فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[13] التوحيد صبغة المجتمع الذي يبشر به الدين ، و توحيد الله سبحانه يتنافى و القيم الشركية التي يهبط اليها البشر عندما يبتعدون عن الوحي الإلهي .. من تقديس الآباء و التراث و التقاليد و التمحور حول القبيلة و العشيرة .. و تقديس الأرض و القوم و الحزب ،الى تأليه الثروة و القوة و اللون و العنصر .

كلا .. الانسان فوق ذلك جميعا إذا تمسك بحبل الله ، و اهتدى بنور الوحي و العقل .

و تلك القيم الزائلة ليست فقط شركية تقلل من قيمة الانسان - بعيدا عن تلك الاعتبارات - و تشوه رؤيته الى حقائق الخلق ، و تحجبه عن معرفة الخالق . بل هي ايضا جاهلية متخلفة ، و ما تقدمت البشرية خطوة إلا بقدر ابتعادها عن تلك القيم بمثلها .

فمن عكف على عبادة صنم الأولين ، و قدس تراثه و تقاليده أنى له أن يساير تطورات الزمن ، و يستوعب تجارب الآخرين ، و ينمو مع الأفكار التقدمية ؟ ومن عبد صنم قبيلته أو عشيرته هل يمكنه أن ينفتح على إيجابيات غيره أو يمد يد التعاون مع من يعتبرهم الأرذلينو يسخر منهم ، مهما كان عندهم من أفكار و طاقات ؟

وهكذا .. كل من حدد نفسه في إطار ضيق لا يمكنه أن ينطلق مع قطار الحضارةأنى مشت مواكبها ، ومن أبرز سيئات مثل هذه التصورات هدم الجسور الطبيعية بين أبناء آدم ، و إشاعة روح التباغض و التناحر بينهم ، مما يجعلهم في مواجهة بعضهم ، و قد يدفعهم نحو الحروب الطاحنة التي لم يتخلص منها البشرية طوال تاريخها المعروف بسبب تمسكهم بهذه القيم الجاهلية .

من أجل ذلك دعت رسالات الله الى رفض هذه القيم التي ما أورثت الانسانية إلا خبالا .. و الاستعاضة عنها بقيمة التقوى .. وقالت الآية الكريمة :

[ يا أيها الناس ]

و الخطاب لم يخص المؤمنين بالرغم من ان سياق السورة يقتضي ذلك ، لأنه كان ينظم العلاقة بينهم . ربما لأن هذه تنفع البشرية كما تنفع المؤمنين ، وإذا كان الناس جميعا مدعوون إليها فالمؤمنون أولى بالتمسك بها . ثم إن علاقة المؤمنين بغيرهم ينبغي أن تقوم علــى أساس هذه البصيرة ، فلا يجوز أن يعتبر العرب منهم أنهم الأعلى بلغتهم أو عنصرهم ، فتشكل هذه العقيدة الجاهلية حاجزا دون دخول سائر الشعوب في دين الله .

[ إنا خلقناكم من ذكر و أنثى ]

فالأصل واحد ، وإذا كنا نكرم آباءنا ، فكلما تقدمنا في الزمن فلن نتجاوز أبانا الأكبر ، و جدتنا الكبرى ، آدم و حواء . فأولى بنا أن نجعلهما محورا و نكرم كل من ينتمي إليهما من سائر البشر .

قالوا : و الآية تدل على أن خلقة الانسان ليست بماء الذكر فقط ، وإنما يشترك فيها ماء الانثى كما قال ربنا سبحانه : " خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلبو الترائب " (1) أي صلب الأب و ترائب الأم .

وهذه البصيرة القرآنية تنفي الفكرة الجاهلية التي كانت تزعم ان رحم الأم مجرد وعاء لنمو نطفة الأب ، و صادروا بذلك حق المرأة في انتساب الطفل اليها وقال قائلهم :

بنونا بنـــو آباءنا و بناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعدكلا .. الأم أحد الشريكين في الخلق ، و احترامها يساوي او يفوق احترام الأب في الشريعة .

و هكذا تنفي الآية العنصرية الجنسية التي ابتلى بها الجاهلون العرب قبل الاسلام ، و نادى بالمساواة بين الذكر و الانثى فيما يرتبط بأصل الخلق .

[ و جعلناكم شعوبا و قبائل ]

قالــوا : الشعب مجموعة القبائل كمضر و عدنان ، بينما القبيلة هي تفرعات الشعب ، و قال بعضهم : الشعب من ينسب الى الأرض ، بينما القبيلة تنسب الى أصلهم . وقال آخرون : الشعب هم قبائل غير العرب .. و أنى كان فان هذا التقسيم الذي يبتدء بوحدة الأسرة ثم يتوسع الى العشيرة ثم الفخد و البطن حتى يصل الى العمارة و القبيلة ثم الشعب ، لم يكن عبثا ، و إنما بهدف التعارف .

[ لتعارفوا ]

فمنطق الصراع الذي إختلقه داروين مرفوض في الحياة البشرية ، إنما الناس(1) الطارق / 6 - 7


إختلفوا ليمارس كل دوره بحرية و لتتنامى تجربة البشرية عبر تنوعها ، ولكي يغني كل فريق تجارب غيرهم بما اكتشفه من تجارب .. و بالتالي ليتعارفوا .

بلى إن ذات الحكمة التي شرعت الأسرة من أجلها قائمة في بناء الوحدات الاجتماعية الأخرى كالعشيرة و القبيلة و الشعب .

وهذه البصيرة تهدينا :

أولا : الى مشروعية هذه التقسيمات الطبيعية و انها - في الأساس - نافعة ، و علينا أن نعيدها الى طهرها ، بعيدا عن كل ألوان العصبية و التعالي لنجني ثمارها الطيبة .

وهذا ما يدعو اليه الاسلام كما جاء في النصوص الدينية من ضرورة صلة الرحم و التواصل مع العشيــرة جاء فــــي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : " لايدخل الجنة قاطع رحم " (1) .

وقال : " لما أسري بي الى السماء رأيت رحما متعلقة بالعرش تشكو رحما الى ربها ، فقلت لها ، كم بينك و بينها من أب ، فقال : نلتقي في أربعين أبا " (2) .

و جاء في رواية مأثورة عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه خطب في الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : " لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال و ولد عن عشيرته ، وعن مداراتهم و كرامتهم و دفاعهم عنه بايديهم و ألسنتهم ، هم أعظم الناس حياطه له من ورائه، و المهم لشعثه ، و أعظمهم عليه حنوا ، إن أصابته مصيبة ، أو نزل به يوما بعض مكاره الأمور ، و من يقبض يده عن عشيرته ، فانما(1) بحار الانوار / ج 74 - ص 91

(2) المصدر


يقبض عنهم يدا واحدة ، و تقبض عنه منهم أيد كثيرة ، و من محض عشيرته صدق المودة ، و بسط عليهم يده بالمعروف إذا وجده إبتغاء وجه الله ، أخلف الله له ما أنفق في دنياه ، و ضاعف له الأجر في آخرته " (1) .

ثانيا : أن التعارف بين الناس واحد من أهم مقاصد الشريعة الغراء ، لماذا ؟ لولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق أوتدري لماذا ؟ لأن الابتلاء لا يتم إلا بالحرية و المسـؤولية فلو اختلط الناس ببعضهم كيف يميز الصالح فيثاب عن المجرم فيعـــاقـب ؟ أم كيف تتراكم مكاسب المحسنين و تحصن من أن يسرفها الكسالى و المجرمون ؟ كلا . لابد أن يميز الناس عن بعضهم تمييزا كافيا ليأخذ كل ذي حق حقه ، فيشجعه ذلك على المزيد من العطاء ، و يأخذ التنافس دوره في دفع عجلة الحياة قدما الى الامام .

ثالثا : إن حكمة الاختلاف هو التكامل - بعد التنافس على الخيرات - وليس الصراع و التطاحن ، وقد قال ربنا سبحانه : " و تعاونوا على البر و التقوى " ومن دون التعارف كيف يتم التعاون ، إن على الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم ليتبادلوا الخيرات ، أماإذا تقوقعت كل طائفة في حدودها الجغرافية أو الاجتماعية ولم يتعارفوا فكيف يمكن التعاون بينهم ؟ .

ولعل هذه البصيرة تهدينا الى أهمية التعارف بين الشعوب في عصرنا الراهن ، لأن إمكانات التعاون بينهم لا تزال غير مستغلة حتى بنسبة ( 10% ) ولو ضاعفنا المؤسســات العالمية في كافة المجالات عشرات الأضعاف لكانت فرص التعاون لا تزال أوسع .

[ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ]


(1) المصدر / ص 101


حينما تسقط القيم الزائفة ، و العصبيات الجاهلية المتخلفة ينفتح أفق التنافس الشريف على الخيرات التي يلخصها القرآن هنا بكلمة " التقوى " و يفصلها في آية مشابهة قائلا :

" و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات الى اللهمرجعكم جميعا فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون " (1) .

و نستلهم من لحن القول في هذه الآية : إن التنافس على العمل الصالح و التسابق في الخيرات هو هدف اختلاف الشعوب ، وإن لكل منهم شرعة و منهاجا ، بل إن هذا الاختلاف و التنوع مطلوب إذا كان وسيلة للتنافس البناء ، و التعارف و التعاون ، كما أن الاختلاف بينالناس في مجتمع واحد هدفه التسارع الى الخيرات ، و التعاون فيها كذلك التفرع بين الشعوب و المجتمعات المتنوعة أليس يقول ربنا سبحانه :

" أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهــم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا و رحمت ربك خير مما يجمعون " (2) .

و إذا كان الهدف من هذا التنوع التسارع في الخيرات ، فإن أكرم الخلق عند الله من استبق إليها ، فالأقرب الى الصراط المستقيم ، و الأسبق في الصالحات هو الأكرم ، لأنه الذي يحقق الهدف دون غيره ، و الى هذه تشير كلمة التقوى .. أليست(1) المائدة / 48

(2) الزخرف / 32


التقوى هي المعرفة بالله و العلم بشريعته ، و الاجتهاد في تنفيذها ؟

و أصل الكلمة من الوقاية ، أي التحصن ضد أسباب الهلاك و لا تحصل هذه الوقاية من دون معرفة الطريق و الاستقامة عليه ، بعيدا عن أمواج الفتن ، و ضغوط الهوى و رياح الشهوات ، لذلك كانت التقوى ارفع درجة من الايمان ، كما إن الايمان أرفع درجــة من الاسلام ، وقد قال الامام الرضا - عليه السلام - : " الايمان فوق الاسلام بدرجة ، و التقوى فوق الايمان بدرجة ، و اليقين فوق التقوى بدرجة ، و ما قسم في الناس شيء أقل من اليقين " (1) .

وإنما رفع الاسلام قواعد المجتمع الفاضل على أساس التقوى ، لأنه من دونها تمزق العصبيات الجاهلية التجمع البشري ، ولا تدعه يتكامل ، بل في كثير من الأوقات يتقابل مع بعضه ، و يسير في طريق الهدم .

قال الله سبحانه : " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها و كان الله بكل شيء عليما " (2) .

إن كلمة التقوى هي صبغة التجمع الايماني و محوره ، و عماد تماسكه ، و مبعث قوته ، بينما العصبيات الجاهلية هي صبغة سائر المجتمعات غير الايمانية .. و حين حارب الاسلام هذه العصبيات استطاع أن يصهر المجتمع الجاهلي المتشرذم في بوتقة التوحيد ، و يبني منه تلك الحضارة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا .

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية : ان النبي صلى الله عليه وآله أمر بني(1) تفسير نمونه عن بحار الانوار / ج 70 - ص 136

(2) الفتح / 26


بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وآله - : نزوج بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل الآية . (1)و يظهر من هذا الحديث و الذي يليه مدى الصعوبة التي عاناها رسول الله في انتزاع روح العصبية من ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف ، وقد روي عن ابن عباس أنه لما كان يوم فتح مكة أمر النبي - صلى الله عليه وآله - بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسير بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم ، و قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد (ص) غير هذا الغراب الأسود حتى يؤذن له ، و قال سهيل بن عمر : إن يرد الله شيئا يغيره ، و قال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبرئيل النبي - صلى الله عليه وآله - و أخبره بما قالوا : فدعاهم و سألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية . (2)و حتــى آخر أيامه كان النبي - صلى الله عليه و آله - يكافح ضد الحمية الجاهلية ، فقد ذكر الرواة أنه خطب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمنى في وسط أيام التشريق ( حيث تجمع الحجاج من كل البلاد ) وهو على بعير فقال :

" يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمـي و لا أعجمـي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ قالوا نعم قال ليبلغ الشاهد الغائب " (3) .

وهكذا تجاوز المسلمون السابقون عقبات التخلف الجاهلي حين تجاوزوا حواجز(1) القرطبي / ج 16 - ص 341

(2) المصدر

(3) المصدر / ص 342


الدم و اللون و الاقليم و وحدوا طاقاتهم المتشتتة تحت راية التوحيد ، و جعلوا التقوى محور تنافسهم البناء .

وقد اشتهرت عن أمير المؤمنين - عليه السلام - في ذلك مقطوعة رائعة :

الناس من جهة التمثال أكفــاء أبـــوهـــم آدم و الأم حـــــواءنفس كنفس و أرواح مشاكلــة و أعظم خلفت فيهم و أعضاءفان يكن لهم من أصلهم حسب يفاخـــرون به فالطين و الماءما الفضل إلا لأهـل العلم انهــم علـى الهدى لم استهدى أدلاءو قدر كل امرء ما كان يحسنه و للرجـــال على الأفعال سيماءو ضد كل امرء ما كان يجهله و الجاهلون لأهل العلم أعداء (1)[ إن الله عليم خبير ]

و تأتي هذه الخاتمة لبث السكينة في قلوب المؤمنين ألا يقلقوا إن رأوا تكالب الناس على الدنيا و تدابرهم عن أهل التقوى ، فان الله عليم بهم و خبير و بيده أزمة الأمور وهو يكرم المتقين ، و كفى به شاهدا و كفى به مثيبا عادلا .

[14] لأن تجاوز الحمية الجاهلية صعب مستصعب خصوصا على الأعراب الذين عاشوا دهرا يسبحون بأمجادهم و مفاخرهم ، فان القرآن الكريم يذكرنا بأن الايمان ليس مجرد التسليم الظاهر للدين الجديد ، بل هو تغيير عميق للشخصية يتجلى في الممارسات العملية ، ومن زعم أنبامكانه الجمع بين قيم الجاهلية و الدين فانه لم يفهم معنى الدين . أوليس الدين شفاءا من أمراض الجاهلية .. و بديلا صالحا للقيم الفاسدة فكيف يجتمعان ؟


(1) المصدر


الدين الحق جهاد متواصل ضد سلبيات البشر . ضد حواجـز الدم و اللون و الأرض . ضد قيــم الأنسـاب و التقاليد و الأعراف البائدة . ضد الهوى و الشهوات و الجهل و التحــزب .. فمــن استطاع أن يخلص طاعته لله و للرسول ( دون تقاليده و تراث سلفه ) ، و جاهد في سبيل إصلاح مجتمعه ، فهو الذي ارتقى الى مستوى الايمان .

[ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ]و الفرق بينهما ان الاسلام هو التسليم للدين تسليما ظاهرا .. بقبول الشهادتين و الخضوع للأحكام الشرعية ، بينما الايمان انقلاب حقيقي لنفس الانسان .

[ و لما يدخل الايمان في قلوبكم ]

تدل كلمة " لما " على أن من أسلم يرجى له الايمان ، و لعلها تشير أيضا الى التأخير ، مثل ثم في الايجاب ، مما يوحـــي بان المسافة بين الاسلام و الايمان ليست بسيطة ، وأن على الانسان المسلم أن يقطع هذه المسافة بجهده المتواصل . فاذا كان الاسلامبمثابة القبول في معهد علمي راق ، فان الايمان هو التخرج منه بنجاح . جاء في الحديث المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " الايمان إقرار باللسان و معرفة بالقلب و عمل بالأركان " (1) .

وفي حديث آخر مروي عـن الامــام الصادق عليه السلام : " الايمان يشارك الاسلام ، و الاسلام لا يشارك الايمان " (2) .

[ وإن تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ](1) بحار الانوار / ج 67 - ص 66

(2) المصدر / ج 72 - ص 23


وكيف ينقص الله الغفور الرحيم شيئا من أعمال عباده التي تحصن بالطاعة لله و للرسول ؟ و نستلهم من هذه الآية ان مقياس الايمان الحق هو الطاعة ، ذلك أن الطاعة امتحان صعب ، إنها خروج عن زنزانة الذات الى رحاب الحق ، و تجاوز لحواجز المادة ، و انطلاق في ميادين الخيرات .

[15] و جاءت الآيات التالية تبين شروط الايمان أوليس الايمان هو القوة التنفيذية لكل تعاليم الوحي ، وهو روح المجتمع الدافعة من دونها تصبح أنظمتها حروفا بلا معاني ؟!

[ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا ]متــى يرتاب المؤمن ؟ عندما يكلف بمهمة صعبة توسوس له نفسه في صدق إيمانه ، أما من محض الايمان فانه كالذهب الخالص كلما تعرض لنيران الصعاب كلما ازداد جلاءا و نورا .

[ و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ]

إن الجهاد بذل ما يسعه من الجهد في سبيل الله ، ولا يكون ذلك إلا عندما يخلص القلب من شوائب الكفر و الشرك و النفاق .

[ أولئك هم الصادقون ]

إنها حقيقة الايمان التي تتجلى في الطاعة و الجهاد ومن دون الوصول الى هذه الحقيقة لا يمكن تصديق إيمان الفرد ، أما إسلامه فهو صادق بمجرد قبوله دين الاسلام و التزامه به .

[16] و الذي يكابر و يدعي أنه مؤمن برغم كل ذلك فانه قد سفه نفسه ، كيفيزعم بانه يعلم الله دينه أوليس الله محيطا علما بكل شيء ؟؟

أولئك قوم من أعراب بني أسد - حسب المفسرين - قدموا على رسول الله في سنة جدبة ، و أظهروا الشهادتين ( رغبة في عطاء الرسول ليس إلا ) ، لم يكونوا مؤمنين في السر و أفسدوا طرقات المدينة بالمخدرات ، وأغلوا أسعارها ، و كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وآله - ( وهم يمنون عليه ) أتيناك بالاثقال و العيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فاعطنا من الصدقة و جعلــوا يمنــون فأنزل الله " قالت الأعراب " الآية . (1)[ قل أتعلمون الله بدينكم ]

بأنكم مؤمنون حقا .

[ و الله يعلم ما في السموات وما في الارض و الله بكل شيء عليم ][17] الايمان نعمة كبرى لا تساويها نعمة ، و حين يزكي الانسان نفسه و يروضها بالتقوى ، و يسعى لرؤية الحقائق ، حينئذ يتجلى الله لقلبه ، فيرى الله بنور الايمان و يرى بنور الله كل شيء .

[ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم ]

لأن الاسلام إذا كان لهدف مادي فهو إذا لمصلحتهم ولا يستدعي المنة ، وإن كان إخلاصا لله ، فان الله يمن عليهم به و بما يليه من الايمان .


(1) القرطبي / ج 16 - ص 348


[ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ]في ادعائكم الايمان و يبدو أن السياق يتناول قصة أعراب بني أسد الآنفة الذكر بالرغم من انها تعم كل أولئك الذين يدعون الايمان و يجعلونه وسيلة للتعالي على الناس ، و اكتساب الشهرة و الثروة و السلطة .

[18] ولكي يوجد القرآن وازعا نفسيا للانسان ألا يزكي نفسه و يدعي الايمان كاذبا ، أو يحاول ابتزاز الآخرين باسمه ، فان الله يحذرنا نفسه ، و يذكرنا بأنه محيط بكل شيء علما .

[ إن الله يعلم غيب السموات و الأرض و الله بصير بما تعملون ]فالأعمال يزنها بقدر الاخلاص فيها .. و بهذه الآية تختتم سورة الحجرات التي يحتاج المسلمون اليوم أكثر من أي يوم مضى الى أن يعوها وعيا ، و بالذات الطليعة الرسالية التي قد تتسرب إليه أيضا الحمية الجاهلية ولو بألوان جديدة كالتحزب و التفاخر ، نسأل الله ان يقينا شرور أنفسنا ، و يصون ديننا من كل شائبة شرك أو ظلم أو نفاق .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس