فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الإطار العام


تفتتح السورة بوصايا قيمة في أدب التعامل مع الرسول و القيادة الإلهية ، و تختتم ببيان حقيقة الإيمان ، و تتواصل بينهما الآيات تنظم علاقة المسلمين ببعضهم على أساس الاخوة ، و علاقة البشرية ببعضهم على قاعدة المساواة .

تعالوا الآن نتدبر في هذا السياق المعجز :

ألف ) لأن علاقة الأخوة تتعرض لهزات قد تبلغ درجة الاقتتال بين المؤمنين ، فلابد من قوة داخلية تمسك الامة من أن تتشرذم فتتلاشى ، وما تلك القوة إلا القيادة الرسالية التي لابد أن يسمو احترام الأمة لها الى مستوى رفيع ، بألا يتقدموا بين يدي الله و رسولهفي الرأي أو القول أو المشي أو أية ممارسة عملية ، ولا يرفعوا صوتهم فوق صوته ، ولا يجهروا له في الكلام كما يتحادثون بينهم . وقد بشر الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله بأنهم قد طهر الله قلوبهم للتقوى ، وأن لهم مغفرة و أجرا عظيما . أما الـــذين لا يحترمونالرسول ، ولا يراعون حرمة الحجرات التي بنيت من أجل توفير الراحة ، فينادون الرسول من ورائها ، فان أكثرهم لا يعقلون . فلا يعرفونحرمة القيادة الالهية ، ولا حرمة الآداب المرعية ، وكان أولى بهم أن يصبروا حتى يخرج إليهم الرسول فيحدثوه عن شؤونهم ( الآية 5 ) .

باء ) وبعد أن يرسي السياق احترام القيادة و آداب التعامل معها ، و طبيعة العلاقة معهــا بعدئذ يأمر المؤمنين بالتثبت في أمورهم ، وعدم الاسترسال مع أنباء الفاسقين ، لأنهم قد يصيبون بذلك قوما بجهالة ثم يندمون على ذلك . وبهذا يقطع الطريق على مثيري الفتنبين المسلمين و سائر التجمعات البشرية ، و يضع قانونا لمثل هذه الأمور و يأمر بمراجعة القيادة و التسليم لها وعدم ممارسة الضغط عليها ، أوليس الرسول قد جاءهم من عند الله بنور الايمان ؟ أوليس - إذا - أهدى منهم سبيلا ؟ أوليس من واجب الشكر ألا يخالفوه في قضية هامة كاتخاذ موقف من طائفة معينة ؟ وماذا لو أطاعهم الرسول في جهلهم أو لا يسبب ذلك في العنت عليهم ؟ و ربما أشارت الآية (7) الى أن مخالفة الرسول نوع من الكفر و الفسوق أو العصيان حسب درجات المخالفة و مواردها ، وإن من فضل الله عليهم أن زين في قلوبهم الايمان و كره اليهم الكفر و الفسوق و العصيان . فلا يعودوا إليه ليفقدوا أعظم نعمة أسبغها عليهم ربهم .

جيم ) وفي سياق حديثه عن علاقة المسلمين ببعضهم يفك القرآن أولا أصعب عقدة فيها متمثلة في حالة نشوب قتال أهلي بينهم و يقول : لو أقتتل طائفتان من المسلمين فلابد من الاصلاح بينهم ، و بأية وسيلة ممكنة ثم إقامة العدل بينهم ، ولكن إذا بغت إحداهما على الاخرى ، ولم تسلم للاصلاح فلابد من تحمل جماهير الامة لمسؤولياتها الخطيرة المتمثلة في محاربة الفئة الباغية ، حتى تفيء الى أمر الله و تقبل الصلح و التحاكم الى الشريعة المقدسة ، فان فاءت تقوم الامة بنشر العدالة في اوساطها و القسط (9) .


و يرسي القرآن قاعدة الاخوة بين المؤمنين لتكون محورا أساسيا للعلاقة بينهم ، و لطائفة من التعاليم و الانظمة و الآداب أبرزها ضرورة الاصلاح بين الاخوة لعل الله يرحمهم بذلك (10) .

دال ) ولكي نقتلع جذور الصراع ، ثم لكي نعيش في ود و وئام لابد أن نطهر قلوبنا من عقد التعالي فوق بعضنا ، كلا .. فنحن جميعا بشر متساوون لا يجوز أن يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم عند الله وفي عالم الواقع ، فيكون إستهزاؤهم بهم محض سفه ، و مجردخسارة لهم للمكاسب التي يمكنهم الحصول عليها . كما لا يجوز أن تسخر نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن .

وحتى إذا ألقـــى الشيطان في أنفسنا هذه النظرة الشاذة ، فلا يجوز أن نفصح عنها ، وأن نعيب بعضنا أو أن نتبادل الألقاب البذيئة . أولسنا مسلمين قد طهر الله حياتنا من كل قذارة . فلماذا نسمي بعضنا بأسماء الفسق وقد أكرمنا الرب بأسماء إسلامية رفيعة المستوى؟ بئس الإسم الفسوق بعد الايمان (11) .

و نهدم علاقاتنا ببعضنا إذا استرسلنا مع الأوهام و الشكوك و الظنون التي تثيرها الأحقاد أو الحالات النفسية أو الاشاعات المغرضة وهكذا يأمر الاسلام باجتناب كثير من الظن و يؤكد ان بعض الظن إثم ، ولعله الذي نتحقق منه بالتجسس ، أو نجعله موقفا لحياتنا ولوظننا سوء فلا يحبذ التحقق منه ، وهكذا ينهانا الدين و يقول " ولا تجسسوا " وإذا عرفنا من أخينا عيبا مستورا فلا يجوز أن نشيعه عليه من وراء ظهره بالغيبة ، لأنه بمثابة أكل لحم أخينا ميتا . أوليس ذلك نيلا من كرامته ؟ وكرامته أعظم أم بدنه (12) ؟


هاء ) ثم يرسي السياق قاعدة التوحيد التي ترفض أي نوع من التمييز المادي بين الانسان و الانسان ، و يؤكد ربنا أن أصل البشرية واحد ، آدم و حواء ، فلاتفاخر في الأنساب ، و ان الحكمة من جعلهم شعوبا و قبائل هو التعارف وليس التدابر و التسامي ، فاذا عرف بعضهم بعضا ضبطت المسؤوليات و الحقوق و تهيأت فرصة العدالة . بلى . إن هناك تمايزا واحدا هو التقوى . فان أكرم الخلق عند الله أتقاهم . ومن معاني التقوى سلامة الفكر و استقامة السلوك ، و بذلك يكون التنافس على ما يقدم البشرية نحو أهدافها النبيلة (13) .

واو ) وفي الدرس الأخير يفسر السياق التقوى ببيان أصلها المتمثل في الايمان ربما لكي لا يدعيها الطامعون و الانتهازيون فيقول : " قالت الأعراب آمنا " .

و كانوا طائفة التجأوا الى المدينة طمعا في خيراتها بعد أن اجدبت أراضيهم ، و نفى عنهم القرآن إيمانهم ، ولكن لم ينف أنهم مسلمون كما لم ينف أجرهم عند الله ، إن هم أطاعوه و أطاعوا الرسول . أوليس الله غفورا رحيما ؟

وهناك مقياسان نستوحيهما من القرآن للايمان : عدم الشك خصوصا عندما تخالف تعاليم الدين أهواءهم و مصالحهم ، و الجهاد بالمال و النفس في سبيل الله ، فمن فعل ذلك فقد كان صادقا في إيمانه .

و يزعم البعض ان ادعاءه الايمان يكفيه ، و كأنه يعلم الله بدينه ، و الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، و الله بكل شيء عليم .

و ترى بعضهم يمنون على الرسول إسلامهم - كأعراب البادية الآنف ذكرهم - و الله يمن عليهم بالايمان ، لأنه نعمة كبرى إن كانوا صادقين في إدعائه (14 - 17) .

و يختم القرآن السورة بأن الله يعلم غيب السماوات و الأرض و أنه بصير بما يعمل الخلق ، و لعله تحذير من ادعاء الايمان لمصالح مادية (18) .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس