بينات من الآيات [1] [ ق و القرءان المجيد ]
( ق ) من الكلمات الرمزية وقال البعض إن معناها : المجد أي الشأن العظيم ، و كتاب الله بما يشتمل عليه من الآيات و المناهج ، كفيل بأن يعطي لمن يتبعه العزةو الكرامة ، و يرفعهم الى قمم التقدم و الكرامة ، لانه منطلق ذلك كله . و لكن الكفار و المشركين أغفلوا هذه الحقيقة و تركوا ذلك المجد بسبب نفسياتهم و ثقافتهم السلبية ، و ساروا في نفق التساؤلات و المواقف القشرية السخيفة التي أفقدتهم ذلك المجد .
و الأمة الاسلامية إنما قصرت عن بلوغ الحضارة ، و توقفت عن التقدم الذي بدأته في نهضتها الاولى ، بل و تراجعت أمام الأمم الأخرى بالرغم من امتلاكها لهذا الكتاب العظيم بسبب تعاملها الخاطئ معه ، فاذا به عند بعض المسلمين كتاب تفؤل و تبرك ، بينما انصرف البعض الآخر عن قيمه و مناهجه الحضارية الى حروفه وما تشابه منه ، وهكذا هجروا كتاب الله ، فلم يبلغوا شيئا من المجد ، ليس لأن القرآن استنفذ أغراضه فلم يعد كتاب المجد ، و إنما لأنه لا يعطي ذلك إلا لمن اتبعه بحق .
[2] إن الكفار رفضوا مجد القرآن ، و أصروا على مسيرتهم المنحرفة ، لأن القرآن شيء جديد ، ولأن القائد الذي أمروا باتباعه بشر مثلهم ومن وسطهم . وهذا يدل على أنهم لا يتبعون الحق و هدى العقل في حياتهم ، و إنما يتبعون الأهواء و المصالح . و حيث ان قيم القرآن و قيادة الرسول يتعارضان مع تلك الأهواء فهي عجيبة و مرفوضة عندهم .
[ بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ]أي لم تكن نظائر سابقة ليكون مألوفا عندهم ، فهو شيء عجيب ، و الحال إن بلوغ المجد لا يمر عبر الشهوات ، بل يتطلب مخالفتها و التنازل عنها .
[3] لقد أثار تعجب الكفار إنذار القرآن بيوم القيامة .. قالوا كيف يجمع الله أعضاء الانسان بعد الموت و تحولها الى ذرات في التراب ؟ و أغرب من ذلك كيف تصير إنسانا سويا ؟
[ أءذا متنا و كنا ترابا ذلك رجع بعيد ]
إنهم لا يؤمنون بإله قادر يدبر شؤون الخلق ، فعارضهم القرآن ، ولا يؤمنون بالمسؤولية في الحياة ، فجاءهم بخلاف هذه العقيدة ، فرفضوه لعدم الفتهم به ، وما ذلك سوى منهج الجاهلين الذين يعادون مالا يعلمون ولا يصدقون إلا بما يألفون من حقائق ، بينما العلماءو أولو العقل يبحثون عن الحقائق و يقولون : نحن لا نحيط علما بكل شيء ، إذا دعنا نبحث بايجابية . فربما كان هذا واقعا ونحن لم نعرفه ، أو لم تكن هذه إلا حقائق كنا نجهلها ثم عرفناها ولم نكن نألفها ثم ألفناها ، فلماذا ننكر رأسا كل ما يقال لنا أليس ذلك من الغباء ؟
و عموما التعجب من الجهل و قلة الوعي ، و متابعته من الجهالة و الحمق .
[4] ولكن القرآن يعالج هذا التعجب ، و يبين قدرة الله على جمع أجزاء الانسان و بعثه مرة اخرى بلى . قد يتحلل كيمياويا في التراب ، و تتبعثر عناصره الـ ( 130 ) هنا و هناك في صورة ذرات تنقلها الأيدي ، أو تذرها الرياح ، و لكنها تبقى معلومة عند الله عز و جل ، و محفوظة في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .
[ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ]
إذ تتحلل أوصالهم في ترابها .
[ و عندنا كتاب حفيظ ]
يسجل فيه كل شيء بدقة متناهية ، أوليس الله هو الذي خلق الانسان من بعد العدم ؟ فكيف يعجز عن جمع أوصاله و بعثه بعد الموت ؟ إنه يعلم كم أكل التراب من جسم هذا الانسان ؟ وما هي الذرة من التراب التي كانت سابقا جزءا من بدنه ؟ و كيف تحللت منه ؟ وحين مات كمكان يحتوي عليه جسمه من الحديد ، و الأملاح ، و الماء و سائر العناصر بنسبها و وزنها و مساحتها التــي تشغلهــا ، و كم في كل عضو منها و .. و .. الخ ؟!
إن الانسان ليتعجب لو نظر الى صندوق يحوي ملايين القطع التي يتكون منها محرك الطائرات العسكرية ، أو جهاز معقد آخر ، و ربما لا يصدق ان أحدا قادر على جمعها و تركيبها لتصير الى ذلك مرة أخرى ، أما الخبير الذي اخترعها و صنعها فليس كذلك ، إنه ينظر للأمر على انه ممكن ، بل هو أمر يسير ، فكيف بالله الذي خلق الأشياء ، و الذي كان أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ؟
[5] إن مشكلة الكفار انهم لا يتبعون الحق ، بل لا يريدون اتباعه ، لهذا تراهم لا يفقهون هذه الحقائق ، ولا يثبتون على رأي واحد في الحياة لاتباعهم أهواءهم ، إذ الحق واحد و ثابت في كل زمان و مكان بينما الهوى متغير .
[ بل كذبوا بالحق لما جآءهم فهم في أمر مريج ]
و الذي يؤكد هذه الفكرة موقفهم من الرسول (ص) ، فهم يسمونه ساحرا تارة و مجنونا أخرى ، و شاعرا ثالثة ، و أمينا و صادقا و .. و .. الخ ، ولو أنهم اتبعوا الوحي لكان يعطيهم بصيرة و جوابا لكل سؤال ، حتى سؤالهم هذا عن البعث ، و لكنهم تركوه للهوى و المصالحفصاروا الى الهرج و المرج ، و لعل هذا يفسر بروز النظريات المختلفة و المتناقضة في مختلف الحقول الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية .
[ 6-7 ] ولو أن الكفار الذين يشكون في البعث نظروا الى الخلق و تفكروا فيما عليه من النظم و التدبير لما تعجبوا من فكرة البعث ، لأن عقدة هؤلاء الأساسية هي شكهم في قدرة الله على ذلك . و شكهم هذا تعبير عن جهلهم ، فاذا تفكروا في خلق الله و ازدادوا معرفةبه و بآياته المتجلية في الكائنات ، لهداهم ذلك الى الايمان بقدرة الله . أترى السماء على سعتها و متانة خلقها وما فيها من الابداع ، و الارض التي ذللها الله ، و ألقى على ظهرها الجبال العظيمة تحفظ توازنها ، و أوجد فيها كل ما يحتاج اليه ليصلح عيشنا فيها . كل ذلك أفلا يهدينا إلى قدرة الله على إحيائنا بعد الموت ؟!
[ أفلم ينظروا الى السمآء فوقهم كيف بنيناها و زيناها ]بالكواكب التي تتناثر على بساطها البديع ليلا ، و اللون الأزرق الهادئ بالنهار .
[ و مالها من فروج ]
فهي محكمة في بنائها ، لا ثغرة ولا كسرة .
[ و الأرض ]
لننظر اليها هي الأخرى ، و نتفكر في خلقها .
[ مددناها و ألقينا فيها رواسي ]
ولم يقل جبالا ، لأن كلمة الجبال لا تعبر عن دور الجبال في حفظ توازن الأرض كالمرساة التي تثبت السفينة في عرض البحر وفي أطراف الموانئ .
ومع ذلك ما كانت الأرض تصلح لعيش الانسان عليها لو لم يتوفر فيها مايحتاجه البشر من ضروريات و كماليات . لهذا كان من الحكمة الإلهية أن يوجد الرب انواع الخلق على ظهرها .
[ و أنبتنا فيها من كل زوج بهيج ]
من الحيوانات ، و النباتات و الناس وكل شيء . و كلمة زوج تنطوي على معان كثيرة من أبرزها التكامل ، و الذي يدل - بدوره - على دقة النظم و حسن التدبير . أترى كيف جعل الله النبات و الأحياء و البشر أزواجا ، الذكر و الأنثى ، ثم الشعوب و القبائل ، ثم جعلالناس يتفاضلون ليحتاجوا إلى بعضهم ، ثم جعل كل شيء في الحياة بحاجة الى غيره لتتكامل دورة الحياة بما يدع أدق العقول حائرة في هذه الدورات التكاملية التي توازنت و تعادلت و شهدت على حكمة بارئها سبحانه .
ثم جعل الزوج بهيجا يجتذب بجماله الطرف الآخر حتى يسهل التفاعل و يكون أكرم من مجرد حاجة متبادلة .
[8] وهذه كلها آيات بينات على حكمة الله التي تقتضي البعث للجزاء وعلى قدرته التي تجعل الأمر ممكنا بل محتملا . وهي لا تغيب عن بصر أحد من الناس فالكل يراها بعينيه ، و لكنها تغيب عن بصائر الكفار و مرضى القلوب . تغيبها عنهم حجب الذنوب و الجهل و الغفلة ،و تعيها أذن واعية و قلوب طاهرة من المؤمنين .
[ تبصرة ]
تزيدهم علما و فهما و وعيا و رؤية .
[ و ذكرى لكل عبد منيب ]
تزيدهــم إيمانا و موعظة و عبرة و تقوى ، و نهتدي بهذه الآيات الى فكرة أساسية ،وهي ان الايمان بالله مركز العلم الحق ، و منطلق الايمان بسائر الحقائق ، فالمؤمن يهتدي من خلال نظره الى الأشياء ، الى المعارف و العلوم المختلفة ، فاذا به ذو بصيرة نافذة في الحياة ، كما يزداد يقينا بالحق ، لأنه ينظر الى الحياة بنور الايمان بالله عز وجل ،وهو رأس المعرفة و عماد الايمان ، بينما ينظر الكافر الى ذات الأشياء ، فلا يزداد إلا جهلا و كفرا ، و تبقى الآيات الواضحة ألغازا في قلبه لأنه لا نور له في الحياة " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " (1) . لهذا جاء في الحديث المأثور عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " أول الدين معرفته ، و كمال معرفته التصديق به " . (2)إن المنهج السليم هو الذي يجعل الايمان بالله و معرفته منطلقا لسائر المعارف ، و ليس الذي يجعل المعارف و الحقائق الأخرى دليلا إلى الله ، لان الله أجلى و أظهر من كل شيء . قال الامام الحسين (ع) : " إلهي ما أقربك مني و أبعدني منك ، وما أرأفك بي ، فما الذي يحجبني عنك ؟! إلهي علمت باختلاف الآثار ، و تنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء ، حتى لا أجهلك في شيء .. - الى أن يقول - إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار ، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك ، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟! " ثم إن الامام يخاطب ربه بطريقة توحي الاعتذار منه تعالى جعله المخلوقات دليلا على الله ، مبيناانه لم يكن يعمد إلى ذلك لولا أمره عز وجل بالنظر إليها ، وهو مع ذلك يطلب منه أن يرفعه الى الدرجة الأصح و الأفضل من المعرفة ، فيقول : " إلهي أمرت بالرجوع الى الآثار فارجعني اليك بكسوة الأنوار ، و هداية الاستبصار ، حتى أرجع(1) النور / 40
(2) نهج / خطبة (1)
إليك منها مصون السر عن النظر اليها ، مرفوع الهمة عن الاعتماد عليها " (1) ولا يرتقي الى هذه المعرفة إلا من عبد الله حق عبادته و تاب اليه كلما أخطأ .
[ 9-11 ] ثم لينظر الانسان الى قطر السماء حينما ينزله الله فيحيي به الأرض ، إن ذلك مثل قريب على البعث يوم القيامة .
[ و نزلنا من السمآء مآء مباركا ]
ينطوي على الخير و الفضل ، و البركة في اللغة تعني النماء و التكامل ، وهو بالفعل فور ما ينزل الغيث يفجر خيرات الأرض ، فاذا بها بعد أن كانت صحراء قاحلة تنفرش بحلة خضراء .
[ فأنبتنا به جنات و حب الحصيد ]
و الجنات هي الأشجار الكبيرة التي تدوم كالرمان و العنب ، بينما حب الحصيد إشارة الى الزروع التي يحصدها الانسان كل عام ليزرع غيرها في الأعوام اللاحقة كالحنطة و الشعير و الذرة .
[ و النخل باسقات ]
أي طويلة مرتفعة بسوقها .
[ لها طلع نضيد ]
و الطلع هو عروق النخل أول طلوعها بين الليف و السعف . أما النضيد فهو المنظم وهو حال الطلع مما يجعله أفضل في نمائه .
(1) مفاتيح الجنان / دعاء عرفة / ص 272 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .
و نستفيد من الآيتين ان مجرد نزول المطر لا يكفي لخروج الجنان و الحب و النخيل من الأرض ، بل لابد من عناية إلهية في الأمر . فلو كانت الأرض التي يهطل عليها الماء غير صالحة ، أو كانت صالحة ولكن أهلها مشغولون عن زراعتها ، فهل كان ذلك يحولها الى جنات و زروع ؟ كلا .. فهي محتاجة الى إنبات الله عز وجل لها برحمته ، ليجد العباد رزقهم فيها ، و لتكون صالحة للسكن فيعمروها .
[ رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا ]
إنك ترى الأرض هامدة لا حراك فيها وقد هجرها الناس ، فاذا بها بعد نزول الماء تحكي الحياة في كل جوانبها ، وبكل أشكالها ، فبعد أن يؤمن الناس رزقهم ينشطون لبناء مدينتهم و توفير سائر مظاهر الحضارة فيها .
ولعل هذا شاهد على أن الزراعة أصل كل حضارة ، و هذه إحدى النظريات الحضارية حيث قالوا : إنها ناشئة من تراكم المحصولات الزراعية التي تتراكم الثروة بعد بيعها و تبدأ بها دورة الحضارة .. ولا ريب أن حضارات عديدة في التاريخ نشأت بهذه الطريقة .
أترى إن الذي أحيا البلاد بعد موتها يعجز عن أحيائنا بعد الموت ؟!
[ كذلك الخروج ]
وفي الروايات إشارات الى ان الانسان يتلاشى في التراب ، و يبقى منه مقدار ذرة واحدة ( خلية ) حية تتعلق بها الروح في عالم البرزخ ، فاذا أراد الله بعثه امطر السماء أربعين صباحا ، و جعل الأرض كرحم الأم ، فتنمو فيه تلك الذرة ، ولكن بصورة سريعة ، فاذا بالأرض تنشق عن بشر سوي . و ليس من عجب أن يحدث ذلك ، فهذا هو الانسان يبدأ حياته من نطفة صغيرة جدا تنطلق من صلب الأب إلىرحم الأم ، و هكـذا تبدأ حياة كل شيء على وجه الأرض . فلتنظر الى كل حبة تحسبها ميتة ، ولكن حين تدفنها في التراب تنشق عن زرع أو شجرة عظيمة . و إلى هذا التشابه تشير الآية الكريمة : " و الله أنبتكم من الأرض نباتا " (1) ، و نحن مع ذلك نؤمن بقدرة الله على الخلق و البعث بعد الموت بطرق لا تحصى عددا .
وفي الخبر قال الصادق (ع) : " إذا أراد الله عز و جل أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم " . (2)وقال عليه السلام لما سئل عن الميت يبلى جسده ؟: " نعم حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها ، فانها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أول مرة " (3) .
[12 - 14] إن الآيات التي مضت كلها علاج لاستبعاد فكرة البعث من قبل الكفار ، حيث قالوا : " أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد " . والآن يبين القرآن بأن هذا الضلال لم يكن جديدا في تاريخ البشرية ، لأن الماضي ينطوي على أمثال كثيرة من تكذيب الأقوام السالفة .
[ كذبت قبلهم قوم نوح و أصحاب الرس ]
وهم أصحاب البئر التي رسوا نبيهم فيها بعد أن قتلوه ( عن عكرمة ) ، وقيل الرس بئر قتل فيها صاحب ياسين ( عن الضحاك ) ، و قيل هم قوم كانوا باليمامة على آبار لهم ( عن قتادة ) ، وقيل هم أصحاب الأخدود ، و قيل كان سحق النساء في اصحاب الرس ( عن أبي عبد الله (ع) ) و الذي يبدو لي انهم كانوا في اليمامة
(1) نوح / 17
(2) بح / ج 7 - ص 33
(3) المصدر / ص 43
و الرس اسم البئر التي دفنوا فيها نبيهم بعد أن قتلوه .
[ و ثمود ]
وهم قوم صالح (ع) .
[ و عاد ]
أي قوم هود (ع) .
[ و فرعون و إخوان لوط ]
و سمي أخاهم لأنه انتسب اليهم بالزواج و الله العالم .
[ و أصحاب الأيكة ]
يعني قوم شعيب الذين اشتهرت حضارتهم بالزراعة و البساتين ، و الأيكة في العربية الأشجار المزدحمة التي تلتقي أغصانها ، و فيها تبني الحمام أعشاشها غالبا .
[ و قوم تبع ]
وهو رجل صالح ملك اليمن ، إلا ان قومه كانوا فاسدين .
[ كل كذب الرسل فحق وعيد ]
لقد بادت حضاراتهم نتيجة تكذيبهم الحق ، أولا يهدينا ذلك الى تحقق الجزاء في الآخرة كما تحقق في الدنيا ، و حق الشيء أي ثبت ومنه الاستحقاق . و هؤلاء ثبت عذابهم ، وتحول من القدر الى القضاء ، ومن الوعيد الى الفعل .
[15] و يستنكر الله على هؤلاء تكذيبهم بالبعث ، و شكهم في قدرته تعالىفيقول :
[ أفعيينا بالخلق الأول ]
أي هل أعجزنا الخلق الأول من العدم عن أن نبعث الانسان مرة أخرى ؟ كلا . وفي الآية بيان الى حقيقة تحل شبهة هؤلاء حول البعث ، وهي ان القادر على الخلق من العدم أولى بالقدرة على جمع أشلاء البشر و نفخ الروح فيه مرة ثانية . وهذا دليل عقلي بصير على الرجعةللحساب ، وإن كان كلا الامرين سواء عند الله الذي لا يمسه نصب ولا لغوب . و القرآن يعبر عن هذه الفكرة في موضع آخر بصيغة ثانية ، يقول تعالى : " أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فاذا هو خصيم مبين * و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قال يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فاذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السموات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * " (1) .
وفي تفسير هذه الآية سأل جابر بن يزيد أبا جعفر (ع) عنها قال : " يا جابر تأويل ذلك ان الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، و سكن أهل الجنة الجنة و أهــل النار النار ، جدد الله عالما غير هذا العالم ، و جدد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه و يوحدونه ، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، و سماء غير هذه السمــاء تظلهم ، لعلك ترى ان الله إنما خلق هذا العالم الواحد ؟ أو ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلـى ، و الله لقد خلق ألف ألف عالم ، و ألف ألف آدم ، أنت آخر تلك العوالم و أولئك الآدميين " . (2)
(1) يس / 77 - 81
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 108
إن هذه الحقائق لا تخفى على عقل الانسان ، ولكن الجهل البشري و ضلال الأفكار و هوى النفس كل ذلك يحجبه عنها ، فاذا به يشك في قدرة الله على الخلق ثانية بعد الموت .
[ بل هم في لبس من خلق جديد ]
أي إن الأمر ملتبس عليهم فهم في حيرة و ريبة ، و سبب ذلك هو جهلهم بكيفية حدوث البعث ، بيد أن ذلك لا يعني إستحالته ، أترى لو كان يقال لشخص قبل ألف عام عن حديد يطير في الهواء ( تعني بذلك الطائرات و الصواريخ ) هل كان يصدق ؟ طبعا لا ، ولكن لو قيل له تفصيل ذلك لعله كان يذعن أليس كذلك ؟ وهذه من طبيعة الانسان أنه ينكر الأشياء التي يقصر عن الاحاطة بتفصيلاتها . أما العقل المحض و البعيد عن المؤثرات ، فهو لا ينكر الأشياء لمجرد انتفاء إحاطته بالتفاصيل ، بل ينكرها ما دامت لا تصدق لانتفاء الأدلة عليها . و الحال إن الأدلة قائمة على الرجوع للحساب .
[16] ومن ذلك ترى الكفار مرتكزين في أوحال الشك و الريب من هذا الحق ، فهم بين التصديق و التكذيب تتردد نفوسهم في الوسواس المنبعث من طبيعة البشر ، كما من وساوس الشيطان الذي يسعى لاضلاله .
[ ولقد خلقنا الانسان ]
فلم نتركه سدى ، لانه مسؤول و محاسب في الدنيا و الآخرة ، بل بقي تحت الرقابة الإلهية التي لا تقتصر على ظاهره من الكلام و الفعل ، و إنما تنفذ الى أخفى و أبعد شيء عنده وهو حديثه مع نفسه .
[ و نعلم ما توسوس به نفسه ]
فخطرات القلب و هواجس النفس و أفكارها كلها مسجلة عند الله عز وجل ، فربما قام يوما للصلاة فتردد هل يؤديها الآن أم بعد قليل فهذا مسجل لك أو عليك ، يسجله الله الذي هو أقرب للانسان حتى من نفسه .
[ و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ]
وهي الأوداج التي تربط الرأس بالجسد . إن الانسان قد يندفع الى تصرف أو فكرة ما بعوامل لا يدركها ، وقد يقوم بشيء ثم ينساه ، ولكنه تعالى يحفظ كل صغيرة و كبيرة وكل ظاهر و باطن " في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " (1) ، و المتقون يعون هذه الحقيقة بعمق " إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربي أعلم بي مني بنفسي " . (2)و نجد في العلم الحديث الآن بحوثا عن آفاق العقل الباطن ، و موضوعه دراسة القرارات و التصرفات التي تصدر من الانسان لمعرفة أسبابها الخفية .
[17] [ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد ]و لهذه الآية تفسيران :
الأول : إن المقصود " بالمتلقيان " ملك الحسنات و ملك السيئات ، وفي الخبر عن الرسول (ص) انه قال : " كاتب الحسنات على يمين الرجل ، و كاتب السيئات على شماله ، و صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فاذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قـــال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " (3) وفي خبر آخر " إن صاحب الشمال ليرفع(1) طه / 52
(2) نهج / خ 193
(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 111
القلم ست ساعات عن العبد المخطئ أو المسيء ، فان ندم و استغفر منها ألقاها ، و إلا كتــب واحـدة " (1) وفي كتاب سعد السعود : " إنهما يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر ، فإذا هبطا صعد الملكان الموكلان بالليل ، فاذا غربت الشمس نزل اليه الموكلان بكتابة الليل ، و يصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عز وجل ، فلا يزال ذلك دأبهم الى وقت حضور أجله ، فاذا حضر أجله قالا للرجل الصالح : جزاك الله من صاحب عنا خيرا ، فكم من عمل صالح أريتناه ، وكم من قول حسن أسمعتناه ، ومن مجلس خير أحضرتناه ، فنحن اليوم على ما تحبه شفعاء الى ربك . و إن كان عاصيا قالا له جزاك الله من صاحب عنا شرا ، فلقد كنت تؤذينا ، فكم من عمل سيء أريتناه ، وكم من قول سيء أسمعتناه ، ومن مجلس سوء أحضرتناه ، ونحن لك اليوم على ما تكره ، و شهيدان عند ربك " . (2)الثاني : وقد يكون المعني بذلك النفس الأمارة بالسوء و الأخرى اللوامة التي يضل الأولى منهما الشيطان ، و يرشد الأخرى ملائكة الله ، و لعل وسوسة النفس و حديثها من ذلك .
قال الصادق ( عليه السلام ) : " ما من قلب إلا وله أذنان ، على احداهما ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتن ، هذا يأمره و هذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصي و الملك يزجره عنها وهو قول الله عز وجل " عن اليمين و عن الشمال قعيد " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " (3) .
و قال (ع) : " ما من مؤمن إلا و لقلبه أذنان في جوفه ، أذن ينفث فيها الوسواس الخناس ، و أذن ينفث فيها الملك ، فيؤيد الله المؤمن بالملك ، فذلك قوله(1) المصدر
(2) المصدر / ص 109
(3) اصول الكافي / ج 2 - ص 266 طبعة الأخوندي .
" و أيدهم بروح منه " . (1)
و قال أمير المؤمنين (ع) : " إن الله تبارك و تعالى أيد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه و يتقي ، و تغيب عنه في كل وقت يذنب فيه و يعتدي ، فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه ، و تسبح في الثرى عند إساءته ، فتعاهدوا عباد الله نعمه باصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا و تربحوا نفيسا و ثمينا ، رحم الله امرء هم بخير فعمله ، أو هم بشر فارتدع عنه ، ثم قال : نحن نؤيد الروح بالطاعة لله و العمل له " . (2)[18] و الانسان يبقى يتأرجح بين الاستجابة لنداء الحق ( الفطرة و العقل و الوحي و إمام الحق ) ، و بين الانصراف عن كل ذلك إلى نداء الباطل ( النفس الأمارة و الشيطان ، و إمام الضلال ) ، وهو في ذلك غير محاسب على أفكاره ، و لكنه إذا حسم الصراع بين هذه القوى ، و التردد في نفسه بالارادة سجل عليه موقفه .
[ ما يلفظ من قول ]
خيرا كان أو شرا .
[ إلا لديه رقيب عتيد ]
يكتــب كـل ما يصدر منه ، و يضمه الى كتابه الذي يتقرر مصيره على ضوء ما فيه ، فاما تغلب الحسنات السيئات فيتسلمه بيمينه و تسوقه ملائكة الرحمة في زمرة المتقين الى الجنة ، و ربما أخذ إلى النار قليلا ليطهر ، وأما تغلب الأخرى فيأخذه بشماله ، و تسوقه ملائكة العذاب الى جهنم ليلبث فيها أحقابا أو يخلد في العذاب(1) المصدر / ص 267
(2) المصدر / ص 268
مهانا . حتى إن البشر ليذهلون من دقة الكتاب : " و عرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " (1) .
[19] بلى . إن الانسان يخشى من الموت ، و يحاول جهده الفرار من ساحته ، و لكن متى كان مصيره في يده ، أو كان قادرا على رد قضاء الله ؟ كلا . إن سكرة الموت تأتيه فتذهله عما يحيط به ، كما تذهل سكرة الخمرة شاربها و يومئذ يعرف ان محاولاته في الهروب من الموت و التي استغرقت أكثر مساعيه باءت جميعا بالفشل .
[ و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ]
[20] و حينما يموت الانسان تبقى بينه و بين الجزاء الحقيقي مسافة البرزخ ، فاذا كان يوم القيامة ، أمر الله ملكا عظيما من ملائكته يقال له إسرافيل بالنفخ في الصور فيحدث عندها صوت عظيم مهيب يقوم الناس بسببه من الأجداث باذن الله عز وجل : " و نفخ فيالصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون " (2) و تلك النفخة إيذانا منه تعالى ببدء أعظم و أرهب محكمة في عالم الانسان حيث تقف الانسانية و بكل أجيالها التي تعاقبت على هذه الأرض ، تزدحم بهم آفاقها ، أحسنهم حالا يومئذ من وجد لقدميه موضعا و لنفسه متسعا، يسبحون في بحر من العرق الذي تنفصد به أبدانهم . و هناك تتقطع بينهم الأسباب و الوشائج فيتبرأ الواحد من أقرب الخلق اليه ، من ولده و زوجته و أمه و أبيه و أخيه .
(1) الكهف / 48 - 49
(2) يس / 51
[ و نفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ]
فمهما لقي الكفار و الظالمون من جزاء كما هو حال الأقوام السالفة التي ذكرتهم الآيات ( 12-14 ) إلا أن الجزاء الحقيقي الذي يتوعدهم به الله يلقونه في الآخرة ، التي تبدأ بنفخة إسرافيل (ع) في الصور .
إسرافيل :
وفي دعاء الامام زين العابدين (ع) في الصلاة عن حملة العرش قال : " و إسرافيل صاحب الصور الشاخص ، الذي ينتظر منك الاذن ، و حلول الأمر ، فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور " . (1)وقال رسـول اللــه (ص) : " خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة ، ثم قال للعــرش خذ الصور ، فتعلق به ، ثم قال ، كن ، فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور ، فأخذه و به ثقب بعدد كل روح مخلوقة ، و نفس منفوسة ، لا تخرج روحان من ثقب واحد ، وفي وسط الصور كوة كاستدارة السماء و الأرض ، و إسرافيل واضع فمه على ذلك الكوة ، ثم قال له الرب تعالى : قد وكلتك بالصور ، فأنت للنفخة و للصيحة ، فدخل إسرافيل في مقدم العرش ، فأدخل رجله اليمنى تحت العرش ، و قدم اليسرى ، ولم يطرف منذ خلقه الله ينظر متى يؤمر به " (2) .
[21] فاذا جاء أمر الله لاسرافيل و نفخ في الصور ، انبعث الناس من قبورهم و بدأ يوم القيامة ، وهناك توضع الموازين الحق ، و تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع(1) بح / ج 59 - ص 217
(2) المصدر / ص 261
إلا همسا من هول الموقف ، و تأتي كل نفس بمفردها منقطعة عن كل شيء سوى ما اكتسبت و سعت ، كما يصف القرآن " و كلهم ءاتيه يوم القيامة فردا " (1) .. نعم . هناك اثنان يشايعانه تنتهي مهمة الأول عند إصدار الحكم المصيري بحقه وهو الشهيد الذي يدلي بافاداته أمام المحكمة الإلهية بالحق ان لصالح الشخص أو عليه ، سواء كان ذلك الشهيد الملك الذي كتب أعماله ، أو طرف آخر من البشر و سائر الخلق ، أو كان عضوا منه أو جارحة ، بينما تنتهي مهمة الآخر على باب الجنة إذا كان الشخص من الصالحين أو على باب جهنم إن كان منأصحاب السعير ، وهو السائق ، وهذا الأخير ينتظر حكم الله في من يسوقــه ، فاما يزفه باللطف و الترحاب إلى الجنة ، و أما أن يسوقه بمقامع الحديد إلى النار .
[ و جاءت كل نفس معها سائق ]
من الملائكة .
[ و شهيد ]
لقد بينت النصوص الدينية أسماءهم من هم الشهداء الذين يرافقون كل نفس يوم الحساب ؟ ونحن نذكر طائفة منهم :
1- القيادة الرسالية شاهد على الانسان . قال تعالى : " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا " (2) . و قال : " إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون رسولا " (3) و قال يحكي عن شهادة عيسى (ع) : " بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل(1) مريم / 95
(2) الاحزاب / 45
(3) المزمل / 15
موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (1) ، و قال : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا " . (2)2- جوارح الانسان و أعضاؤه تشهد ، قال تعالى : " و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون * و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة و إليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصــاركم ولا جلودكـم و لكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " (3) وقال في موضع آخــر : " اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " (4).
3- و الكتاب هو الآخر شاهد علينا بما يحتويه من قيم و مفاهيم إلهية ، قد تتفق معها مواقفنا و سلوكياتنا و أفكارنا و قد تخالفها . قال تعالى : " أفمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه ( يعني القرآن ) ومن قبله كتاب موسى إماما و رحمة أولئك يؤمنونبه " . (5)
4- و الملائكة يشهدون . قال تعالى : " رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و كان الله عزيزا حكيما * لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا " (6) كما أنهم يسجلون سعي الانسان في كتابه . قال تعالى : " إنا نحن نحيي الموتى و نكتب ما قدموا(1) النساء / 158 - 159
(2) النساء / 41
(3) فصلت / 20 - 22
(4) يس / 65
(5) هود / 17
(6) النساء / 165 - 166
و آثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " (1) .
5- و تشهد على الانسان كل لحظة من عمره ، إذ ينطبع فيها أثر كل سعي و تفكير يقوم به ، و ربما مر عليه الزمان دون أن ينتفع منه ، فهو يشهد عليه يوم القيامة بذلك ايضا . قال الامام علي (ع) : " ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم : أنا يومجديد و أنا عليك شهيد ، فافعــل في خيرا و اعمل في خيرا ، أشهد لك به يوم القيامة ، فانك لن تراني بعد هذا أبدا " (2) .
6- و كذلك يشهد أولياء الله على غيرهم ، لأنهم باعمالهم الصالحة ميزان لأعمال الناس ، و حجــة يرفعها الله على الآخرين ، فالمجاهدون حجة على المتقاعسين و القاعدين ، و المهاجرون حجة على الذين رضوا الذل و العيش في ظل الظلمة ، و المتواضعون حجة على المتكبرين و هكذا ، يقول الله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين " (3) وقال في سورة الحج : " و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس " . (4)7- و تبقى الشهادة العظمى لربنا الجبار الذي لا تخفى عليه خافية : " يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله و نسوه و الله على كل شيء شهيد * ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو(1) يس / 12
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 112 نقلا عن من لا يحضره الفقيه .
(3) آل عمران / 140
(4) الحج / 78
رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم " (1) ، " قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيدا بيني و بينكم " (2) و قال عز من قائل : " إن الله يفصلبينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد " (3) و قال مؤكدا هذه الشهادة يخاطب رسوله (ص) : " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " . (4)
[22] و هؤلاء الشهود و ذلك السائق كلهم حاضرون اليوم كحضور أي حقيقة أخرى في الواقع ، إلا أن حجب الجهـل و الغفلة و الشهوات ، ومن ثم غياب بصيرة الايمان ، تمنع الانسان من الرؤية ، فاذا ما تكشفت له الحقائق و بلغ عين اليقين في معرفتها ، هنالك يأتيه الخطاب من الله :
[ لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد ]إن الحقائق التي طالما أنكرها المشركون تبدو لهم يومئذ أوضح من الشمس في رابعة النهار . ولقد صدق الامام علي عليه السلام إذ قال : " الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا " أما المؤمنون الصادقون فقد تعرفوا على هذه الحقائق بفضل اتباع وحي الله و أوليائه ، و إنهم كما يصفهم الامام زين العابدين ( عليه السلام ) إذ يناجي ربه قائلا : " إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق اليك في حدائق(1) المجادلة / 6 - 7
(2) الانعام / 19
(3) الحج / 17
(4) يونس / 61
صدورهم .. فهم إلى أوكار الأفكار يأوون وفي رياض القرب و المكاشفة يرتعون .. قد كشف الغطاء عن أبصارهم ، و انجلت ظلمة الريب عن عقائدهم ، و انتفت مخالجة الشك عن قلوبهم و سرائرهم ، و انشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم ... و اطمأنت بالرجوع الى رب الأرباب أنفسهم ،و تيقنت بالفوز و الفلاح أرواحهم " (1) وهذا اليقين ممكن لكل إنسان لو استشار عقله و اتبع هدى الرب ، إلا أن الغفلة - ومن ثم الاسترسال في الجهل و الشهوات - كل ذلك يحجبه عن الايمان و المعرفة .
[23] و يوم القيامة يرفع الله كل الحجب فاذا بالحقائق واضحة كعين الشمس لا يعتريها شك ولا ريب ، ولكن هل تنفعه المعرفة شيئا ؟ ... كلا . فالكلمة حينها للشاهد الذي رافقه لحظة بلحظة ، و مصيره مرهون بما أعده و سجله عليه وله ، حيث يعرضه على الله .
[ و قال قرينه هذا ما لدي عتيد ]
أي معد بدقة و حق فهو يعتد به في الحساب .
[24 - 25] وعندما توضع أعمال الانسان في الميزان يصدر الله حكمه الحاسم في حقه ، فان ثقلت موازينه أدخل الجنة صالح البال راضي النفس ، وإن خفت أمر الله السائق و الشهيد أن يأخذانه إلى النار .
[ ألقيا في جهنم كل كفار ]
أنكر فضل الله ، ولم يؤد شكر نعمائه بعبادته و التسليم له .
(1) الصحيفة السجادية / طبعة دار الأضواء - ص 420
[ عنيد ]
خالف آياته و أوامره و عاكسها في حياته .
وهكذا يدخل النار كل مانع للخير ، و الخير كلمة واسعة تضم اليها الكثير من المفردات ، فقد يكون الخير المال الذي ينعم به الله على الانسان فلا يخرج منه الحقوق الواجبة ، ولا ينفق منه على المحتاجين ، وقد يكون الخير هو العلم الذي زكاته نشره بين الناس ولكنصاحبه لا يتحمل رسالته في الحياة ، و هكذا يمتد ظل هذه إلى كثير من المفردات الأخرى . ولكن أهم معاني الخير القيادة الصالحة ، و أي خير أعظم من قيادة يهتدي بها الانسان السبيل الحق في مرافق الحياة المختلفة ؟ وكم يكون الانسان آثما حينما يحارب أولياء الله ويصد الناس عنهم ؟
وفي الخبر عن علي بن إبراهيم قال : " و الخير ولاية علي (ع) و حقوق آل محمد (ص) " (1) و لا شك ان محاربة العلماء و الفقهاء و القادة الرساليين جزء لا يتجزأ من محاربة الرسول و الأئمة عليهم السلام ، بل هي محاربة الله ، أولم يقل عز وجل : "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " ؟؟ وهكذا يحاربه الذي ينال من سمعة أوليائه فيصنع حاجبا بين الناس و بينهم .
[ مناع للخير معتد مريب ]
و المعتدي هو الذي يتجاوز الحدود و الحقوق ، أما المريب فهو الذي لا قناعة عنده بالقيم و ربما ادعى الايمان لأغراض خبيثة .
[26] وكل هذه الصفات التي تستوجب جهنم ( الكفران و العناد ، و منع الخير و الاعتداء و الارتياب ) كلها مظاهر للشرك الخفي أو الظاهر .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 114
[ الذي جعل مع الله إلها ءاخر ]
المشرك ليس الذي يعتقد بإله مع الله ، بل الذي يخضع لقيادة لم يأمر بها الله فالذي يرضى عمليا بالحاكم الظالم ، أو يطيع أمره في معصية الله مشرك ، وإن لم يعتقد بأنه رب و إله ، كما ان من يطيع هواه فهو عابد له ، وهو بذلك يستحق العذاب ، و ربنا يأمر الملكين بالقائه في جهنم .
[ فألقياه في العذاب الشديد ]
و الإلقاء لا يكون إلا من الأعلى الى الأسفل ، و إنما يفعل بأهل النار كذلك ، لان الله خلق الانسان في مرتبة عالية فضله بها على الكثير من خلقه ، فاذا أشرك به و انحرف عن الصراط بدأ سيرته التسافلية و الالقاء في جهنم من الأعلى إلى الأسفل هو تجل لهذه الحقيقة التي تبينها سورة التين في قوله تعالى : " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين " (1) أما حينما يستمر على خط الفطرة و يتمسك بحبل الله المتمثل في رسالته و أوليائه ، و يستزيد من عمل الصالحات فانه ينطلق في مسيرة تصاعدية نحوالأعلى ، يتقرب الى الله درجة بعد أخرى " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون " (2) .
[27] و حيث يلقى المشرك في جهنم يظل يهوي إلى الأسفل مدة من الزمن حسب انحرافه و سيئاته الى أن يحل في مكانه المعد له بين يدي عذاب إلهي شديد ، و هناك كما عند الحساب يلقى قرناءه عملا فيدور بينهم خصام شديد يلقي كل طرف فيه اللوم على الطرف الآخر محاولا بذلك التهرب من المسؤولية ، فاذا بالذي
(1) التين / 4 - 5
(2) المطففين / 18 - 21
جعل مع الله آلهة أخرى - وقد أمر به الى النار - يريد التخلص من عذابها بالقاء مسؤولية انحرافه و ضلاله على قرينه .
[ قال قرينه ربنا ما أطغيته ]
إنه كاذب في ادعائه بانني السبب في طغيانه ، ثم يستدل قائلا :
[ و لكن كان في ضلال بعيد ]
ربمـــا يكون للآخرين دور في انحراف مسيرة الانسان و لكنه لا يعدو كونه مساعدا ، أما الدور الأكبر و السبب الحقيقي مرهون باختياره و إرادته للباطل دون الحق ، فلأنه أساسا اختار الضلال تجد مساعي الآخرين و الظروف المتجانسة مع اختياره موقعا مؤثرا في حياته.
[28] ثم إن التخاصم عند الله لا ينفعهم شيئا و ذلك لما يلي :
أولا : إن المصير الذي صاروا اليه لم يكن مفاجئا ولا غامضا بالنسبة لهم . و كيف يكون كذلك وقد أقام الله الحجة البالغة عليهم ، و أنذرهم من هذه العاقبة ، عبر كتبه و رسله ؟
[ قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ]
و أنذرتكم من أن الشرك و الضلال يستوجب العذاب الشديد ، و ضربت لكم المثل تلو المثل من حياة الأقوام السابقة ( الآيات 12 إلى 14 ) و لكنكم كذبتم النذر ، و استهزأتم بالوعيد ، و القرآن يفصل هذه الحقيقة في موضع آخر ، يقول تعالى : " تكاد تميز من الغيظكلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير *و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير " . (1)[29] ثانيا : إن لله سننا و قيما في هذه الحياة ، جعلها حاكمة و جعلها الميزان في كل قضية ، و على أساسها يكون حساب الناس و مصيرهم ، وهي ثابتة لا تتغير . و منها ان جزاء الكافر و المشرك النار ، و جزاء المؤمن الجنة ، و لا يمكن أن يكون العكس و إلا فما هيحكمة الحياة الدنيا ، وما هو دور النذر إذا لم يجعل الله للثواب و العقاب نظاما محددا ؟!
[ ما يبدل القول لدي ]
ومن القول الثابت الذي تعنيه هذه الآية ما جاء في سورة ( ص ) عندما أقسم الشيطان أن يغوي العباد فرد الله عليه : " قال فالحق و الحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " (2) .
ثالثا : إن العدالة الإلهية تأبى ذلك ، إذ كيف يستوي المحسن و المسيء ؟! أم كيف يصير الظالم إلى جانب المظلوم في الجنة دون أن يقتص من الأول ، و ربما فات الأخير الثأر في الدنيا ؟! أترى من العدالة أن يدخل الجنة المانع للخير و الممنوع عنه ؟! أو المعتدي والمعتدى عليه ؟! أترى يدخل ابن ملجم الجنة مع الامام علي وقد فجع المسلمين بقتله ؟! أم يدخل يزيد الجنة مع الحسين وقد ذبحه كما تذبح الشاة وهو ابن خاتم الأنبياء ، و سيد الأوصياء ، و سيدة نساء العالمين ؟! .. كلا . و حاشا لله عز وجل وهو العادل أن يفعل ذلك، وهذا كتابه ينطق عنه قائلا :
[ وما أنا بظلام للعبيد ]
(1) الملك / 8 - 11
(2) ص / 84 - 85
و إلى هذا المعنى يشير دعاء الامام علي (ع) حيث يناجي ربه قائلا : " فباليقين أقطع صادقا لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، و قضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلها بردا و سلاما ، وما كان لأحد فيها مقرا ولا مقاما ، لكنك تقدست أسماؤك أقسمت أنتملأها من الكافرين من الجنة و الناس أجمعين ، وأن تخلد فيها المعاندين ، وأنت جل ثنـــاؤك قلـت مبتدئــا و تطولت بالانعام متكرما ، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستــوون " (1) .
[30] رابعا : و أخيرا يثير القرآن في أذهاننا و بصورة غير مباشرة تساؤلا هاما وهو لماذا خلق الله النار ؟ هل خلقها عبثا و كيف يصدر منه ذلك وهو الحكيم الخبير . وقد قال في كتابه : " وما خلقنا السماء و الأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوالاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " (2) ؟!
إذن ماهو هدف خلق النار ؟؟ و الجواب واضح نجده في كثير من آيات القرآن إلا وهو مجازاة العاصين لله ، كما إن الجنة خلقت لاكرام المطيعين .
[ يوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد ]
و هذه الآية و آيات أخرى في القرآن تفند ما ذهب اليه البعض من انه لا يوجد عذاب عند الله و عللوا ذلك بأنه عز وجل رؤوف خلق عباده ليرحمهم لا ليعذبهم ، ومن هذا المنطلق راحوا يؤولون الآيات التي جاءت بصدد التحذير و الوعيد بأنها لمجرد التخويف حتى يطيع الناس ربهم ، و إلا فهي لا واقع لها .
(1) مفاتيح الجنان / دعاء كميل - طبعة دار إحياء التراث العربي المخطوطة / ص 66(2) الانبياء / 16 - 18
|