فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الإطار العام
الغاية السامية التي تسعى آيات هذه السورة نحوها بحق هي التذكرة بأسماء الله الحسنى لتزداد النفوس العامرة بالإيمان عرفانا بربها الكريم ، و لتتم الحجة على الكافرين .

و لقد تجلى ربنا العظيم في آيات كتابه الكريم جميعا ، ولكن كما الشمس- وتعالى الله عن الأمثال - تتجلى في كل أفق تجليات بديعة و جديدة ، فان لكل سورة تجلياتها الخاصة بها ، و هكذا في هذه السورة حيث عرفت فاتحة السورة ربنا العظيم بأنه غافر الذنب ( ومن هنا جاء أحد إسمي السورة ) و أنه قابل التوب شديد العقــــاب ذو الطول ، ثمفي آية (15) ذكر إسم رفيع الدرجات ذي العرش و أنه يلقي الروح من أمره على من يشاء من عبادة ، ثم جاء في الآية (65) أنه سبحانه هو الحي لا إله إلا هو .

و جاء في الآية (13) و الآية (81) أنه سبحانه يرينا آياته ( و يعرفنا نفسه عبرها ) و نتساءل : فلماذا - إذا - لا نعرف ربنا عبر تلك الآيات المبصرات ؟! و يعرف الجواب حقا من يرهف سمعه لكلام ربه ، حيث ان منهج القرآن هو تصفية العقبات النفسية قبل إلقاء البصائر ببلاغة نافذة ، و حجة تامة ، و خطاب فصل مبين .

و قد تركزت آيات السورة في هذا التوجه ، حيث نجد التحذير من الجدال في آيات الله أربع مرات تعتبر كل مرة عنوانا لسلسلة من البصائر و الحديث الشافي الذي يطهر القلب من عقبات الإيمان ، و ذلك عبر الترتيب التالي :

أولا : في البدء نجد تحذيرا من الجدال عبر التذكير بعاقبة الجدال السوئى ، ثم نتلوا بيانا لطائفة من آيات الله التي تهدف إقامة الحجة على الكافر ، و زيادة إيمان و معرفة الذي ألقى السمع ، و سلم للحق .

دعنا نستعرض جانبا من هذا المنهج ، وفي ذات الوقت نجمل الحديث حول موضوعات السورة ، ضمن هذا الإطار ، و هو إعداد القلب لتقبل آيات الذكر .

أولا : الآيات (4/6) تنعت المجادل في آيات الله بالكفر و الغرور ، و تحذر منعاقبة سيئة له مثل التي كانت لقوم نوح و الأحزاب .

و الآيات (7/9) تبشر المؤمنين ( الذين يسلمون لآيات الله بأنهم مكرمون عند الله و عند حملة العرش من ملائكته ، الذين يدعون لهم بالوقاية من النار ، و دخول الجنة ، و حفظهم من السيئات ) .

و هكذا لا يكتفي المنهج القرآني بالإنذار بل يقرنه غالبا بالتبشير .

و يعود السياق الى التحذير من الكفر ( و الجدال ) بأن صاحبه مخزي ممقوت ، و سيندم حيث لا ينفعه الندم (10/12) .

و هكذا تتهيأ النفوس لاستقبال آيات الله من دون الجدال الباطل فيه ، فيبين السياق طائفة منها مع الأمر بإخــلاص الدين له و توحيده و أنه رفيع الدرجات ( أسماء الله ) و ذلك عبر الآيات (13/15) .

و يعود السياق الى التحذير من مغبة الجدال في يوم القيامة (16/20) مع التذكرة بأسماء الله التي تتجلى في ذلك اليوم الرهيب .

و يذكرنا بمصير الكفار في الدنيا ، و كيف أخذهم الله - على شدة قوتهم و مكاسبهم الكثيرة - كل ذلك لانهم جادلوا في آيات الله ، و كفروا بالبينات التي جاء بها رسله .

و يضرب القرآن مثلا على عاقبة الجدال في آيات الله و الذي يساوي الكفر مما انتهى إليه أمر فرعون و قومه ، كما يضرب مثلا للذين آمنوا بآيات الله من العاقبة الحسنى التي فاز بها مؤمن آل فرعون .

و يفصل الكتاب ذات الحقائق من خلال حوار ساخن بين موسى ( الرسول )و هارون ( و زيره ) و المؤمن ( الذي صدق بهما ) من جهة ، و بين فرعون ( الطاغية ) و هامــان ( وزيره ) و قارون ( الذي اتبعهما ) من جهة ثانية ، و تحول الحوار الى صراع ، و انتهى الصراع بمصرع آل فرعون ، و تدمير حضارتهم ، و عذابهم بالغدو و الآصال في البرزخ ،و اقحامهم و التابعين في جهنم ، و ساءت مصيرا .

و تتجلى في السياق صورة مؤمن آل فرعون مثلا رائعا لشخصية المؤمن الصلبة و نفاذ بصيرته ، و قدرته الربانية على تحدي الطغيان المادي ، مما جعلت اسمه عنوانا لهذه السورة الكريمة .

ثانيا : و خلال الحوار و الصراع و التحدي يذكرنا الكتاب مرة ثانية بقضية الجدال في آيات الله و كيف ينتهي بصاحبه أن يطبع الله على كل قلبه ، و يمسي كفرعون الذي بلغ به الغرور الأهوج حدا قال لوزيره هامان : ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ، و مضى في طريق الغواية حتى النهاية البئيسة ، بينما دعى الصديق الى اتباع نهجه نهج الرشاد ، و ركز على مسؤولية البشر عن أعماله و مواقفه ، ثم فوض أمره الى الله بعد أن تحداهم بقوة ، و كانت العاقبة أن الله وقاه من سيئات ما مكروا ، بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب ، و لم يفلتالمستضعفون من ذات العاقبة التي كانت للمستكبرين ، لأنهم جميعا جادلوا في آيات الله و عصوا رسله . أما رسل الله و الذين آمنوا فإن الله ينصرهم في الدنيا و يوم يقوم الأشهاد ، إلا أن عليهم الصبر و الاستغفار و أن يسبحوا بحمد الله بالعشي و الإبكار (55) .


ثالثا : و فـــي المرة الثالثة يحذرنا السياق من الجدال في آياته ، مبينا - هذه المرة - الجذر النفسي لهذه اللعنة التي تصيب القلب وهي الكبر الذي لن يبلغه صاحبه ، و بعد أن يأمرنا بالاستعاذة بالله العظيم يهدينا الى عظمة خلق الله للسماوات و الأرض ، و يوحي إلينا أن الكبر عمى و الإيمان بصيرة ، و أن الساعة آتية لا ريبفيها ، ثم يأمرنا بالدعاء لأنه شفاء من الكبر .

و حسب المنهج القرآني الفريد يلقي على الأفئدة السليمة آياته (61/62) ثم يحذر من الجحود بها ، لأن من يجحد بها يؤفك عن الحق (63) و يعود يذكرنا بآياته المبصرة ، وبأنه الحي الواحد ، و يأمر رسوله بتحدي آلهة الزيف (66) و يذكرنا بأنه يحيي و يميت .

رابعا و أخيرا : ينهى عن الجدال في آيات الله (69) و ينذر الذين كذبوا بالكتاب بأنه سوف يعلمون أي جريمة اقترفوا ، وذلك حين توضع الأغلال في أعناقهم وفي السلاسل يسحبون .

و كذلك يعالج داء الجدال بالتحذير من عاقبته الأخروية ، و يجمل السياق في خاتمة السورة بصائرها ، من الأمر بالصبر (77) اتباعا لسنة الأنبياء ، و التحذير بعاقبة الإستهزاء (78) و التذكرة بآية الله في خلق الأنعام ، و الأمر بالسير في الأرض للنظر في عاقبة المكذبين ، و كيف دمروا فلم يغن عنهم ما كانوا يكسبون ، و ذلك أنهم حينما أنذرهم الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83) بلى . إنهم آمنوا في اللحظة الأخيرة حين رأوا بأس الله ، و لكن سنة الله جرت بألا ينفع الايمان في ذلك الوقت ،وأنه قد خسر هنالك الكافرون (85) .

و كلمة أخيرة : الحقائق الكبرى الثلاث التي تحيط بالخليقة ( التوحيد و البعث و الرسالة ) شواهدها و آياتها مبثوثة في الآفاق و الأنفس ، إلا إن حجبا سميكة تغطي البصائر عن رؤيتها و التفاعل معها ، و تؤدي الى الجدال في آياتها و دلائلها ، و القرآن الكريم شفاء للقلب من تلك الحجب ، و في هذه السورة المباركة نجد نهجا بديعا و شفاء سريعا ، و علينا فقط أن نلقى السمع الى آياتها بلا جدال !.


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس