوخ ركع ، و شباب خشع ، و صبيان رضع ، و بهائم رتع ، لصببت عليكم العذاب صبا " (2) .
[26] و لكن لماذا ينذر الله الذين كفروا بالعذاب في الآية السابقة ؟ هل لأنهم من قريش أم لقيمة مادية أخرى ؟ كلا .. إنما للحمية المرتكزة في قلوبهم .
[ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ](1) هود / 119
(2) كلمة الله / للشهيد الشيرازي / ص 76
فالحق ظاهر و بين لهم ، و يعلمون أنهم على الباطل ، و لكن العزة بالاثم ( القيم الجاهلية التي درجوا عليها ) لا تدعهم يقبلون الحق ، و يسلمون لقيادة الرسول ، فالقائد في نظرهم يجب أن يكون أكبر القوم سنا ، و أكثرهم مالا و نفرا ، فكيف يقودهم رجل يتيم لا مال له ؟
لهذا فإنهم وهم يحاربون أتباع الرسالة لم يكونوا يدافعون عن حق يؤمنون به ، و إنما يحمون أنفسهم و يدافعون عن قيمهم الجاهلية ، بينما المؤمنون يقاتلون من أجل الله ، و يدافعون عن القيم و القائد الحق .
[ فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين ]
بينما خذل من جهة أخرى فلول الكفار ، لأن هؤلاء ينصرونه فهم أولى بنصره ، بينما ينصر أولئك أصنامهم و شهواتهم . ولعل هذه السكينة كانت أعظم وسيلة لنصرهم ، فمن اطمأن إلى سلامة خطه حارب دونه بشجاعة فائقة ، بينما الذي يحارب للعصبيات الزائفة ينهزم نفسيا قبل أن ينهزم عسكريا ، وقد قيل : الحرب صراع إرادات ، ولا ريب أن إرادة صاحب السكينة أمضى .
[ و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها ]
و كانت كلمة التقوى مقابل الحمية التي تعشعش في قلوب الكافرين ، ومن شواهد التزام المؤمنين بها في سلوكياتهم موقف رسول الله (ص) حينما أراد التوقيع على الصلح ، فأنكروا عليه كلمة ( الرحمن الرحيم ) ، و أن يسمى رسول الله ، فقد تنازل عن ذلك لمصلحة الرسالةمع أن الموقف كان محرجا و لكنه (ص) لم تأخذه الحمية ، ولم يسمح للعواطف المستثارة أن تؤثر في خططه الرشيدة .
إن التقوى ليست مجرد كلمة يقولها الانسان ، بل هي برنامج متكامل و التزاماتيفرضها الدين على أتباعه ، و من دونها لا يكون أحد متقيا ، لأن للمتقي صفات و علامات من أبرزها التزامه بقيمة التقوى في كل ظرف أو وضع نفسي يمر به ، فإذا سخط لم يخرجه سخطه عن رضى ربه ، و إذا رضي لم يدخله رضاه في سخطه ، إنما هو ملتزم برضى الله ، يسخط لسخطهو يرضى لرضاه عز و جل .
و جاء في رواية عن أبي جعفر (ع) : " إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق ، و المؤمن الذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي و إلى ما ليس له بحق " (1) .
وقال الصادق (ع) : " من ملك نفسه إذا رغب و أذا رهب ، و إذا اشتهى ، و إذا غضب و إذا رضي ، حرم الله جسده على النار " (2) .
وعن رسول الله (ص) قال : " ما أنفق مؤمن نفقة هي أحب الى الله عز وجل من قول الحق في الرضا و الغضب " (3) .
و لعل الآية تشير فيما تشير إليه الى أن المتقي الحقيقي يزيده الله تقوى و إيمانا كلما واجه ظرفا صعبا ، لأنه إذا عمل آنئذ بموجب تقواه تكرست في نفسه التقوى .. هكذا حين عمل المؤمنون حسب تقواهم ، ولم تأخذهم حمية الجاهلية ، ولم تؤثر فيهم إثارات قريش ، وصدهم إياهم عن إقامة شعائرهم ، بل قبلوا بقرارات القيادة ، حينئذ أثابهم الله على ذلك بتنمية روح التقوى في أنفسهم .
[ و كان الله بكل شيء عليما ]
(1) بح / ج 71 - ص 358
(2) المصدر
(3) المصدر
فهو محيط بمدى ما يستقله قلب الانسان من التقوى ، ولا داعي لاثارة الجدل في كون فلان من المؤمنين أم لا ، وهل يدخل الجنة أم النار ، لأن ذلك عند الله ، ولا ينبغي التطفل فيما يختص به الرب سبحانه .
[27] ثم يؤكد ربنا صدق وعده لرسوله (ص) بدخول مكة ، الأمر الذي يؤكد جدوى الصلح ، و كونه الفتح المبين حقا ، و خطأ تصورات البعض حوله ، حيث تصوروا أنهم إذا أبرموا الصلح مع المشركين لم يحققوا شيئا ، و أن الرؤيا التي أخبرهم بها الرسول لم تكن صادقة .
[ لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين محلقين رؤسكم و مقصرين لا تخافون ]أي أن دخولكم هذه المرة سيكون دخول المنتصرين .. و حدث ذلك فعلا في السنة الثانية ، حيث فتحوا مكة ، و كل هذه المزايا و النتائج كانت مجهولة لدى المسلمين .
[ فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ]
وهو صلح الحديبية ، أما الفتح البعيد فهو فتح مكة الذي جاء في أثر الصلح ، و هذا التأكيد من القرآن على تسمية الصلح بالفتح إنما كان لبيان حقيقة هامة ، وهي وجوب اتباع القيادة و طاعتها عندما تختار طريقا معينا ، بعيدا عن العواطف ، ذلك أن من مشاكل القيادات الثورية الضغوط التي تواجهها من قبل المتحمسين و المهيئين نفسيا للمواجهة ، فهم يريدونها تستجيب لحماسهم ، و إلا فهي في نظر البعض جبانة و ضعيفة ، وعلى القائد أن لا يترك الحكمة للحماس و العواطف لتكون قراراته حكيمة و حازمة .
إن الرسول (ص) واجه هذه المشكلة ، إذ كان البعض يستنكر عليه عدم محاربته المشركين ، وحينما صالح اعتبروا صلحه مذلة و إهانة ، بل و دليلا على ضعف سياسته ، ولو كان يستجيب لحماس هؤلاء ما كان المسلمون يبلغون ما بلغوا بعد الصلح ، كما واجه - أيضا - وصيه الإمام علي - عليه السلام - في معركة صفين معارضة من قبل المتشددين الذين سموا بعدئذ بالخوارج .
[28] و ربنا يؤكد حكمة نبيه ، و صحة قراراته ، لأنه يتبع هدى الله و دينه ، فلا يصح إذن أن نخالفه أو نشكك في قيادته .
[ هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ]و الظهور ( الانتصار ) مرة يكون بالحرب ، و مرة عن طريق الصلح ، و الرب هو الذي أمر الرسول بالصلح مع المشركين ، وهو تكفل بإظهار دينه و رسوله و المؤمنين به على سائر الديانات و الأمم .
[ و كفى بالله شهيدا ]
لقد تنامت أمواج الرسالة في العالم منذ انبعاث الرسول العظيم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه و آله ) وإلى اليوم . أوليس ذلك دليلا على تحقق وعد الله في ظهور الاسلام على الدين كله ؟ وقد جاء في التقارير أن نمو عدد المسلمين أكبر من ازدياد المنتمين الىأي ديانة أخرى ؟ و هكذا تنتظر البشرية اليوم الحق الذي وعدها الله إياه حيث يظهر دينه على الدين كله .
[29] ثم إن النبي الذي اتخـذ قرار الصلــح ليس قائدا عاديا حتى يجوز معه النقاش . إنه رسول الله الذي عصمه عن الخطأ ، ولم يكن الذين حوله من الرجال قد أصابهم الوهن حتى يجد نفسه مجبرا على الصلح ، فهم ليوث الأرض و فيهم أسد اللهو أسد رسوله علي (ع) الذي وتر به النبي صناديد قريش .
[ محمد رسول الله و الذين معه أشدآء على الكفار ]
فلا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يتأثرون بالعواطف في جنبه ، قال الامام علي (ع) : " فلقد كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) وإن القتل ليدور على الآباء و الأبناء و الاخوان و القرابات ، ، فما نزداد على كل مصيبة و شدة إلا إيمانا " (1) .
و في التاريخ أنه (ع) جلس على صدر أخيه عقيل قبل إسلامه وقد جرد سيفه ليقتله ، فنظر إليه أخوه و قال : أتقتلني يا علي ، قال : " أي و الله ، إلا أن تسلم " . و أراد الرسول (ص) قتل رجل من المشركين فحاول الآخر استعطافه قائلا : ومن للأولاد و أمهمبعدي ، ولكنه لم يعبأ بكلامه بل قتله ، و قال : " لهم الله " . وفي الوقت الذي تتميز الشخصية الايمانية بالحدة و الشدة ضد الأعداء ، فإنها في وجهها الآخر كلها رحمة و لطف بإخوة المسيرة الواحدة .
[ رحمآء بينهم ]
هذا عن علاقتهم بالناس ، أما عن علاقتهم بالله ، فهي علاقة العبودية و الخضوع المطلق .. يمارسون العبادة في كل حركة من حركاتهم ، وفي كل كلمة ينطقون بها ، لأن كل ما يصدر منهم هو تجل للصلاة و العبادات بأهدافها و قيمها .
[ تراهم ركعا سجدا ]
إنك تقرأ الصلاة في سلوكهم ، فهم متصلون بالله ، منتهون عن الفحشاء(1) نهج / خطبة 122
و المنكر ، صادقون مع الآخرين ، ملتزمون بواجباتهم .. الخ ، لأن العبادة في نظرهم ليست مجرد الركوع و السجود ، و بالتالي الوقوف عند الصلاة بذاتها ، وإنما التحرك في الحياة بمقتضياتها و أهدافها ، و أبرز تلك الأهداف اثنان : إبتغاء فضل الله في الدنيا ، و رضوانه في الآخرة .
[ يبتغون فضلا من الله و رضوانا ]
و لكثرة صلاتهم و سجودهم بالذات و الذي يمثل قمة الخضوع لله ، فإنك تلحظ في جباههم أثر السجود ، ولا ريب أن الآثار - الثفنات - لا تظهر إلا بالمبالغة في العبادة .
[ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ]
و الامام علي - عليه السلام - يصف أصحاب رسول الله (ص) فيقول : " لقد رأيت أصحاب محمد ( صلى الله عليه و آله ) فما أرى أحدا يشبههم منكم ! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ، و قد باتوا سجدا و قياما ، يراوحون بين جباههم و خدودهم ، و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ! كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم ! إذا ذكـر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهــم ، و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفا من العقاب ، و رجاءا للثواب " (1) .
و بيان الله لصفات أصحاب الرسول (ص) إنما يأتي ليؤكد الحقيقة التالية ، وهي أن صاحب الرسول حقا من صحبه بقلبه و أخلاقه و قيمه ، فاقتداؤهم بالرسول جعلهم في تلك الدرجة لا مجرد معيتهم له ، و أنت أيضا تستطيع أن تكون من أصحاب الرسول (ص) إذا تخلقت بالأخلاقالتي يذكرها القرآن ، و تشير إليها خطبة
(1) نهج / خ 97
الإمام علي (ع) .
ثم إن الرسالات الإلهية بشرت بهذا النبي و بمن حوله من أعلام الرسالة رهبان الليل و فرسان النهار .
[ ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل ]
وهم في حالة تكامل و رقي نحو الأكمل بصورة منتظمة ، يشبهون في ذلك الشجرة التي تبدأ بذرة ، و لكنها تتكامل شيئا فشيئا و تنمو إلى أن تصير قوية قائمة على سوقها .
[ كزرع أخرج شطئه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ]إن القائد الذي يربي هؤلاء الرجال في ظل أفكاره و قيادته كان يسر إذ يراهم ، أما الأعداء فإنهم يتميزون غيظا و حنقا كلما رأوا واحدا يترعرع في ظل قيمه و مبادئه ، مقاتلا و قائدا رساليا يجاهد في سبيل الله تعالى .
و أصحاب النبي محمد (ص) الحقيقيين هم المعنيون بالزرع في هذه الآية ، ولكن لا تعني صحبة الرسول صك البراءة من التكاليف الشرعية ، و التحلل من القيم الإلهية ، فليس كل الذين عاصروا الرسول أو صحبوه ( حتى من دون التمسك بأهداف الرسالة ) تشملهم هذه الآية ، والدليل على ذلك أن الله لم يترك الكلام مطلقا ، و إنما خص بالغفران و الثواب الذين أحسنوا الصحبة ، و أبلوا بلاءا حسنا في الطاعة له و نصر رسالته منهم .
[ وعد الله الذين امنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة ]لذنوبهم و أخطائهم ، لأن مسيرتهم العامة في الحياة مسيرة سليمة ، و الحسنات يذهبن السيئات كما ذكر القرآن .
[ و أجرا عظيما ]
جزاءا لأعمالهم الصالحة .
و الآية في هذا المقطع تدحض الفكرة القائلة بأن مجرد انتماء الانسان الى شخص او تجمع صالح يكفيه ، و يرفع عنه المسؤولية ، كلا .. فهو مطالب بتحملها و العمل وفقها حتى النفـس الأخير ، كما قال الله : " و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين " (1) يعني بذلكالموت ، أما أن نتصور المسؤولية تنتهي بكون الفرد عالما ، أو خطيبا ، أو منتميا إلى حركة إسلامية فلا ، و التأكيد على هذه الفكرة مهم لأن الكثير من الناس يعتقدون بأن وصولهم إلى مقام ما يرفع عنهم المسؤولية ، و يحولها الى غيرهم .
و أخيرا : إذا كان للرسول (ص) أصحاب فإن له إخوانا يأتون فيما بعده ، و إذا لم نحظ بصحبته فلنسعى للتآخي معه ، و ذلك بالإلتزام بمبادئه ، و السعي الى تحقيق أهدافه في الحياة .
فقد جاء في الخبر عن أبي ذر ( رض ) :
قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله و سلم ) : " أتدرون ما غمي ؟ وفي أي شيء تفكيري ؟ وفي أي شيء اشتياقي ؟
فقلنا : يا رسول الله ، أخبرنا عن ذلك ، فقال : أخبركم إن شاء الله . ثم تنفس الصعداء ، و قال : هاه شوقا إلى إخواني من بعدي ! فقلت : يا رسول الله أولسنا(1) الحجر / 99
إخوانك ؟ قال : لا ، أنتم أصحابي ، و إخواني يجيئون من بعدي ، شأنهم شأن الأنبياء ، قوم يفرون من الآباء و الأمهات ، ومن الاخوة و الأخوات ، و من القرابات كلهم ، ابتغاء مرضاة الله ، يتركون المال لله ، و يذلون أنفسهم بالتواضع لله ، لا يرغبون في الشهوات و فضول الدنيا ، يجتمعون في بيت من بيوت الله كأنهم غرباء ، تراهم محزونين لخوف النار و حب الجنة ، فمن يعلم قدرهم عند الله ؟ ليس بينهم قرابة ولا مال يعطون بها ، بعضهم لبعض أشفق من الإبن على الوالد ، و الوالد على الإبن ، و من الأخ على الأخ ، هاه شوقا إليهم ! و يفرغون أنفسهم من كد الدنيا و نعيمها ، بنجاة أنفسهــم من عذاب الأبد ، و دخول الجنة لمرضاة الله . إعلم يا أباذر أن للواحد منهم أجر سبعين بدريا .
يــا أباذر ! إن الواحد منهم أكرم على الله من كل شيء خلق الله على وجه الأرض ، قلوبهم إلى الله ، و عملهم لله . لو مرض أحدهم له فضل عبادة ألف سنة و صيــام نهارها و قيام ليلها ، وإن شئت حتى أزيدك يا أباذر ؟ فقلت : نعم يا رسول الله زدنا ، فقال : لو أنأحدا منهم إذا مات فكأنما مات ما في السماء الدنيا ، من فضله على الله ، وإن شئت إزيدك ؟ فقلت : نعم يا رسول الله زدني ، قال : يا أباذر لو أن أحدهم يؤذيه قملة في ثيابه ، فله عند الله أجر أربعين حجة ، و أربعين عمرة ، و أربعين غزوة ، و عتق أربعين نسمة من ولد إسماعيل ، و يدخل واحد منهم اثني عشر ألفا في شفاعته .
فقلت : سبحان الله ! فقال النبي : أتعجبون من قولي ، وإن شئتم حتى أزيدكم ؟ قال أبوذر : نعم زدنا ، فقال النبي :
يا أباذر ! لو أن أحدا منهم اشتهى شهوة من شهوات الدنيا فيصبر ولا يطلبها ، كان له من الأجر بذكر أهله ، ثم يغتم و يتنفس ، كتب الله له بكل نفس ألفيألف حسنة ، و محا عنه ألفي ألف سيئة ، و رفع له ألفي ألف درجة ، و إن شئت حتى أزيدك يا أباذر ؟ قلت : حبيبي يا رسول الله زدني : قال : لو أن أحدا منهم يصبر مع أصحابه لا يقطعهم ، و يصبر في مثل جوعهم وفي شدة غمهم ، كان له من الأجر كأجر سبعين ممن غزا تبوك .
و إن شئت حتى أزيدك ؟ قلت : نعم زدنا ، قال : لو أن أحدا منهم يضع جبينه على الأرض ، ثم يقول : آه ، فتبكي ملائكة السماوات السبع لرحمتهم عليه ، فيقول الله : يــا ملائكتي مالكــم تبكون ؟ فتقـول : يا إلهنا لا نبكي و وليك على الأرض يقول في وجعه " آه " ، فيقول الله : يا ملائكتي اشهدوا أنتم أني راض عن عبدي بالذي يصبر في شدة ولا يطلب الراحة ، فيقول الملائكة : يا إلهنا و سيدنا لا تضر الشدة بعبدك و وليك ، بعد أن يقول هذا القول ! فيقول : يا ملائكتي إن وليي عندي كمثل نبي من أنبيائي ، ولو دعاني وليي و شفع بخلقي شفعته في أكثر من سبعين ألفا ، و لعبدي و وليي في جنتي ما يتمنى ، يا ملائكتي و عزتي و جلالي لأنا أرحم بوليي ، و أنا خير له من المال للتاجر ، و الكسب للكاسب ، و في الآخرة لا يعذب وليي ، و لا خوف عليه .
ثم قال رسول الله : طوبى لهم يا أباذر ، لو أن أحدا منهم يصلي ركعتين في أصحابه أفضل عند الله من رجل يعبد الله في جبل لبنان حتى عمر نوح ، و إن شئت حتى أزيدك يا أباذر ؟ لو أن أحدا منهم يسبح تسبيحة ، خير له من أن يصير معه جبال الدنيا ذهبا ، و نظرة إلىواحد منهم أحب من نظرة الى بيت الله الحرام ، ولو أن أحدا منهم يموت في شدة بين أصحابه له أجر مقتول بين الركن و المقام ، و له أجر من يموت في حرم الله و يدخله الجنة ، وإن شئت أزيدك يا أباذر ؟ قلت : نعم ، قال : يجلس إليهم قوم مقصرون مثقلون من الذنوب فلايقومون من عندهم حتى ينظر الله إليهم ، فيرحمهم و يغفر لهم ذنوبهم لكرامتهم على الله .
قال النبي : المقصر فيهم أفضل عند الله من ألف مجتهد من غيرهم .
يا أباذر ! إني إليهم لمشتاق ، ثم غمض عينيه فبكى شوقا ، قال : اللهم احفظهم و انصرهم على من خالف عليهم ، ولا تخذلهم ، و أقر عيني بهم يوم القيامة " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (1) .
(1) كلمة الرسول الأعظم / للشهيد الشيرازي ص 369 .
|