فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[7] تتبع الآيات القرآنية منهجا يتميز عن المناهج البشرية في أنه كالضوء ينتشر من نقطة مركزية واحدة ، هي التوحيد لتتسع سائر الحقول . ذلك أن عالم الخلق و الحق كما عالم العلم و المعرفة مظهر و تجل لأسماء الله الحسنى ، و كل شيء فيه آية تدلنا الى ربنا الحميد المجيد . و لقد افتتحت هذه السورة بذكر بعض صفات الله التي تتجلى في الخليقة فاسم الله " الرحيم " الذي يتجلى في قبول الله للتوبة " قابل التوب " لها انعكاس على خلق الله ، و من ثم على سلوك الإنسان ، و عليه أن يتخذ منه منهجا لتقويم سلوكه .

بل ينعكس هذا الإسم الكريم على الخليقة إذ يحدثنا القرآن عن الملائكة الحافين بعرش الله ، فهم من جهة يتصلون بالله عبر علاقة التسبيح و الايمان ، و يتصلون بالانسان المؤمن عبر علاقة الحب و الرحمة ، و ربنا إذ يشرح لنا جانبا من هذه العلاقة يبين ذلك في صورة دعاء من قبل الملائكة للمؤمنن التائبين .

و يبقى السؤال : ما هو عرش الله ؟

للعرش معنيين :

الأول : إن الله يملك محلا واسعا يسمى بالعرش ، لا نعرف إلا أنه عظيم يسع السماوات و الأرض بل الخلق بأجمعهم . وقد جاء في الحديث المروي عن أمير المؤمنينعليه السلام : " إن الملائكة تحمل العرش ، و ليس العرش - كما تظن - كهيئة السرير ، و لكنه شيء محدد مدبر ، و ربك عز و جل مالكه " (1)وفي الحديث المأثور عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال : " يا أباذر ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، و فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " (2)الثاني : إن العرش هو رمز القدرة و الهيمنة ، حيث فسرت الآية الكريمة " و كان عرشه على الماء " (3) بأنه سيطرته و هيمنته تعالى . أما الملائكة الذين يحملون العرش فإنهم وسائط رحمة الله ، و تنفيذ إرادته في الحياة .

و الى ذلك تشير الرواية المأثورة عن الإمام الرضا عليه السلام : " العرش ليس هو الله ، و العرش إسم علم و قدرة " (4)و في حديث آخر عن الامام الصادق - عليه السلام - أنه حين سئل عن قول الله عز و جل " وسع كرسيه السموات و الأرض " قال : " علمه " (5)و يحتمل أن يكون لربنا مقام معلوم حمله علمه و قدرته ، و منه ينطلق تدبيره للخليقة وهو عرشه ، وفيه ملائكة الله المقربون .

و ما يهمنا معرفته أن حملة العرش خلق من خلق الله وليس أنصاف آلهة ، وهم مشغولون بالتسبيح و التمجيد .


(1) موسوعة بحار الانوار / ج 55 - ص 9

(2) المصدر / ص 5

(3) هور / 11

(4) بحار الأنوار / ج 55 - ص 14

(5) المصدر / ص 28


هذا عن علاقتهم بالله ، أما عن علاقتهم بالانسان فهي التي تكشف عن علاقة الطبيعة بالبشر ، إذ الملائكة وسائط أمر الله و تنفيذ إرادته ، فهم إذن يمثلون موقف الخلائق من الانسان ، و هو يرتبط بموقف الانسان من الحق ، فإذا كان البشر على فطرته و علاقته الايجابية مع ربه فهم معه وإلا فلا ، فما على الانسان حتى يفلح في الحياة إلا أن يتحرك باتجاه تسخير الطبيعة التي من أهم عوامل تسخيرها العبودية لله ، و حينها سوف يجد كل شيء يقف معه مؤيدا ، إذ الملائكة الموكلة من قبل الله بقوى الطبيعة المختلفة سوف يكونون معه .
ولو كان مجمل سلوك الانسان صالحا فإن هفواته لا تضره إذ سرعان ما يتوب الى الله منها فتستغفر الملائكة له منها ، ولعلهم يسددون خطاه بأمر الله للعودة الى نقائه و طهره ، وقد يعصمونه بإذن الله من الذنوب الجديدة ، و يثبتون قلبه ، و يحفظونه من تسولات النفس ووساوس الشيطان ، و يبدو أن هذا من علامات قبول التوبة .

[ الذين يحملون العرش ]

وهم من أعظم ملائكة الله ، و لعلهم أول من يتلقون أمر الله .

[ ومن حوله ]

من الملائكة الآخرين .

[ يسبحون بحمد ربهم ]

و أعظــم الذكر هو التسبيح الذي يقدس الرب عن الشريك و الشبيه و النقص و العجز .

[ و يؤمنون به ]


فتسبيحهم ليس مجرد كلمات يتلفظونها ، أو أفعال يمارسونها ، إنما يقومون بكل ذلك عن معرفة و قناعة راسخة بوجوبه عليهم . هذا عن علاقتهم بالله ، أما عن علاقتهم بالمؤمنين فهي الإستغفار لهم لكي يتوب الله عليهم و يوفقهم في الحياة .

[ و يستغفرون للذين ءامنوا ]

وليس يغفرون ، لأنهم ليسوا آلهة ، إنما هم عباد مقربون عند الله ، و كل ما يستطيعونه لخدمة المؤمنين هو طلب العفو من الله لهم عبر الدعاء .

ومن آداب الدعاء :

أولا : البدء بحمد الله و تسبيحه و الثناء عليه ثم طلب الحاجة ، و هكذا فعل الملائكة إذ تراهم سبحوا الله بحمده ثم استغفروا للمؤمنين .

ثانيا : البدء بطلب العفو قبل سائر الطلبات حيث أن رحمة الله قريبة من التائبين ، إذ الذنوب تمنع استجابة الدعاء ، و نزول الرحمة ، و هكذا فعل الملائكة .

[ ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك ]و التوبة هي الشرط الأول لقبول الله عودة العبد إليه . أما الشرط الثاني فهو أن تكون التوبة صادقة يستقيم عليها العبد ، فيتبع سبيل الله وحده دون أن يعود الى سبيل الشيطان . وهذا ما يبصره ربنا الذي أحاط بكل شيء علما .

[ وقهم عذاب الجحيم ]

وهذا أهم و أعظم ما يمكن للمؤمن الدعاء به لنفسه و لإخوانه . وهكذا عندما يتوب المؤمن إلى الله فإن الملائكة تكون معه . وبالتالي فإن ما في الحياة يدعو البشرالى إصلاح نفسه و العودة الى الطريق المستقيم .

[8] و حينما يكون الانسان صالحا فانه سوف ينفع الآخرين ، فإذا بآبائه و أبنائه كما الأشخاص المحيطين به كزوجة يفيدهم بصلاحه و يدخلون معه الجنة ، إلا إذا كانوا منحرفين تماما ، وهذا يعني أن الحياة قائمة علـى أساس البناء لا الهدم ، و الصلاح لا الفساد ، والملائكة تدعم هذه المسيرة و تؤيدها بإذن ربها .

[ ربنا و أدخلهــم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من ءابائهم و أزواجهم و ذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم ]فبعزتك تقدر على استجابة الدعاء ، و بحكمتك تستجيب أو لا تستجيب ، وهكذا ينبغي على من يدعو أن لا يحتم على الله بل يقدم دعوته و يثني على ربه و حسب .

و يتوافق هذا الدعاء مع رغبة الانسان حيث يتطلع الى العيش مع أحبائه و أعزته في الدنيا و الآخرة . و إنما تكتمل النعم عندما يجتمع الأحبة تحت ظلال نعم الله في الجنة .

[9] ولا يبلغ البشر غاية مناه إلا إذا تخلص من سيئاته التي تتجسد يوم القيامة في صور شتى ، فمنها الظلمات الحالكة ، و منها النيران الملتهبة ، و منها العقارب و الشجعان ، و منها اقتران الشيطان ، و قد تبتلع سيئة واحدة عامة صلاة الفرد و صيامه ، وقد تتسببفي حبط أعماله الصالحة و نقص درجاته . وقد جاء في الحديث عن رب العزة أنه سبحانه قال : " أنا المالك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، و لا لأحد من أهل النار أن يدخل النار و عنده مظلمة حتى أقصه منه " (1)(1) المصدر / ص 516


وهكذا كان في دعوة الملائكة حفظ المؤمنين من سيئاتهم في ذلك اليوم الذي تتجسد فيه السيئات .

[ وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ]

و الوقاية هنا بمعنى الحفظ ، و إنما يتقي البشر آثار السيئات في الآخرة عندما ينتصر على نفسه في الدنيا و يتجاوز الأهواء و الشهوات السلبية .

[ وذلك هو الفوز العظيم ]

ان الوصول الى النجاة من النار و دخول الجنة غاية عظيمة ، و عمل صعب ، وعلى الانسان المؤمن ان يعقد عزمه و يشحذ إرادته من أجل تحقيقها ، إذ كلما كان الهدف عظيما يجب أن تكون الإرادة عظيمة بقدره .

[10] هذا عن علاقة الملائكة بالمؤمنين . أما علاقتهم بالكافرين فهي سلبية و تتسم بالدعاء عليهم و التشمت بهم .

[ إن الذين كفروا ينادون ]

تناديهم الملائكة و كل الطبيعة المفطورة على الحق الذي خالفه هؤلاء ..

[ لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون الى الإيمان فتكفرون ]إن الله يريد الخير لعباده وما خلقهم إلا ليرحمهم . أما إذا رفضوا الإيمان به و الاستجابة لدعوته ، وبالتالي أهانوا أنفسهم و أذلوها بالكفر ، فإنه سوف يهينهم أضعافا مضاعفة على إهانتهم لأنفسهم ، بإبعادهم عن رحمته ، و إدخالهم العذاب .


و االانسان يهين نفسه ولا يحترمها حينما يحتقر الحق و يرفض الإستجابة له . ذلك أن لا قيمة للانسان إلا بقربه من الحق و تجسيده له في حياته .

[11] وفي جواب الكفار للنداء بشدة مقت الله لهم :

[ قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين ]

و نتساءل : متى كانت الموتتان ؟!

لقد اختلف العلماء و المفسرون في بيان هذه الآية ، فقال بعضهم : ان الموتة الأولى قبل دخول الانسان في الحياة الدنيا ، حيث كان في عالم الأشباح حيا ثم مات ، ثم دخل الحياة الدنيا ثم يموت عند بلوغه أجله ثم يحيا للحساب و الجزاء .

وقال آخرون : إن الله يحيي الانسان في قبره بعد الموت ليحاسبه حساب القبر ، و بعدها يميته ثم يحييه يوم القيامة للجزاء .

و جاء في الحـــديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال - في تفسير الآية - : " ذلك في الرجعة " (1)وهناك تفسيــر آخر هو : إن الانسان منذ أن خلقه الله لا يزال حيا ، وهذه الحياة الأولى التي وهبها الرب للأرواح تستمر مع الانسان في الدنيا فلا موت قبل هذه الحياة ، ثم يوافي الإنسان أجله المتعارف فيموت ، بمعنى : أنه تنفصل روحه عن جسده و تبقى الروح في حالة الحياة .

وبعد هذا الموت يموت البشر - مرة أخرى - فتنعدم عنه الحياة تماما و ذلك حينما ينفخ في الصور النفخة الأولى ، وقد أشار القرآن الحكيم لهذا المعنى في سورة(1) المصدر / ص 513


الزمر حيث قال : " و نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض الا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " (1) وهذه هي الحياة الثانية التي تستمر مع الانسان خالدة للأبد .

و بين الحياتين و الموتين تتجلى قدرة الله للبشر حيث لا يملك الكفار سوى الإعتراف بخطئهم ، وأنهم قد أحيط بهم من كل جانب بسبب الذنوب التي اقترفوها في الحياة الدنيا ، فيسألون الله بضراعة عن مخرج من مأزقهم .

[ فاعترفنا بذنوبنا ]

و إننا لا نملك من أمرنا شيئا .

[ فهل إلى خروج من سبيل ]

[12] و تجيبهم الملائكة بأنه قد كان يوجد مخرج واحد فقط من هذا المأزق ، وهو الايمان بالله الواحد القهار و التسليم له " و من يتق الله يجعل له مخرجا " (2) ، ولكنكم رفضتم الدخول فيه و ضيعتم على أنفسكم الفرصة .

[ ذلكم بإنه إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا ]لأنكم كنتم تريدون إيمانا يبرر لكم شهواتكم ، و يعترف بواقعكم الفاسد و تصـــرفاتكم الخاطئة ، و هذا ما لا تجدونه في الدين التوحيدي الخالص ، مما يدعوكم لرفضه .

[ فالحكم لله العلي الكبير ]


(1) الزمر / 39

(2) الطلاق / 65


أما الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله فلن ينفعوكم أبدا لأنهم لا يملكون شيئا من الحكم .

[13] وليس الله بعيدا عن البشر ولا مجهولا لمن يستثير عقله حتى يشرك به الانسان ، فرحمته المعنوية التي تتمثل في الهداية مهيئة لنا في كل شيء وفي كل حين ، إذ كل شيء آية تهدينا الى ربنا ، و رحمته المادية التي تتجسد في أنواع الرزق هي الأخرى تتنزل علينا من السماء و تحوطنا من كل جانب . و يبقى الانسان مع ذلك يشرك بربه ولا ينتفع من كل ذلك ، إلا إذا كان مؤمنا به منيبا إليه .

[ هو الذي يريكم ءاياته و ينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب ]و المنيب هو الذي يرجع الأمور الى الله ، و يتوب إليه كلما أدركه النسيان أو الخطأ ، أما المشرك فإنه لا ينتفع بهذه الآيات ولا بهذه النعم حتى يحصل على معرفة ربه ، لأنه ينسب كل ذلك الى الشركاء ، فإذا به يعتقد أن منبع رزقه هو صاحب المال و السلطة ، أو يرجع الرزق الى حتميات و عوامل من عنده فلا يشكر ربه ولا يتذكره بها .

[14] ولما كان الشرك يحرف مسيرة الانسان في الحياة ، و يوجهه لغير الله و لغير الحق ، أكد ربنا على ضرورة الإخلاص له في الاعتقاد بعيدا عن كل عوامل الشرك .

و لأن الضغوط التي يواجهها المؤمن الإجتماعية منها و السياسية و الإقتصادية من قبل الآخرين من أهم تلك العوامل و أبلغها أثرا خصصها بالذكر .

[ فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ]


وهذا ينسجم مع سياق السورة الذي يحدثنا عن مؤمن آل فرعون كمثل لمحافظة الانسان على إيمانه و إخلاصه لله رغم الضغوط و الظروف المعاكسة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس