فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[6] في كتاب ربنا الكريم شفاء لأمراض المجتمع المستعصية لو استشفيناه ، و نفذنا تعاليمه .. و الصراع أعظم تلك الأمراض الذي يقتلع نهج القرآن جذوره البعيدة . ألا ترى كيف يحصن التجمع الايماني من رياح الفتنة بتذكير المسلمين عن دور الأنباء الكاذبة التي يبثها الفسقة فيفرقون بين الناس .. و نهيهم عن الاسترسال معها ، لأنها تؤدي الى معارضة قوم أبرياء مما يجر اليهم ندامة و حسرة .

[ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ]ذلك ان دوافع الفاسق و منطلقاته شيطانية فقد يكذب أو يمشي بنميم أو ينقل جانبا من الحقيقة و يسكت عن سائر الجوانب .. فاذا قبلناه على علاته فسوف نقع في أخطاء جسيمة ، أبرزها إثارة الفتن في المجتمع .

الفاسق الذي تجاوز الحدود الإلهية لا يمكنه أن يكون موجها للأمة و مجرد الاستماع الى نبأه دون تحقيق و تثبيت يجعله في مقام التوجيه .

[ أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ]أي لكي لا يورطكم الفاسق في معارضة فئة مؤمنة من دون تحقيق منكم ، ثم تندموا بعد فوات الأوان ..

و نستوحي من الآية عدة بصائر :

أولا : إن أكثر الصراعات الاجتماعية التي تعصف بالمؤمنين منشأها الفاسقون الذين لا تروق لهم وحدة المؤمنين فيثيرون الفتنة بينهم . و حين نتفكر في واقع المسلمين اليوم نجد ان الذين يذكون نار الصراع بينهم هم في الأغلب أبعد الناسعن القيم ، وقد تكون سوابقهم السيئة و أحقادهم ضد الاسلام ، و خشيتهم من الفضيحة هو السبب في تطرفهم ضد هذه الطائفة أو تلك .

وإذا استطاع المؤمنون إبعاد أثر الفسقة عن تجمعاتهم قدروا على سد أكبر ثغرة تهدد كيانهم !

ثانيا : واليوم حيث يتعرض المسلمون لغزو ثقافي و هجمة إعلامية عبر الوف المؤسسات الدعائية المتنوعة ترانا أحوج مما مضى الى تنفيذ هذه الوصية الإلهية أن نتبين عما يقولون لأنهم فسقة لا يتقون الله فيما يقولون ، هذه الوكالات الخبرية التي تمولها و تقودها الرساميل و الأنظمة هل تلتزم بالصدق ؟ هذه الصحف الصفراء التي تنطق باسم المترفين و الطغاة هل ترعى جانب الحق ؟ هذه الاذاعات التي تصب في آذاننا وأذهاننا كل يوم شلالا من المعلومات المختلطة هل نضمن صدقها ؟ كلا .. إذا لابد من التثبت ، ولكن كيف ؟ لأن حجم الأفكار و الأخبار التي تبث عبر أجهزة الدعاية كبير، فأن قدرة الأفراد على التثبت منها محدودة ، فلابد إذا من وجود مؤسسات موثوق بها تقوم بدور المصفاة و تنتقي السمين و تقدمه للمؤمنين .

هذه المؤسسات قد تكون معاهد و مراكز للدراسات و البحوث ، وقد تكون تنظيمات دينية ، وقد تكون خبراء أكفاء يرجع اليهم المؤمنون في توثيق المعلومات ، وقد تكون مؤسسات إعلامية بديلة ، إذاعة صادقة ، صحيفة ملتزمة أو وكالة للأنباء موثوق بها .

ثالثا : و أنى كانت هذه المؤسسات فانها أعمال اجتماعية لا ينتظم أمرها إلا تحت إشراف القيادة الشرعية للامة ، فمن دون القيادة تذهب جهود الأفراد سدى ، لان مثل هذه الأعمال الكبيرة لا ينهض بعبأها آحاد الناس ، كما انه لو لم تكن القيادة شرعية فانها بذاتهاتصبح مبعث الخطر ، ولمثل هذا يذكر السياق القرآني بنعمةالرسالة و الرسول و ضرورة العودة إليه .

رابعا : إن خبر العادل حجة . قالوا بالرغم من أن الآية لا تدل على حجية خبر العادل صراحة و بصورة مباشرة ، بل بما يسمى لديهم بمفهوم الوصف الذي لا حجية فيه عندهم ، إلا ان فائدة بيان الوصف هنا ليست إلا ان الحكم يدور مداره مثل أن نقول : إذا تعاملت مع أهلالباطل فاشهد عليهم ، وإذا ذهبت الى زيارة المريض فتجنب مواكلته ، وإذا زرت بلاد الكفر فتزود بالبوصلة لصلاتك .. وما أشبه .

وأقول : كما أن النفي يتركز في سور الكلمة أو شرطه أو صفته ، كذلك الشرط ، فاذا قلنا : لا أعطيك كل نقودي ، ولا تشرب اللبن إذا أكلت السمك ، ولا تمش في الأرض مرحا ، فان معناه نفي كلية النقود فلو أعطى بعضها لم يخالف وعيده ، أو النهي عن شرب اللبن مقارنامع أكل السمك ، ( أو كل النهي عن الجمع بينهما ) وكذلك النهي عن مشية المرح لا كل شيء .

كذلك الشرط فلو قال : إذا جئتني صباحا أكرمتك أو إذا رأيتك شامتا قليتك وما أشبه . فان الشرط يلحق أضيق حلقات الكلام ، أي وقت الصباح أكرمك وعند الشماتة أقليك وكذلك الشرط هنا : إذا جاءكم فاسق بنبأ .. فان الشرط مقصود و غرضه تحديد النتيجة باضيق الحدود ،وهو كون المخبر فاسقا ، ولهذا قال الأولون : إن هذا من مفهوم الشرط وليس من مفهوم الوصف والله العالم .

خامسا : ماذا يعني التبين ؟ يبدو أنه يشمل كل أسلوب يؤدي الى حالة الوضوح عند الانسان ، ولأن الله قد خاطب عامة المؤمنين بهذه الكلمة ، فان مفهوم التبين يكون عرفيا ايضا ، بمعنى أن كلما تطمئن إليه نفس الانسان العادي ، حتى لا يبقى فيه شك معقول أو إرتيابيعتني به العقلاء كاف حجة عند الله في الموضوعات .


فسواءا كانت البينة ( شهادة عدلين ) أو الشياع المفيد للطمأنينة ، أو شهادة الخبراء من خلال مجموعة متراكمة من الشواهد و الآثار أو خبر العاقل العادل فانه من التبين عند العقلاء .. على أن العقلاء لا يعتمدون على بعض هذه الأدلة إذا كانت الظروف المحيطة باعثة للشك الحقيقي مثلا : الشياع الذي يعتقد أن منشأوه شائعة مغرضة لا يورث طمأنينة في النفس فهو إذا ليس بحجة .

كما ان خبر العادل فيما لا يخفى عند غيره يرتاب فيه العقلاء إذا انفرد به كما لو أنبأنا بأن الاذاعة الفلانية نشرت هذا الخبر ، علما بأنها لو نشرته لسمع أكثر الناس و تناقلوه .. أو أخبر برؤية الهلال في ليلة صافية مما نعلم أنه لو رآه هذا العادل لرآه غيرهأيضا ، و إذ لم يشهد برؤيته غيره فان العقلاء يشكون في كلامه . كذلك الحوادث الخطيرة لا يعتمد العقلاء عادة على الخبر الواحد فيها مثل الحروب ..

عموما : حالة التبين تختلف عند العقلاء حسب الموضوعات فلابد من الالتفات الى ذلك ، ولعل الحكمة التي سيقت في خاتمة الآية هي محور الحكم فعلينا أن ندور مداره ، و نتفكر كيف نتجنب الوقوع في الجهالة و الندم .

[7] كيف تتموج الفتنة في المجتمع المسلم ؟ إنها تشرع بشائعة تتلقفها الألسن ثم لا يلبث أن تتحول الى تيار يجرف معه البسطاء ، و الانتهازيين ، و الفوضويين آنئذ تطفق الفتنة و أصحابها بالضغط على القيادة الشرعية التي عليها أن تختار بين الاستسلام لعاصفة الفتنة ، أو خسران شريحة إجتماعية ، فما هو الحل ؟

الحل ينحصر في تجلي المجتمع بروح الانضباط وأن يعي الجميع أبعاد نعمة القيادة فيشكروها شكرا عمليا . حقا إن المجتمع الذي يعي أهمية القيادة الشرعية يتحصن ضد عواصف الفتنة الداخلية بذات الصلابة التي يقاوم بها قواصف التحديات الخارجية . لذلك يأمر القرآن بأن نعلم دور الرسول فينا ( ثم من يخلفه


و يرث مقامه بدرجة ما ) .

[ واعلموا أن فيكم رسول الله ]

فهو إذا مبعوث من عند الله يحمل رسالة الحكمة و المعرفة و البصيرة ، ومادام كذلك فلابد من الرجوع إليه عند الفتن و الشبهات ، ولا يجوز الضغط عليه بقبول آراءكم و شهوات أنفسكم ، لأن ذلك ليس من مصلحتكم .

[ لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ]

وكيف لا تصيبهم المشقة و العنت وقد خالفوا العلم الى الجهل ، و الحكمة الى الجهالة .

جاء في الأثر : في سبب نزول الآية أو تأويلها على عهد الرسول ما يلي :

أولا : إن النبي صلى الله عليه وآله بعث الوليد بن عقبة ليجمع الصدقات من بني المصطلق فلما أبصروه أقبلوا نحوه للترحاب به ، ولكن خشيهم وهابهم و يبدو أنه كان بينه و بينهم عداوة فخافهم على نفسه أن يقتلوه أو كانت في نفسه ضغينة تجاههم ، فأراد أن يمكر بهم( أو تظاهر بذلك ) فرجع الى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره أنهم ارتدوا عن الاسلام .

فبعث نبـي الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد وأمره ان يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا انهم متمسكون بالاسلام ، و سمعوا اذانهم و صلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد و رأى صحة ما ذكروا فعاد الى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية وكان يقول نبي الله : " التأني من الله و العجلة من الشيطان " . (1)(1) بتصرف عن القرطبي / ج 16 - ص 311


و يبدو من بعض الأخبار أن طائفة من المسلمين كانوا يصرون على النبي بالخروج إليهم و قتالهم قبل التثبت من أمرهم ، ولعل مؤامرة حاكها الحزب الأموي و المنافقون المؤيدون لهم ضد المسلمين ، و منها نفذ الوليد طرفا منها ، بينما أراد الآخرون تنفيذ سائر جوانبها.

ثانيا : جاء في الأثر ان الآية نزلت في قصة الإفك على بعض الروايات . فقد ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره انها نزلت في مارية القبطية أم أبراهيم ( عليه السلام ) ، وكان سبب ذلك ان عايشة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وآله - : إن إبراهيم ليس هو منك وإنماهو من جريح القبطي ، فانه يدخل اليها في كل يوم ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله - وقال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : خذ السيف وأتني برأس جريح ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) السيف ثم قال : بأبي أنت و أمي يا رسول الله إنك إذا بعثتني في أمرك أكون فيه كالسفود (1) المحمي في الوبر فكيف تأمرني أثبت فيه أو أمضي على ذلك ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله - : بل تثبت ، فجاء أمير المؤمنين الى مشربة أم إبراهيم فتسلق عليها فلما نظر اليه جريح هرب منه وصعد النخلة ، فدنا منه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال له : إنزل فقال له يا علي اتق الله ماهيهنا أناس اني مجبوب (2) ثم كشف عن عورته فاذا هو مجبوب ، فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وآله - فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما شأنك يا جريح ؟ فقال : يا رسول الله ان القبط يحبون حشمهم ومن يدخل الى أهليهم ، و القبطيون لا يأنسون إلا بالقبطيين ، فبعثني أبوها لادخل اليها و أخدمها و أونسها ، فأنزل الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " الآية . (3)(1) السفود : حديدة يشوى عليها اللحم

(2) المجبوب : الخصي

(3) نور الثقفين / ج 5 - ص 81


وهذه الآية و نصوص دينية أخرى تستهدف فصل الفسقة عن المجتمع الاسلامي نفسيا ، و تقليل دورهم في ادارة القضايا الاجتماعية ، فاذا امتنع المسلمون عن العمل باخبار الفاسقين ، فقد أبعدوهم عن القضاء و الاعلام ، و الشهادة في المحاكم وعن أعمال أخرى .

من هنا نجد المفسر المعروف القرطبي ينقل هنا نصا عن ابن العربي يحسن بنا الاستماع إليه يقول :

ومن العجب أن يجوز الشافعي و نظراؤه إمامة الفاسق ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصبح أن يؤتمن على قنطار دين ، وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم و وراءهم (
و أضاف ) ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصــلاة للــه ، و منهــم من كان يجعلها صلاته . و بوجوب الاعادة أقول فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة ولكن يعيد سرا في نفسه ولا يؤثر ذلك عند غيره . (1)[ ولكن الله حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم و كره إليكم الكفر و الفسوق و العصيان ]الرسالة نعمة و فضل ، و وعي هذه الحقيقة يجعلنا نستفيد منها بصورة أفضل ، أوليس الذي يجهل أن له رصيدا كبيرا في البنك لا ينتفع به ؟

و الايمان بالرسالة هو الآخر توفيق من عند الله و نعمة و فضل ، صحيح أن العبد يخطو الى ربه الخطوة الأولى ، و يسلم للحق ، ولكن لولا أن الله يحبب الايمان في(1) القرطبي / ج 16 - ص 213


قلوب من يصلح له ما زكى أحد من البشر ابدا . ولقد حبب الله الايمان مرتين ، مرة عندما خلق البشر على فطرة الايمان بالله ، و مرة عندما ألقى في أفئدة المسلمين لربهم الصالحين لتلقي نعمة الهدى حب الايمان . كما ان الفطرة البشرية بذاتها تكره الانحراف بكل درجاته، كالكفر الذي يعني مخالفة الدين رأسا ، و الفسوق الذي يعني تجاوز حدود الشريعة و العصيان الذي هو ارتكاب بعض الخطايا ، و هذه الثلاث تعاكس الايمان ومن دون تطهير القلب من أدرانها لا يستقبل القلب روح الايمان .

[ أولئك هم الراشدون ]

قالوا : أصل الرشد الصخرة ، و يسمى صاحب الرأي السديد بالراشد لاستقامته عليه ، و شدة تصلبه فيه ، فهو على يقين من أمره . و رشد المؤمن ناشئ من يقينه ، و تصلبه في الحق إذ أنه عرف دربه الواضح فسوف لا يغيره .

وقد التفت السياق من الخطاب الى الغيبة ، ربما لأن مقام الراشدين رفيع لابد ان يشار اليه بمثل كلمة ( أولئك ) وهو بالتالي لا يناله إلا من هو ذو حظ عظيم ، فليس كل تال للقرآن مخاطب بهذه الصفة العظيمة . و الآية تدل على أن أساس الدين الحب ، و لذلك يسعى المؤمنون لترسيخ و تنمية هذا الحب في أفئدتهم و يقولون : " و اجعل لساني بذكرك لهجا ، و قلبي بحبك متيما " . (1)و جاء في صفة حزب الله المفلحين : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه " (2) .


(1) من دعاء لأمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل / مفاتيح الجنان - ص 67(2) المائدة / 54


و حين سأل زياد الحذاء الامام الباقر ( عليه السلام ) عن علاقة الدين و الحب ، أجابه الامام قائلا :

" يا زياد ويحك ! وهل الدين إلا الحب ؟ ألا ترى الى قول الله : " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم " أولا ترون قول الله لمحمد " حبب اليكم الايمان و زينه في قلوبكم " قال : " يحبون من هاجر اليهم " .

وقال مضيفا : " الدين هو الحب و الحب هو الدين " (1)[8] وإذا كان الايمان هدية الله الى القلوب الطاهرة ، فانه فضل من الله لطائفة خاصة من البشر ، وليس كسائر نعم الله شاملة للجميع .

[ فضلا من الله و نعمة و الله عليم حكيم ]

يعلم أين ينبغي أن يجعل فضله و نعمته بحكمته البالغة .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 84


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس