بينات من الآيات [25] حينما جاء موسى بالتوراة و واجه فرعون و أتباعه بالبينات لم يكن عندهم منطق حق لمواجهته ، لهذا توسلوا بالإرهاب الذي يمثل منطق القوة .
[ فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه و استحيوا نساءهم ]وقـــد كانوا يريدون من وراء ذلك الضغط عليهم لكي يتنازلوا عن مسيرتهم الثورية ، و يتخلوا عن الجهاد تحت راية الحركة الرسالية و قيادتها المتمثلة في نبي الله موسى (ع) ، وهذا من أهم ما يتوسل به الطغاة في خططهم الرامية لمواجهة الحركات الجهادية عبر التاريخ ، ولكن إذا استقامت الجماهير و واجهت طلائعها الضغوط بوعي و حزم استطاعت إفشال خطط الطغاة .
[ وما كيد الكافرين إلا في ضلال ]
و الكيد هو الخطة الماكرة التي يستهدف صاحبها النيل من عدوه و ربنا يصف كيد الكافرين و الطغاة ( كفرعون ) بأنه لا ينتهي الى النتيجة التي يتطلعون إليها ، بل ربما جاءت النتيجة مخالفة لمصالحهم ، لأن أمرهم يشبه من يرمي في الظلام ولا يدري لعله يقتل أقرب الناس إليه .
و السبب أن الخط الإستراتيجي العام للكفار خط منحرف ، فكلما حاولوا تكتيكيا أن يخططوا لأنفسهم انتهت خططهم للفشل بسبب انحراف أفكارهم ، كما لو افترضنا شخصا يريد الذهاب الى مدينة تقع شمالا ولكنه يتحرك باتجاه الجنوب ، فإنه مهما حاول أن يكون تحركه دقيقا ومدروسا فلن يصل الى هدفه المنشود ، و فكر الكفار خاطئ لأنهم يكفرون بالنقطة المحورية في الخليقة وهي الايمان بالله عز وجل .
[26] فالجانب الأول من خطتهم أن يفصلوا الناس عن الحركة الرسالية من خلال الإرهاب و الضغوط ، أما الجانب الثاني منها والذي يستهدف القضاء على التحرك الثوري في المجتمع فهو القضاء على النبي موسى (ع) محور الحركة و قائدها .
[ وقال فرعون ذروني أقتل موسى ]
ومن كلمة فرعون " ذروني " يتضح أن خلافا تفشى في بيته حول تحديد الموقف المناسب من النبي (ع) ، ولعله كان من رأي جماعة منهم بالإستماع الى دعوته و مقارعة الحجة بالحجة و كان يمنع هذا الرأي فرعون من قتله ، و حيث يعلم هو بخطئه و قصوره عن مواجهةموسى و رسالته بهذا الإسلوب حاول تجاوز هذا الرأي و إقناع أصحابه بقبول خطته القاضية بتصفية موسى (ع) تصفية جسدية ، و طالما يتكرر و بصورة مستمرة في الثورات أن مفجرها يثير الخلاف في صفوف الطاغوت و قراراتهم تجاه الثورة .
ولأن فرعون تبنى قرار التصفية الجسدية أراد إقناع المخالفين له بصحة رأيه ، و ذلك بتبرير أن موسى (ع) لم يكتف بقوة المنطق و حسب و إنما تسلح أيضا بمنطق القوة . اذن مواجهته بهذا الإسلوب أمر موضوعي في رأي الطاغوت .
[ وليدع ربه ]
الذي تحدانا به كثيرا ، وهذا منطق كل الطغاة ، إنه لو كان الثائرون على الحق إذن لكانوا أقوياء و لانتصروا لأنفسهم فعلا ! إلا أن خلط القوة بالحق ، و جعل القوة الظاهرية الآنية مقياسا لمعرفة الحق من الباطل خطأ كبير يقع فيه الطغاة ، لأن الحق و القانون لايتحدد بالقوة و الإرهاب ، فقد يكون الحق ضعيفا لعوامل خارجة عن إرادة أصحابه ، وقد يكون الباطل قويا ولكن هذا لا يبدل الباطل حقا و الحق باطلا أبدا ، وفي ما يلي من الآيات نجد المزيد من البيان في خطأ هذه الفكرة التي يعتمدها الطغاة في تضليل الناس لأن هذه الفكرة من الأسس التي تقوم عليها الأنظمة الفاسدة و تعطيها صبغة الإرهاب و القمع ، الذي يسعى الطغاة لتبريره بشتى الحجج ، فهذا فرعون يحاول تبرير قراره الإرهابي و تهيئة المعارضين له لقبوله .
[ إني أخاف أن يبدل دينكم ]
أي أفكاركم و ثقافتكم ، وكل أفكار يلتزم بها الناس فهي دينهم ، و تبدل ثقافة الناس من ثقافة التخلف و القابلية بالطاغوت الى ثقافة ثورية حضارية من أشد الأمور خطورة على الطواغيت ، فهم يخافون من حدوث ذلك كما صرح فرعون بنفسه .
أوليس النظام الطاغوتي هو إفراز لثقافة المجتمع و بقاؤه يعتمد على سكوته ؟ إذن فأي تغيير إيجابي في هذه الثقافة يعني تغيير النظام الحاكم ايضا .
وحيث أحس فرعون بخطورة الحركة الرسالية سعى بالإضافة الى ضغطه على تيارها الإجتماعي و مؤيديها لفصلهم عنها ، و قراره بقتل قائدها ، سعى الى إثارة الناس ضدها عن طريق الإيحاء لهم بأنها تحارب دينهم وما التزموا به هم و آباؤهم ، هذا فيما إذا سكت فرعون ، أماإذا عارض موسى فسوف تقع الفتنة بين الناس ، و تسبب في قتل الناس و تدمير إقتصادهم ، هكذا صور فرعون لقومه و قال :
[ أو أن يظهر في الأرض الفساد ]
وهاتان التهمتان هما في عرف السياسيين اليوم أخطر ما يمكن توجيهه للمعارضة و خاصة في البلاد الديكتاتورية ، و القرآن يختصر بهذه العبارات الموجزة موقف الطغاة من الحركات التغييرية في كل مكان و زمان .
[27] أما موسى (ع ) فهو في الوقت الذي تحدى هذا الغرور و العنجهية الفرعونية ، لم يعتمد على ذاته ، ولا على منطق القوة ، إنما اعتمد و كسائر الأنبياء و الربانيين على قوة ربه و قوة الحق الذي يؤمن به و يجاهد من أجله .
[ وقال موسى إني عذت بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ]و التكبر و الكفر بيوم الحساب ، هاتان الصفتان تنتهيان الى شيء واحد ، هو ضياع المقاييس عند الانسان ، فإذا به يعتقد بأن ما تشتهيه نفسه هو الحق ، فبتكبره لا يخضع للحق ، و بكفره بالجزاء لا يتحسس المسؤولية ، و لمقاومة شر هذا النوع من الرجال لابد من الإستعاذة بالله ، أولا : للإستقامة أمام إغرائهم و إرهابهم ، و ثانيا : للإستلهام من الوحي سبل مقاومتهم .
[28] و ينعطف السياق القرآني ليكشف جانبا من الصراع الداخلي الذي يدور في صفوف الطاغوت ، حيث الموقف الرسالي الحاسم لمؤمن آل فرعون من النظام الفاسد ، و الذي يكشف ظهوره في هذا الموقع من الصراع عن مدى تغلغل الحركة الرسالية في الأجهزة الفرعونية ، كما يعكس محتوى الإستعاذة بالله وكيف أن ربنا ينصر رسله برجال أدخرهم لمثل ذلك .
[ وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه ]
وهو حزقيل الذي بقي إيمانه طي الكتمان دهرا طويلا حسب بعض الأخبار ، و إن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن أساليب النضال ليست واحدة ، بل ينبغي لكي مناضل ان يتحرك في جهاده من الخندق المناسب ، و إذا كانت خنادق الجهاد تختلف - كما صوره - من شخص لشخصومن ظرف لآخر فإن الهدف يبقى واحدا و المحتوى هو المحتوى ، بينما يقتضي الأمر الإلهي أن يفجر موسى (ع) صراعا صريحا مع الطاغوت ، و يتساقط أتباعه من بني إسرائيل كأوراق الخريف بعاصفة الإرهاب ، نجد هذا المؤمن المجاهد يحتفظ بمركزه في بيت فرعون ، ليقوم بدور أساسي في هدم نظامه .
فبينما كان الطاغوت جالسا يتباحث أمر موسى (ع) مع خاصتـه ليكيدوا به و يقتلوه ، و الكل يزعم بأن لا غريب بينهم ، و إذا بالمؤمن ينهي فترة الصمتو الكتمان و يستنكر عليهم قرارهم المنحرف .
[ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ]
وهذا هو الحق و الواقع .
[ وقد جآءكم بالبينات من ربكم ]
ثم إن دعوته لم تكن مجردة ، إنما كانت مدعمة بالأدلة و البراهين التي تؤكد صدقها ، و إنها ليست من عند موسى نفسه بل من رب الخلائق ، ولعل هذا الحدث كان ذا أثر عميق على فرعون وقادة نظامه ، أن ينهض من بينهم شخص يؤيد المعارضة و ينتمي لها .
من هنا ينبغي لأولئك الذين يتوبون لله من أعوان الظلمة ، أن يدركوا أهمية كتمانهم ، فلا يظهرون قرارهم بالتوبة ، و إنما يبعثون بشخص موثوق أو برسالة ، أو يلتقون هم بأنفسهم بالقيادة الدينية الواعية ، و يستطلعون رأيها ، و يعرفون مسؤوليتهم و الدور المناسبالذي يجب ان يمارسوه ، كما فعل نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء الى رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله ! إني قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي ، فمرني بأمرك ، فقال له رسول الله (ص) إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت ( يعني شط الأعداء و جبنهم ) فإنما الحرب خدعة ، فانطلق نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة فقال لهم : إني لكم صديق والله ما أنتم و قريش و غطفان من محمد (ص) بمنزلة واحدة . إن البلد بلدكم و به أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم ، و إنما قريش و غطفان بلادهم غيرها ، و إنما جاؤوا حتى نزلوا معكم فإنرأوا فرصة انتهزوها ، و إن رأوا غير ذلك رجعوا الى بلادهم و خلوا بينكم و بين الرجل ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لايبرحوا حتى يناجزوا محمدا ، فقالوا له ، قد أشرت برأي ، ثم ذهب فأتى أبا سفيان و أشراف قــــريش فقال : يا معشر قريش إنكم قد عرفتــم ودي إياكم ، و فراقي محمدا و دينه ، و إني قد جئتكم بنصيحة فاكتموا علي ، فقالوا : نفعل ما أنت عندنا بمتهم ، فقال : تعلمون أنبني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد فبعثوا إليه أنه لا يرضيك عنا إلا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم و ندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ثم نكون معك عليهم حتى نخرجهم من بلادك فقال : بلى . فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفرا من رجالكم فلا تعطوهمرجلا واحدا ، و احذروا ، ثم جاء غطفان وقال : يا معشر غطفان إني رجل منكم ، ثم قال لهم ما قال لقريش ، فلما أصبح أبو سفيان وذلك يوم السبت في شوال سنة خمس من الهجرة بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أن أبا سفيان يقول لكم : يا معشر اليهودإن الكراع و الخف قد هلكا و إنا لسنا بدار مقام فاخرجـــوا الى محمد حتى نناجزه ، فبعثوا إليه : إن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا و تدعونا حتى نناجز محمدا فقال أبو سفيان : والله قد حذرنا هذا نعيم ، فبعث إليهم أبو سفيان : إنا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا و تقاتلوا ، وإن شئتم فاقعدوا ، فقالت اليهود : هذا والله الذي قال لنا نعيم ، فبعثوا إليهم ، إنا والله لا نقاتل حتى تعطونا رهنا . و خذل الله بينهم ، و بعثسبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتى انصرفوا راجعين . قال محمد بن كعب قال حذيقة بن اليمان : والله لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد و الجوع و الخوف مالا يعلمه إلا الله ، و قام رسول الله (ص) فصلى ما شــــاء الله من الليل ثم قال : ألا رجل يأتيا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنة . قال حذيقة : فوالله ما قام منا أحد مما بنا من الخوف و الجهد و الجوع ، فلما لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدا من إجابته ، قلت : لبيك ! قال إذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع ، قال : و أتيتالقوم فإذا ريح الله و جنوده يفعل بهم ما يفعل ، ما يستمسك لهم بناء ولا تثبيت لهم نار ولا تطمئن لهم قدر ، فإني لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحاله ثم قال : يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه ، قال حذيفة : فبدأت بالذي عن يميني فقلت : من أنت ؟ قال : أنا فلان ،ثم عاد أبو سفيان براحليه فقال : يا معشر قريش ! والله ما أنتم بدار مقام ، هلك الخف و الحافر ، و اخلفتنا بنو قريظة ، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء ، ثم عجل فركب راحلته و إنها لمعقولة ما حل عقالها إلا بعد ما ركبها . قال : قلت في نفسي : لو رميت عدوالله فقتلته كنت قد صنعت شيئا ، فوقرت قوسي ، ثم وضعت السهم في كبد القوس ، و أنا أريد أن أرميه فأقتله ، فذكرت قول رسول الله (ص) : " لا تحدثن شيئا حتى ترجع " ، قال : فحططت القوس ثم رجعت الى رسول الله (ص) وهو يصلي فلما سمع حسي فرج بين رحجليه فدخلت تحته ، و أرسل على طائفة من مرطة ( يعني الكساء ، ولعل الرسول كان يريد أن يخفيه حتى عن المسلمين ليبقى مجهولا في تحركه ) فركع و سجد ، ثم قال : ما الخبر ؟ فأخبرته (1)ولا ريب أن الدور الذي مارسه مؤمن آل فرعون ( حزقيل ) لم يكن بعيدا عن قرار القيادة الرسالية المتمثلة يومئذ في شخص موسى (ع) فقد بقي إيمانه طي الكتمان مدة طويلة ، كان خلالها حذرا قوي المراوغة ، فلم يفتضح أمره أبدا ، و كان ثابت العقيدة ، راسخ الإيمان ،فلم تغير المناصب ولا المغريات من موقفه ، وهو مع ذلك لم يعتبر الكتمان هدفا في حركته ، إنما اعتبره وسيلة لهدف ، لهذا فجر صراعه مع الطاغوت حيث كانت الظروف مناسبة للإعلان عن موقفه الواقعي ، وذلك حينما دافع عن موسى (ع) و عارض الطغيان الذي مارسه فرعون و نظامه الى حد رفض الآراء المعارضة و مواجهتها بالقتل و الإرهاب ، قائلا : بأن الموقف السليم تجاه آراء(1) مجمع البيان / ج 7 -8 ، ص 244 - 345
الآخرين ليس استخدام منطق القوة و إنما استماعها و الاصغاء لصاحبها ، فإن كانت خاطئة فليس ذلك مما يضر السلطة إذا كانت على الحق ، وإن كانت صادقة و سليمة فيجب إتباعها و الانتفاع بها ، و إلا فإن العاقبة ستكون غير محمودة إذا رفض الإنسان الحق .
[ وإن يك كذبا فعليه كذبه ]
وهو الذي يتحمل مسؤولية رأيه و موقفه .
[ و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ]
هكذا تساءل مؤمن آل فرعون : لماذا تقتلون موسى ؟ فهو إن كان كاذبا لم نخسر نحن شيئا ، وإن يكن صادقا فالأمر خطير بالنسبة لكم ؟؟ وكان هذا السؤال كافيا لو انطلق منه فرعون و حاشيته أن يوصلهم الى الحق ، ولكن الشك المنهجي لا ينفع الذين حجبت شهواتهم عقولهم، و أرادوا الإسراف في اللذات ثم تبريرها بالأعذار و الأسباب الكاذبة .
[ إن الله لا يهدي من هو مسرف ]
فقلبه متجه الى الشهوات كلية .
[ كذاب ]
يستخدم لسانه في تبرير شهواته ، و الخلط بين الحق و الباطل و هذه من أخطر المشاكل التي يبتلى بها الانسان ، ولذلك قال رسول الله (ص) : " أعوذ بالله من قلب مطبق و لسان مطلق " .
[29] و يبين المؤمن السبب الذي جعل فرعون و قومه يكفرون بموسى (ع) وهوالخلط بين الحق و القوة ، فقد زعموا بأن ما عندهم من قوة ظاهرة تغنيهم عن البحث الجاد من أجل الوصول الى الحق و الإلتزام به .
[ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ]
فأنتم أصحاب القوة المادية و السيطرة الإجتماعية ، ولا أحد ينافسكم ، و لكن هل تبقى هذه القوة و تستمر ؟ ثم إذا حل غضب الله فهو لا يرد .
[ فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ]
و بالطبع سوف تكون الأجابة على هذا السؤال بالنفي ( لا أحد ) إذن فما قيمة القوى التي لا تمنع عن أصحابها الأذى ؟ وكل هذه الأسئلة والتي ستليها يجمعها سياق واحد هو : محاولة المؤمن من خلالها إثارة الشك المنهجي في النفوس و قيادتها للحق .
ولعل المؤمن أفلح في إيجاد جبهتين في صف الحاكمين ، مما دفع فرعون للتدخل من أجل حسم الخلاف و إنهائه لصالحه .
[ قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى و مآ أهديكم إلا سبيل الرشاد ]قطع عليهم مسيرة الشك المنهجي و التفكير ، قائلا : إنكــم لا تحتاجون الى التفكير ، ولا أن تروا شيئا ، فأنا أفكر و أرى لكم ، ولا أرى إلا الحق ولا أهدي إلا إليه ، فيجب عليكم أن تسلموا لي تسليما مطلقا ، وهذا هو ديدن الطغاة في كل مكان و زمان ، وبالذات في الدول الديكتاتورية التي يعتقد حكامها بأن صحفهم و إذاعاتهم وبالتالي رايهم و فكرهم وحده الذي يجب أن تؤمن به الجماهير ، ومن هنا نهتدي الى أن فرعون الذي حاربه موسى لم يكن سوى مظهر من مظاهر الطغيان عبر التاريخ .
[30 - 31 ] وإذا كان كلام فرعون هذا قد أخضع ظاهرا من كان حوله ، فإن المؤمن بقي متصلبا في نصرته للحق ، و التزامه ببصيرة الهدى ، رغم تضليل الطاغوت ، وهكذا ينبغي للمؤمنين في كل الأمكنة و العصور .
[ وقال الذي ءامن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ]وهم كل جماعة يتحزبون على أساس الهوى ضد الحق ومن يمثله ، و كمثل لهذه الفئة يشير القرآن إشارة عابرة إلى طوائف منهم ذهبت قصصهم عبرا و أحدوثات في الأمم الغابرة .
[ مثل دأب قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم ]
فهؤلاء و إن اختلفوا في تاريخهم و قصصهم وفي عاقبتهم إلا أنهم متشابهون في جحودهم الحق ، إذ كذبوا الرسل و خالفوا رسالاتهم ، وهذا الربط بين أحداث التاريخ ثم الإهتداء بها الى سنة الله في الحياة يدل على عمق البصيرة و الإيمان عند مؤمن آل فرعون .
وبعد أن وجه هذا الداعية العقول الى عبر التاريخ من خلال أحداثه المأساوية الفظيعة يؤكد على عدالة الله و أن ما يصير إليه البشر نتيجة تفكيرهم و سلوكهم لا نتيجة قدر إلهي ظالم ، حاشا لله .
[ وما الله يريد ظلما للعباد ]
بل العباد هم الذين يظلمون أنفسهم حينما يخالفون الحق و سنن الحياة .
[32 - 33 ] ثم تابع تحذيره من يوم غضب الله .
[ و يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ]
حيث ينادي كل شخص بالاخرين لعلهم ينقذونه من العذاب . و كلمة " أخاف " التي يقولها المؤمن دليل على شفقته و رأفته بالناس .
ثم يبين واقع ذلك اليوم .
[ يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ]
لأن ما يعصم البشر من عذاب الله و نقمته هو الإيمان و العمل الصالح ، وليس عندكم من هذا شيء .
[ ومن يضلل الله فماله من هاد ]
فالهداية مرتبة رفيعة لا يصل إليها كل انسان ، ومن يريد الهداية فإنها لا تحصل بالبحث عن الحق و تزكية النفس و حسب ، إنما لابد من التوسل بالله و دعائه ، لأن الهدى الحقيقي لا يكون إلا من عنده و بإرادته ، و الدليل على ذلك أنه تعالى حينما يضل أحدا فلا سبيل بعدها لهدايته .
|