بينات من الآيات [9] تعالج آيات القرآن عادة أسوء الحالات قبل الحديث عن الحالات العادية ، فمثلا حين تبين سورة النساء العلاقات الاجتماعية تستهلها بمعالجة حالة الطلاق التي هي عقدة العلاقة الاسريـة ، وكذلك سورة النور التي ترسم حدود الاسرة الفاضلة تبتدئ ببيان حد الزنا، و سورة المائدة التي تبني كيان الحضارة الاسلامية نراها تحدثنا في فاتحتها عن حرمة الاعتداء على أموال اليتامى الذين هم أضعف الحلقات الاجتماعية ، وهنا أيضا تعالج الآيات أعقد حالات الخلاف وهي حالة الاقتتال أولا ثم تتدرج في الحديث عن سائر الحالات الأقل تعقيدا . لماذا كل ذلك ؟
يبدو أن وراء كل ذلك حكمتين :
الأولى : لبيان الغاية التي سوف تنتهي اليها تسلسل الحالات ، لكي لا يستهان بمبدئها فالخلافات الجزئية التي نستخف عادة بها و الشائعات التي نبثها هنا و هناك ضد بعضنا بلا وازع قد تنمو حتى تصبح صراعا دمويا بين طائفتين من البشر . فلكي نرى الحقائق لابد أننضرب لها مثلا واضحا ثم نقيس عليه سائر الأمثلة .
الثانية : إن عظمة الشريعة تتمثل في معالجة الحالات الشاذة البالغة حدها في التعقيد ، أما الأوضاع العادية فان التعامل معها سهل ميسور .
فمعالجة حالة الطلاق أو الخيانة الزوجية ( الزنا ) هي المقياس لقدرة الشريعة على وضع نظام صائب لشؤون الاسرة ، كما ان الحفاظ على أموال اليتيم دليل على مدى صلاحية النظام الاقتصادي في المحافظة على حقوق الناس .
كذلك معالجة مشكلة الحرب الأهلية تشهد على مدى صلاحية النظام الاجتماعي في مواجهة التحديات .
من هنا بدأ السياق بهذه المعالجة وقال :
[ و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ]المسؤولية الأولى إذا هي وقف الاقتتال و إقامة السلام بأية وسيلة ممكنة ، وهي مسؤولية الجماهير ، لأنهم القوة الباقية بين الطائفتين . أما لو كلفنا طائفة ثالثة فقد تدخل طرفا في الاقتتال وقد لا تكون أقوى من إحديهما .
و الملاحظ اولا : ان التعبير جاء بصيغة التثنية ثم الجمع ثم التثنية ، ذلك ان سبب الاقتتال يكون عادة الاختلاف بين فريقين لكل منهما خصائصه و ميزاته ، و الصلح يكون بين قيادتي الفريقين ، بينما ذات الاقتتال يكون بين أتباعهما ، فقد يكون المقاتلون ضحية مؤامرة قيادتهم ، و زجهم في معركة لا مصلحة لهم فيها ، بينما القيادة عند الفريقين مسؤولة عن الحرب كما هي مطالبة بالصلح .
ثانيا : القرآن لم يحدثنا عن قوانين الصلح أو عن الصلح الذي يقوم على العدالة ، لأن تحقيقه في حالة الاقتتال يكاد يكون مستحيلا ، إنما طلب من الجميع العمل من أجل الصلح .
ثالثا : سمى القرآن الفريقين المتقاتلين بالمؤمنين بالرغم من ان الاقتتال ضلالة بعيدة ، مما يدل على إمكانية تورط أبناء الامة الواحدة في الحرب الأهلية بسبب الفتن و الأهواء ، فلا يجوز اتهام الناس بالكفر بمجرد دخولهم الصراع مع بعضهم حتى بلغ حد الحرب ، كما لا يجوز لأحد الطرفين اتهام الطرف الآخر بالخروج عن إطار الايمان بمجرد إعلانه الحرب عليه .
[ فإن بغت إحداهما على الأخرى ]
فلم تقبل بالصلح أو قبلت و غدرت .
[ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ]
هل يمكن ان نقيم السلام بالشعارات و المواعظ و المعاهدات و مجالس الأمن ؟ قد يكون كل ذلك نافعا ، ولكنه ليس بمستوى وقف الحرب التي لا يخوضها الناس إلا بعد أن ييأسوا من تحقيق أهدافهم بأية وسيلة أخرى ، فيركبون مركبها الصعب و يتحملون مآسيها و ويلاتها . فكيف يتوقفون عنها بنصيحة أو قرار ؟
لابد إذا أن يتحمـل الناس كل الناس مسؤولية الحفاظ على السلام و وقف نزيف الدم ، وذلك بخوض غمار الحرب بلا تردد ، و إلا فان بغاة الفتنة سوف يحولون الأرض جحيما .
ولست أعرف مبدأ فرض على تابعيه هذا المستوى من المسؤولية الاجتماعية ، فالمبادئ الغربية ترى انتخاب النظام حقا ، بينما الاسلام يراه واجبا ، و يفرض على المؤمن الكفر بمن يطغى و يريد فرض نفسه على المجتمع حاكما من دون رضاهم ، كما يفرض القتال ضد الذين يبغون الفساد في الأرض .
و يحدد القرآن القتال بعودة الفئة الباغية الى أمر الله و قبولها بتطبيق حكم الاسلام في قضايا الخلاف بينها و بين الفئة الأخرى ، مما يدل على واجب التقيد التام بحدود العدالة في التعامل مع البغاة بالرغم من بغيهم و اعتدائهم على السلام و الأمن .
وإذا عرفنا ان هؤلاء يشبهون المعارضة المسلحة في عرف اليوم ، نعرف كيف ينبغي التعامل مع المعارضة في النظام الاسلامي بأن نعيدهم الى الحدود الشرعيةو الممارسة القانونية لحقهم ، دون مصادرة حقوقهم و انتهاك حرماتهم و الاشهار بهم و إغراقهم بالتهم الرخيصة ، فكيف باعتقالهم و تهجيرهم و تعذيبهم و قتلهم ؟ كلا . إن الله سبحانه يحدد قتال البغاة بعودتهم الى أمر الله فاذا عادوا كان حالهم حال سائر أبناء الأمةسواء بسواء .
[ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ]
ولا يجوز التمييز بينهما و بين الفئة الاخرى ، بمجرد أنها بغت عليها . إذ ان فرض عقوبات على هذه الفئة أو حرمانهم من حقوقهم يمهد لحرب جديدة ، إنما العدل و إقامة حدود الله على الجميع بلا تمييز يقضي على أسباب الصراعات الاجتماعية لأن وقود هذه الصراعاتهم في الأغلب الفئات المحرومة التي يستغلها هذا أو ذاك .
[ وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ]
لعل القسط هو التطبيق الدقيق و الحازم لموجبات العدالة ، فهو الدرجة الأسمى للعدل . فكيف نحقق القسط في الفئتين المحاربتين ؟
قد تكون الفئة الباغية ( المعارضة المسلحة ) فئة محرومة تاريخيا ، كالسود في أمريكا ، فتساويهما في الحقوق مع مواطنيهم البيض لا يكفيهم ، ولا يقضي على عوامل البغي المجرد ، إنما ينبغي توفير قدر أكبر منالفرص لهؤلاء لرفع حرمانهم مثل تخصيص ميزانيات أكبر لمناطق تواجدهم ، و قبولهم في الجامعات بشروط أخف و إعطائهم ديونا بلا فوائد و . و . والله العالم .
وقد جاء في سبب نزول الآية أقوال شتى مما يدل على أن ذلك كان مجرد تطبيق الآية على بعض الحوادث التي وقعت بين المسلمين و أكثرها كانت بينالأنصار و بالذات بين الأوس و الخزرج الذين بقيت على عهد النبي آثار حربهما الضروس التي طالت عقودا متطاولة حتى أخمدها الله بالاسلام .
و أكثر تلك المشاحنات التي يذكرها المفسرون في سبب نزول الآية كانت بالأيدي و النعال و جريد النخل و لا أظن أنها تسمى قتالا .
وليس غريبا أن يبين القرآن حكم موضوعة تتحقق عادة في الأمم حتى ولو لم تحدث عند نزول الكتاب ، و قد شهد المسلمون صراعا دمويا بينهم في القرن الأول من الهجرة ، مما يصلح تأويلا للآية من هنا تحدث بعض المفسرين بتفصيل عن تلك الحرب ، ونحن بدورنا نجد فائدة كبيرة بذكر جانب مما تحدثوا عنه مبتدئين ذلك بنقل ما نقله القرطبي عن القاضي أبي بكر بن العربي حيث قال :
هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، و العمدة في حرب المتأولين ، و عليها عول الصحابة و إليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : " تقتل عمارا الفئة الباغية " و قوله عليه السلام فـي شـــــأن الخــوارج : " يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة " و الرواية الأولى أصــح ، لقوله عليه السلام : " تقتلهم أولى الطائفتين الى الحق " وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه ، فتقرر عند علماء المسلمين و ثبت بدليل الدين ان عليا رضى اللهعنه كان إماما ، و أن كل من خرج عليه باغ ، و ان قتاله واجب حتى يفيء الى الحق و ينقاد الى الصلح ، لأن عثمان رضى الله عنه قتـــل و الصحابة براء من دمه ، لأنه منع من قتال من ثار عليه و قال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء ، و استسلم للمحنة و فدى بنفسه الامة ، ثم لم يمكن ترك الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم ( عمر ) في الشورى ، و تدافعوها ، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها و أهلها ، فقبلها حوطةعلى الامة أن تسفك دماؤها بالتهارج و الباطل ، أو يتخرق أمرها الى ما لا يتحصل ، فربما تغير الدين و انقض عمود الاسلام . فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان و أخذ القود منهم . فقال لهم علي رضي الله عنه : إدخلوا في البيعة و اطلبواالحق تصلوا اليه ، فقالوا : لا تستحق بيعة و قتلة عثمان معك تراهم صباحا و مساء . فكان علي في ذلك أسد رأيا و أصوب قيلا ، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصب لهم قبائل و صارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر و تنعقد البيعة ، و يقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق .
ولا خلاف بين الامة انه يجوز للامام تأخير القصاص إذا أدى ذلك الى اثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة ، وكذلك جرى لطلحة و الزبير ، فانهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى . (1)ثم يسترسل القرطبي في تفسير حرب الجمل فيقول : وقال جلة من أهل العلم ان الوقعة بالبصرة بينهم ( بين المسلمين ) كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة ، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به . (2)ولم أهتد الى الفارق بين واقعتي البصرة و صفين أو بينها و بين النهروان . أولم يخرج الجميع على إمام قائم بالأمر بايعته أكثرية المسلمين فكيف نبرر خروج أهل البصرة ، و ندين أهل الشام أو الخوارج ؟
هب أن القتال كان فجأة ، ولكن ماذا يبرر إخراج حرم رسول الله من المدينة الى البصرة و تجنيد الجيوش و إظهار المخالفة بهذه الطريقة ؟
(1) القرطبي / ج 16 - ص 318
(2) المصدر
و أظن أن تاريخنا قد حفل بالتبرير ، و ربما التناقض لسبب نفسي مغلف بشبهة دينية ! أما السبب النفسي فهو الخلط بين قيم الدين و حوادث التراث ، و محاولة اضفاء حالة من القداسة على التراث ، دون عرضه على قيــم الوحـي أو نقده حسب موازين الشرع ، فكل ما يسمى بالاسلام أو بالمسلمين أو بالتاريخ الاسلامي ذات حرمة بل قداسة عند البعض ، بينما نجد في تاريخنا ما يندي له جبين الانسانية ، مثل واقعة عاشوراء حيث ذبح سيد الشهداء سبط رسول الله عطشانا على جنب الفرات و أسرت بنات رسول الله و طوف بهن البلاد .. كلا لا ينبغيأن نكون مثل الذين اتبعوا ءاباءهم و قدسوا تراثهم حتى قال لهم الله : " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءاباءنا ، أولو كان الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير " (1) وقال سبحانه : " وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزلالله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " . (2)المقياس الوحيد للحق هو وحي الله المتمثل في كتاب الله ، و تفسيره الصحيح الذي بينه رسول الله و أهل بيته المعصومون عليهم السلام ، أو ما يكشفه العقل و العلم بوضوح كاف .. أما سيرة السلاطين ، أو سلوك الأولين فانه يخضع بدوره للوحي ، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله أكرمناه ، وما خالفهما تركناه .. ولا يجوز تعطيل العقل في فهم الوحي لمصلحة التراث ، فإنه من الغلو في الدين الذي نهينا عنه ، كما قال الله سبحانه لبني إسرائيل : " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا منقبل ، و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل " . (3)(1) لقمان / 21
(2) المائدة / 104
(3) المائدة / 77
من هنا لا يجوز أن ننسب العصمة الى أصحاب رسول الله جميعا ، بل لابد أن نخضع تصرفاتهم لقيم الوحي و نأخذ بما ثبت عن طريقهم من أقوال رسول الله ولا يلزمنا اجتهادهم في الدين أو تفسيرهم للقرآن ، ولا سلوكهم خصوصا المخالف للنص .
ولا يجوز أن يوقعنا احترام الصحبة الى مخالفة نصوص الدين ، بخلاف ما قال المفسر المعروف القرطبي حيث ذكر انه : لا يجوز أن ينسب الى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به إذا كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه و أرادوا الله عز وجل وهم كلهم لنا أئمة . (1)حقا ينبغي احترام الصحبة ، ولكن ليس الى درجة الوقوع في التناقض أو التبرير الذي لا يقبله العقل ، فلا ريب ان قتال الصحابة مع بعضهم كان خطأ فادحا ، لابد أن ندينه و ندين الباغي ، و كيف يجوز لنا أن نقيم حوادث اليوم حسب الدين ؟ ولا يجوز أن نفعل مثل ذلكفي الماضين ، أولم يكونوا بشرا مثلنا ، أولم تكن لهم شهوة السلطة و الثروة .. دعنا نكون أكثر واقعية ، و نضع كل شيء في موضعه المناسب ولا نكون كالحسن البصري الذي سئـــل عـن قتال الصحابة فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وآله و غبنا ، و علموا و جهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا .. (2)
فهل يجوز أن نطلق مثل هذا الكلام بالنسبة الى كل حادثة تاريخية ؟! إذا نعطل العقل ، بل نعطل موازين الشريعة ، كلا .. لابد أن ندرس التاريخ و نعتبر بما فيه و نميز الحق و الباطل فنتبع الحق و ندع الباطل و الله المستعان على ذلك .
(1) القرطبي / ج 16 - ص 321
(2) المصدر / ص 322
أما الشبهة الدينية فهي إننا لو شككنا في أمر الصحابة ضاعت علينا معالم ديننا ، أوليسوا هم الوسيط بيننا وبين معرفة الدين ؟ و أضافوا أن هناك أحاديث مأثورة عن الرسول باحترام الأصحاب و أنهم كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا .. و نقول : إن معالم الدين واضحةبالقرآن ، و علينا أن نعرض عليه حتى أحاديث الرسول و أهل بيته فكيف بافعال بشر مثلنا ؟ ثم ان كل جيل يأخذ معالم دينه من الجيل السابق عليه فهل من المعقول إضفاء هالة العصمة على كل الأجيال ؟ وما الفرق مثلا بين الصحابة و جيل التابعين في أن من لحقهما أخذ منهما معالم الدين ؟ فكما ميز علماء المسلمين بين التابعين حسب قوانين علم الرجال ، فقالوا هذا ثقة أخذوا منه الدين وهذا وضاع و ذاك ضعيف و الثالث مجهول الحال فلم يأخذوا منه الحديث كذلك ينبغي أن نفعل بالجيل السابق لهم ، فنفرق مثلا بين أبي ذر الغفاري ، الذي ماأظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منه ، و بين سمرة بن جندب الذي كان يكاسر معاوية في ثمن الأحاديث الموضوعة .
وإذا جاءت روايات في فضل الأصحاب فيجب تقييدها بالصادقين منهم الذين لم يحدثوا بعد الرسول ، وذلك لسببين :
أولا : لمعارضتها مع روايات أخرى مأثورة عن النبي ، تؤكد ان بعض الصحابة يحدثون من بعده ، وإنهم يذادون يوم القيامة عن الحوض كما يذاد البعير ، وأنه ستكثر من بعده القالة فمن كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار .
ثانيا : لأننا يجب أن نجعل كتاب الله مقياسا لمعرفة حدود أحاديث الرسول ، و الله سبحانه و تعالى يقول : " قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون " . (1)(1) الزمر / 9
" أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " . (1)" وما يستوي الأعمى و البصير ، و الذين آمنوا و عملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون " . (2)" لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا وكلا وعد الله الحسنى و الله بما تعملون خبير " . (3)و عندمـا بين ربنا فضائل الجيل الأول من المسلمين إشترط الايمان و الاحسان فيهم ، و لــم يطلــق الكــلام عندمـا وعدهم الأجر العظيم ، بل قيده بذلك و أكد عليه بحرف " من " التبعيضية و قال :
" محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهمالكفار وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما " . (4)أحكام الباغين
أ / هل الآية تشمل حالة القيام ضد الحكم الاسلامي أم تخص الاختلاف بين طائفتين من المسلمين ليس بينهما إمام ؟ المعروف بين المفسرين انها تشمل الحالة الأولى و لذلك فقد تحدثوا في تفسيرها عن حكم البغاة ، و عما حدث في الصدر(1) السجدة / 18
(2) غافر / 58
(3) الحديد / 10
(4) الفتح / 29
الأول من اقتتال الأصحاب مما كان مظهرا واضحا للبغي ضد الامام الحاكم .
و يبــدو أن هـذا الفهم يستند الى ان الاقتتال بين المسلمين يكون عادة على السلطة ، حيث لا ترى طائفة منهم السلطة شرعية فتقوم ضدها ، و سواء كانت تملك حجة في ذلك ، وكما قامت طوائف من المسلمين ضد الحكام في العهدين الأموي و العباسي ، أولا كالذي حدث في عهد الامام علي عليه السلام ، فان الآية تشمل ذلك كله ، و يشهد على ذلك الحديث المفصل المروي عن الامام الصادق عليه السلام و الذي جاء فيه : " بعث الله محمدا بخمسة أسياف ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها ، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها .. الى أن قال : و أما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي و التأويل ( ثم قرأ الآية الكريمة : و إن طائفتان .. ) فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله : إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، فسئل النبي : من هو ؟ فقال : خاصف النعل ، يعني أمير المؤمنين ، فقال عمار بن ياسر : قاتلت بهذه الراية مع رسول الله ثلاثا وهذه الرابعة ، و الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا المسعفات من هجر لعلمنا انا على الحق و أنهم على الباطل " . (1)و علق الفقيه الكبير الشيخ محمد حسن النجفي على ذلك بقوله : خبر الأسياف المروي في التهذيب و الكافي و عمل به الأصحاب و تسمعه إنشاء الله صريح فيما ذكره بعض من أنه نزل فيهم قوله تعالى : وإن طائفتان الآية . (2)ب / لا ينبغي معاملة أهل البغي معاملة الأعداء ، بل ينبغي أن نقاتلهم لكف بأسهم و درء للفتنة فاذا فاءوا الى أمر الله عاملناهم كاخوة .. وقد جاء في تتمة(1) وسائل الشيعة / ج 11 - ص 18
(2) جواهر الكلام / ج 21 - ص 323 ( الطبعة الثانية )الحديث الآنف ذكره : " و كانت السيرة فيهم ( أهل البغي ) من أمير المؤمنين (ع) ما كان من رسول الله (ص) في أهل مكة يوم فتح مكة فانه لم يسب لهم ذرية ، وقال : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه ( أو دخل دار أبي سفيان ) فهو آمن ، وكذلك قال أمير المؤمنين (ع) يوم البصرة نادى : لا تسبوا لهم ذرية ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تتبعوا مدبرا ، ومن أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن " . (1)و جاء في حديث آخر عن الامام الصادق عليه السلام : عن عبد الله بن سليمان : قال قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : إن الناس يروون أن عليا قتل أهل البصرة و ترك أموالهم ( مما يثير تساؤلا عندهم كيف يبيح دماءهم ولا يبيح أموالهم ؟ ) فقال : " إن دار الشرك يحل ما فيها وإن دار الاسلام لا يحل ما فيها " . (2)بـــل نجد في حديث آخر أعظم من ذلك فقد روى مسعدة بن زياد عن جعفر عن أبيه : " إن عليا لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه الى الشرك ولا الى النفاق ولكنه كان يقول : هم إخواننا بغوا علينا " . (3)روى عن الامام علي عليه السلام انه سئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أكافرون هم ؟ قال : " كفروا بالاحكام و كفروا بالنعم ليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوة و لم يقروا بالاسلام ولو كانوا كذلك ما حلت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم " . (4)
(1) وسائل الشيعة / ج 11 - ص 18
(2) المصدر / ص 58
(3) المصدر / ص 62
(4) جواهر الكلام / ج 21 - ص 338 نقلا عن كتاب الدعائم .
ج / يبدو أن البغاة لا يضمنون ما أتلفوه من مال أو أراقوه من دم ، كما لا يضمن لهم ما تلف منهم من مال أو دم ، لأن الصلح يعني تنازل كل طرف عما يعتقد أنه حقه في مقابل تنازل الطرف الآخر . هذا إذا تم الصلح ، وفي حالة استمرار القتال حتى تفيء الفئة الباغيةفان مقتضى جعل العودة الى أمر الله نهاية للقتال أنه ليس هناك حكم آخر كالقصاص و الضمان ، و إلا جعلا حدا للقتال ، وهذا هو الظاهر من الروايات التي تبين أحكام البغاة إذ لم أجد فيها حديثا يتعرض لأحكام القود و الضمان و الغرامة مع أنها في مقام البيان .
كما ان هذا هو المعروف من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ، فلو أراد الاقتصاص منهم لقتل بعض أسراهم ممن كان يقود الجيش المعادي كمروان بن الحكم و عبد الله بن الزبير الذين لا ريب في تعلق القصاص بهم .
جاء في التاريخ ان الامام أمير المؤمنين عليه السلام لما هزم أهل البصرة ذهب الى دار عظيمة كان فيها أسرى الحرب فاذا نساء يبكين بفناء الدار فصحن به و قلن : هذا قاتل الأحبة ، فبعث اليهن واحدة وقال : " لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومنفي هذه " و أومأ الى ثلاث حجر فذهبت اليهن وقالت لهن فسكتن جميعا ، وكان في واحدة منها عائشة و خاصتها ، وفي الثانية مروان بن الحكم و شباب من قريش ، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير و أهله " . (1)وقال القرطبي في تفسيره : وما استهلكه البغاة و الخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤخذوا به ، وقال أبو حنيفة : يضمنون ، و للشافعي قولان ، وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان ، و المقول في ذلك عندنا ان الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا(1) جواهر الكلام / ج 21 - ص 331
نفسا ولا مالا وهم القدوة . (1)
د / قـال الفقهاء إن الباغي ذا الفئة يقتل أسيرا و يجهز عليه جريحا و يستحل ماله ، لأنه يعود الى من يجمع له السلاح و يغدق عليه الأموال و يعاود القتال .. و جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام أنه سئل عن الطائفتين من المؤمنين إحديهما باغية و الاخرى عادلة فهزمت العادلة الباغية قال : " ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يقتلوا أسيرا وهذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد ولم يكن فئة يرجعون إليها ، فاذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فان أسيرهم يقتل ، و مدبرهم يتبع و جريحهم يجهز عليه " . (2)
وقال المحقق في الشرائع : من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع اليها جاز الاجهاز على جريحهم و اتباع مدبرهم و قتل أسيرهم . فعلق عليه صاحب الجواهر بقوله بلا خلاف أجده في شيء من ذلك . (3)وهذا الحكم يستفاد ايضا من الآية الكريمة ، لأن ذا الفئة من البغاة لا يزال في حالة الحرب إذا لم ينفصل عنهم أوليست فئته تحارب المسلمين وهو لم يتبرأ منهم .. فلم يتحقق بالنسبة اليهم قوله سبحانه : " حتى يفيئوا الى أمر الله " .
و جاء في حديث مأثور أنه أتى علي عليه السلام بأسير يوم صفين فبايعه فقال علـــي (ع) " لا أقتلك إني أخاف الله رب العالمين ، فخلى سبيله و أعطاه سلبه الذي جاء بــه " . (4)(1) القرطبي / ج 16 - ص 320
(2) المصدر / ص 329
(3) المصدر / ص 328
(4) وسائل الشيعة / ج 11 - ص 54
و من هنا يظهر ان الأسير يستتاب فان تبرأ من قومه أطلق سراحه و الله العالم .
[10] كما النهر يطهر بعضه بعضا ، كذلك المؤمنون لا يفتأون يصلحون ما فسد من علاقاتهم ببعضهم حتى يصبحوا إخوانا .
[ إنما المؤمنون إخوة ]
و جاءت الكلمة بصيغة الحصر لتذكرنا بأن الايمان الذي لا يرفع المنتمين اليه الى حالة الاخوة إيمان ضعيف ناقص ، فهاهنا تقاس التقوى ، و تمحص النفوس للايمان ، و يستبين الصادقون عن المنافقين .
عشرات الأنظمة الاجتماعية ، و مئات الوصايا الأخلاقية توالت في الدين ليبلغ المسلمون حالة الاخوة الايمانية ، و متى ما خالفنا بعضها انماث الايمان في القلوب كما تنماث حبة الملح في كف المحيط .. و جاءت الروايات تترى وهي توصينا بحقوق إخوتنا في الايمان ، تعالوا نستمع الى بعضها لعلنا نخلق ذلك المجتمع الأمثل الذي يتحدى أعاصير الفتنة و الصراع .
روي عــن الإمـام علـي عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليـه وآله : " للمسلم على أخيه ثلاثون حقا لا براءة له منها إلا بالاداء أو العفو يغفر زلته ، و يرحم عبرته ، و يستر عورته ، و يقيل عثرته ، و يقبل معذرته ، و يرد غيبته ، و يديم نصيحته ، و يحفظ خلته ، و يرعى ذمته ، و يعود مرضته ، و يشهد ميته ، و يجيب دعوته ، و يقبل هديته ، و يكافئ صلته ، و يشكر نعمته ، و يحسن نصرته ، و يحفظ حليلته ، و يقضي حاجته ، و يشفع مسألته ، و يسمت عطسته ، و يرشد ضالته ، و يرد سلامه ، و يطيب كلامه ، و يبر انعامه ، و يصدق أقسامه ، و يوالي وليه ، ولا يعاديه ، و ينصره ظالما و مظلوما : فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه ، و أما نصرتهمظلوما فيعينه على أخذ حقه ، ولا يسلمه ولا يخذله ، و يحب له من الخير ما يحب لنفسه و يكره له من الشر ما يكره لنفسه . ثم قال عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له و عليه " . (1)
روى عن الامام الصادق عليه السلام : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يغشه و لا يغتابه ولا يخوفه و لا يحرمه " . (2) وعنه عليه السلام : " المؤمن أخو المؤمن عينه و دليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه " . (3)
و عنه عليه السلام : " تقربوا الى الله تعالى بمواساة إخوانكم " . (4)و روي عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره . التقوى هاهنا ( و أشار الى صدره ثلاث مرات ) حسب امرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه " . (5)و روي عنه ايضا : " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا و كونوا عباد الله إخوانا " . (6)و التحسس : الاستماع الى صيت القدم ، و التناجش ان تزيد في سلعة ولا رغبة لك في شرائها .
(1) بحار الانوار / ج 74 - ص 236
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 87
(3) المصدر / ص 86
(4) بحار الانوار / ج 74 - ص 391
(5) تفسير القرطبي / ج 16 - ص 323
(6) المصدر
و جاء عن الامام الصادق عليه السلام وهو يبين مدى عمق الصلة بين المؤمنين :
" إنما المؤمنون إخوة بنو أب و أم ، و إذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون " . (1)إنها علاقة روحية تتجاوز حدود المادة ، و تتصل بالغيب ، و جاء في حديث آخر عن الامام الباقر عليه السلام : سأله جابر الجعفي و قال : تقبضت بين يدي أبي جعفر فقلت جعلت فداك : ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي و صديقيفقال : نعم يا جابر إن الله عز وجل خلق المؤمنين من طينة الجنان و أجرى فيهم من ريح روحه فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه و أمه ، فاذا أصاب روح من تلك الارواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لأنها منه " . (2)و يبقى سؤال : لما اختار الاسلام كلمة الاخوة لبيان مدى العلاقة بين ابنائه ؟ ثم لماذا نسب هذه الحالة الى الايمان ؟
أولا : حينما اختار المبدأ الغربي كلمة ( المواطن ) لبيان العلاقة بين أبنائه إنطلق من فكرة تقديس الأرض و ربط الناس بها و بالمصالح المشتركة التي تشد مجموعة من البشر ببعضهم ، و حينما انتخب المبدأ الشرقي كلمة ( الرفيق ) فقد اعتمد على دور المسيرة النضالية في علاقاته الاجتماعية . أما الاسلام فقد اجتبى لنا كلمة الاخ لنعلم ان صلتنا ببعضنا ليست مادية قائمة على أساس تقدير الأرض و المصالح ، كما أنها لا تخص حالة النضال و رفاقة المسيرة ، و إنما هي مبدئية ناشئة من صلة كل واحد منا بدينه ، حتى ليصبح الدين كالأب الذي هو أصل وجود
(1) المصدر / ص 264
(2) المصدر / ص 266
الابن ، وكلما قويت و اشتدت صلتنا بالأصل كلما قويت و تنامت صلتنا ببعضنا .
ومن هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام : " المؤمن أخو المؤمـن كالجســد الواحــد ، إذا إشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده ، و أرواحهما من روح واحــدة ، و إن روح المؤمن لاشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها " . (1)
و إنما نسب الوحي الاخوة الى الايمان ( وليس الاسلام ) لأن الاسلام مجرد التسليم للدين بينما الايمان وقر في القلب يفيض على كل جوانب حياة الانسان ، و الذي يرفع الناس الى مستوى الاخوة ليس مجرد التصديق المبدئي بالدين وإنما تطبيق تلك التعاليم القيمة التيتسقط الحواجز المادية و المصلحية التي تفصلهم عن بعضهم .
[ فأصلحوا بين أخويكم ]
ما دمنا إخوة ، فلابد من ردم الفجوات التي تفصل بيننا ، و هدم الحواجز و سد الثغرات . أرأيت البنيان المرصوص ، وهكذا يكون بناء التجمع الايماني . أرأيت لو أمتلئ بالثغرات و الثقوب هل يكون البنيان مرصوصا ، وهل يصلح للبقاء طويلا ؟
إن التعامل اليومي بين المؤمنين يستدعي إشاعة حالة السلام و الصفاء و المودة بينهم ، وإلا فإن التعامل ليس فقط يصبح صعبا ، بل يكون متلفا للأعصاب و يسبب تراكم السلبيات . ولولا عملية الاصلاح اليومية التي يقوم بها المؤمنون تجاه إخوتهم فيما يشجر بينهم فإنتراكم السلبيات يمهد السبيل للصراعات الكبيرة التي قد تؤدي الى حالة الاقتتال ، لأن كل واحد يستقطب طائفة من المؤمنين حوله(1) بحار الانوار / ج 74 - ص 268
و ينشب الصراع بين طائفتين بينما كان في البدء بين فردين اثنين .
إن الاسلام قد سن تشريعات كثيرة في تنظيم العلاقة بين المؤمنين ، ولكن إذا لم نعرف الهدف الأسمى لها ولم نطبقها بحيث نبلغ ذلك الهدف المتمثل في تكريس حالة الاخوة بين المؤمنين فاننا لا ننتفع كثيرا بها ، بل علينا فوق ذلك أن نضيف الى التشريعات الدينية ممارسات خلقية وحتى لوائح قانونية لتحقيق الاصلاح .. كما ان الدين مثلا سن أحكاما كثيرة لرعاية الصحة الجسدية ، فعلينا : أولا : أن نطبقها بحيث نبلغ هذا الهدف ، و ثانيا : أن نشرع قوانين جديدة للوصول الى ذلك الهدف ، إذا احتاجت الصحة إليها ، مثل بناء المصحات أو تطهير الشوارع أو إيجاد مراكز الحجز الصحي وما أشبه .
إن تعاليم الدين التي تخص المقاصد العامة كالصحة و الاصلاح و العدالة و العزة و الكرامة وما أشبه ينبغي أن نطبقها و نعطيها الأولوية بالقياس الى أحكام الدين التي تهتم بسبل تحقيق هذه المقاصد ، و لا يجوز أن نهمل هذه الأوامر و كأنها تعاليم أخلاقية عامة لاتفرض حكما .
ولعل خاتمة الآية تشير الى مدى وجوب هذا الأمر الكلي حيث يقول ربنا :
[ و اتقوا الله لعلكم ترحمون ]
بلى . إن رحمة الله و صلواته و بركاته تتنزل على الذين يتواصلون و يتبارون ، لأنهم يطيعون الله في أداء حقوق إخوانهم .
فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله : " من زار أخاه في بيته قال الله عز وجل له : أنت ضيفي و زائري علي قراك وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه " . (1)(1) بحار الانوار / ج 74 - ص 345
و جاء في الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله : " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما يستره الله يوم القيامة " . (1)فضيلة الاصلاح بين الناس :
ولقد أمرت الآية بالاصلاح بين الاخوة المؤمنين ، و قررت النصوص للمصلحين أجرا عظيما .
ففي وصيته عند وفاته لنجليه الحسن و الحسين عليهما السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام : " أوصيكما و جميع ولدي و أهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله و نظم أمركم ، و صلاح ذات بينكم فأني سمعت جدكما رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام " . (2)
و جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق أنه قال : " صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا و تقارب بينهم إذا تباعدوا " . (3)و قال عليه السلام : " لان أصلح بين اثنين أحب ألي من أن أتصدق بدينارين " . (4)و بالرغم من إن الكذب ذنب عظيم إلا ان الدين اعتبر الكذب في الاصلاح صدق عند الله .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 88
(2) بحار الانوار / ج 75 - ص 24
(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 88
(4) المصدر
و جـاء في الحديث المروي عن الامام الصادق عليه السلام : " المصلح ليس بكاذب " . (1)(1) المصدر / ص 89
13 + 408
ولا يغتب بعضكم بعضا
|