بينات من الآيات [77] حين شاء الله خلق السماوات و الأرض لم يخلقهما فجأة بل قدر لذلك ستة أيام ، وهكذا كان عالمنا عجينا بالزمن ، وهكذا جرت سنة الله في سائر ما يقضيه من شؤون الدنيا ، ولو افترضنا جدلا أن كل شيء يتحقق فورا لكانت ملامح عالمنا مختلفة جدا عن واقعنا اليوم، ولما تحققت حكمة الرب في الإبتلاء ، فهل كان مجرم يقترف ذنبا لو كان جزاؤه عاجلا ، أم كان بشرا يني من السعي نحو المكرمات لو جاء ثوابها فورا ؟!
لابد - إذا - من الصبر حتى يمضي الأجل المحدد ، و يبلغ الكتاب نهايته ، و هنالك لا يتأخر الجزاء ساعة واحدة ، فلو تكاثفت و تركزت جهود أهل الأرضجميعا لتمديد حكم ظالم بلغ أجله لحظة واحدة لما قدروا .
[ فاصبر إن وعد الله حق ]
سوف يدمر الظالمون شر تدمير ، وسوف تلاحقهم لعنة اللاعنين ، وسوف ينتصر الرب لرسالاته ، و يمكن المستضعفين في الأرض ، كل ذلك وعد من الله ، و لن يخلف الله وعده ، ولكنه بحاجة الى الصبر .
[ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ]بما أن الرسول ومن يتبع نهجه لا يبحث عن النصر لنفسه ، بل لرسالته ، فإن النتيجة عنده واحدة سواءا انتصرت مبادؤه في حياته أو بعد وفاته .
إن الرسول و المؤمنين قد شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ، ولا يبحثون عن تشفي نفوسهم بالإنتقام من أعدائهم ، بل يفوضون أمرهم الى ربهم فسواءا انتصروا أم توفوا ، فإنهم قد أدوا واجبهم .
حقا أنه أعلى درجات الإيثار ، يؤدب الله بها من اصطفاهم من عباده الأكرمين !
كم هي صعبة ( و عظيمة في ذات الوقت ) أن يستخلص قلب الداعية من كل رغبة خاصة حتى ولو كانت رغبة الانتقام من أعداء الله .
ولكن هذا هو المطلوب في حركة أتباع الأنبياء ، ولولاه لكانت تزيغ عن الصراط المستقيم ، ولانعدم الإطمئنان إليها و إلى حملتها ، ولم تقم الحجة على عباد الله حيث أن طلاب المناصب كثيرون ، ولو وضع هؤلاء أيضا المنصب نصب أعينهم لاشتبه الأمر على عامة الناس ،فلعل هؤلاء أيضا اتخذوا الدين وسيلة
للسلطة ، كلا .. إن هؤلاء من نمط آخر ، فحتى لو سعت اليهم السلطة سعيا ابتعدوا عن لذاتها و بهارجها ، فهذا قدوتهم المثلى سيد البشر محمد بن عبد الله و خاتم النبيين (ص) سعت إليه قريش يعرضون عليه أجمل نسائهم ، و أصفى أموالهم ، و الملك عليهم ، فرفض إلا تبليغدعوته .
ولو خالط حب الدنيا قلب الداعية أثر من حيث يدري أو لا يدري على قرارته الإستراتيجية ، ذلك أن عمل الانسان إنما هو تجسيد لنياته ، وقد قال ربنا : " قل كل يعمل على شاكلته " ، فشخصية الانسان الداخلية تبرز من خلال أعماله شاء أم أبى ، وهكذا تنحرفالرسالة عن مسيرها القويم ، إذا لم يخلص حملتها نياتهم لله .
وإن فريقا من المنتمين الى الحركات الرسالية يزعمون أنها حركات سياسية ولكن بصبغة إلهية ، فاذا زويت عنها المكاسب العاجلة لمصلحة سائر السياسيين اتهموا قادة الحركة بالســـذاجة و الإنطواء ، وحين يطول انتظارهم للنصر تراهم يرتابون في القيم رأسا ، و ينسحبون عن الساحة ؛ كلا .. إنها حركات دينية أولا ، و سياسية ثانيا ، ذلك أنهم لا يصوغون استراتيجيتهم وفق المتغيرات السياسية ، بل حسب الواجبات الدينية ، و أعينهم مسمرة على أجر الله و رضوانه قبل أن ترمق ملامح نصره ، ولذلك تراهم لا يداهنون أعداءهم ، ولا يتنازلون عن قيمهم ، لا يخادعون الناس ، ولا يمالئون المترفين على حساب دينهم ، ولا يخشون قوة كبرى ، ولا يظلمون قوة صغرى .
فهذا الإمام علي - عليه السلام - حين اشار عليه قومه ببعض الحيل السياسية نهرهم قائلا : " أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؟! " (1)(1) نهج البلاغة / خ 126 - ص 183
و الحكمة في ذلك أن الهدف الأول لأنصار الرسالة تكريس بالحق و إنذار الناس به ، وقد لا تكون السلطة أفضل وسيلة لذلك ، إذ قد يكون أثر حركة معارضة في توجيه الحالة الإجتماعية أشد و أبقى من تأثير السلطة الحاكمة .
وقد يكون المطلوب إيجاد قوة رسالية ضاغطة باتجاه القيم في مواجهة قوة كافرة تضغط باتجاه الضلال ، وفي هذا الوقت تكون السلطة غير مناسبة لإيجاد تلك القوة .
وقد يخشى أن يولد الإنتصار في غير أوانه فيكون ناقصا ، و يجهض سريعا ، و بتعبير آخر قد يمنع النصر العاجل المحدد نصرا آجلا أرسخ جذورا و أوسع فروعا .
وقد تكون شهادة الرسالي أقوى حجة لسلامة خطه و صحة دعوته من انتصاره ، فتكون هي الغاية السامية له ..
لذلك نجد الامام الحسين - عليه السلام - اندفع للشهادة قائلا :
" خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف " .
ثم ناضل أعداء الرسالة ، حتى إذا قدم كل أنصاره و أهل بيته و حتى طفله الرضيع ، و احتمل جسده عشرات الجراحات ، و خر على الأرض صريعا ، قال :
" إلهي رضا برضاك ، لا معبود سواك "
[78] تلك هي سنة الأنبياء جميعا ، إنهم يتجردون لرسالات ربهم ، و يخلصون لله نياتهم و أعمالهم ، وحتى الآيات التي تنزل عليهم كانت بإذن الله .
[ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ]
ولأنك في خطهم وعلى سبيل الذي مضوا عليه فلابد أن تهتدي بسيرتهم ، و تنظر الى سنة الله فيهم .
[ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ]
جاء في حديث مأثور عن الإمام الرضا - عليه السلام - عن الرسول - صلى الله عليه وآله - : " خلق الله عز وجل مأة الف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي ، أنا أكرمهم على الله ، ولا فخر . و خلق الله عز وجل مأة ألف وصي و أربعة و عشرين ألف وصي ، فعلي أكرمهم على الله و أفضلهم " (1)
و جاء في حديث مأثور عن الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - : " بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته " (2)وكل أولئك الرسل مضوا على هذه السنة ، وهي :
[ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ]
فحتى الآيات التي تشهد على صدق نبوته ليست بإذنه وإنما بإذن الله سبحانه .
[ فإذا جآء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون ]الذين أعرضوا عن رسالة الله و خالفوا رسله ، وهكذا حين فوض الرسل أمورهم الى الله سبحانه أحسن الله تدبيره ، و انتقم بشدة ممن خالفهم ، بعد انقضاء أجلهم .
[79] الآيات الخارقة التي كان المبطلون يزعمون أنهم إنما يؤمنون بالرسالة إذا(1) تفسير نمونه نقلا عن موسوعة بحار الأنوار / ج 11 - ص 30(2) نور الثقلين / ج 4 - ص 537
وقعت ، ليست - في الواقع - مختلفة عن آيات الله المبثوثة فيما حولهم ، إلا أنهم تعودوها فلم تعد تثر فيهم الإعجاب ، و إنهم لو شاؤوا الايمان لكفتهم هذه الآيات شواهد على توحيد الله ، ولكن قلوبهم كانت عليلة ، وهم بحاجة الى استيعاب عبرة الأمم الذين خسروا حينجاءتهم الآيات التي طالبوا الرسل بها .
وهكذا نجد السياق ينذر - من طرف خفي - بمصير أولئك الغابرين كل من لا يفتح أبواب فؤاده لآيات الله في الخليقة .
[ الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ]
فهي ذات الأنعام ولكن الله جعل فيها فوائد عظيمة للبشر فمنها ركوبكم .
[ ومنها تأكلون ]
و المسافة شاسعة بين حاجة الأكل و حاجة الركوب ، فبينما الأكل طعام الإنسان لابد أن يكون متناسبا مع متطلبات جسده و لينا ، و قابلا للقضم و الهضم ، نجد مركبه ينبغي أن يكون قويا و متناسبا و طبيعة الأرض سهلها و حزنها و جبلها و حرتها !
دعنا نقيس السيارات التي اخترعناها لسيرنا ، هل تتشابه و خلق الله ؟ إنها بحاجــة إلى وقود لا يوجد في كل أرض ، بعكس طعام الأنعام النابت من كل أرض توجد فيها ، وهــي بحاجة الى مصانع ، بينما الأنعام تتوالد ، وهي ليست قابلة للأكل بعكس الأنعام .. و أخيــــرا فهي بحاجة الى طرق معبدة ، بينما تسير الأنعام في أشد السبل وعورة . أولا يدل ذلك على حسن تدبير الله لحياة الانسان ؟!
و بالرغم من أن مكاسب الحضارة الحديثة بدورها شاهدة على عظمة الله ، لأنهابالتالي تهدينا الى عظيم خلق الانسان الذي سخر الله له الطبيعة بالعلم و القدرة ، إلا أنها تكشف أيضا عن خبايا الطبيعة المحيطة بنا ، والتي هي خليقة الله ، ومن أحسن منه خلقا و تدبيرا .
[80] وفي الأنعام منافع أخرى في جلودها و أوبارها و أشعارها وحتى في فضلاتها ، و اليوم حيث أغنى الله الانسان بوسائل السير السريعة عن الأنعام لازلنا بحاجة ماسة الى تلك المنافع .
[ ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم ]قالوا : تحمل أثقالكم الى بلاد بعيدة ، و تقضون بها حوائجكم ، و يبدو لي أن في الآية إشارة الى الزينة التي جعلها الله للإنسان في الأنعام ، حيث قال ربنا سبحانه : " ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " .
و معروف العلاقة الحميمة التي تنشأ بين الأنعام و مالكيها بسبب وجود هذه الحاجة في الصدر .
[ وعليها وعلى الفلك تحملون ]
فالله الذي خلق الإبل ليطوي به الانسان المفاوز البعيدة ، هو الذي أجرى سننه في البحر ، و سخر للانسان الفلك ليحمله عبر المحيطات الى البلاد البعيدة .
[81] فهذه آيات الله يستعرضها ربنا في كتاب الخليقة وفي ثنايا كتابه المرسل ، ليعرف نفسه إلينا من خلالها ، حتى لا نكاد نقدر على إنكارها لشدة وضوحها و كثرتها و تنوعها ، فإذا ضل الانسان فإنما يضل على نفسه ، وبعد كمال النعمة و إتمام الحجة .
[ و يريكم ءاياته فأي ءايات الله تنكرون ]
[82] وماذا يغني الإنكار - لو أنكرتم - عنكم شيئا ؟ إن الحجة قد تمت ، و الإنذار قد كان بالغا ، و الانتقام شديد ، ولكم في حياة الغابرين عبرة لا ينبغي تجاوزها ، أولئك أيضا أنكروا اعتمادا على قوتهم و غرور بما لديهم من علم ، و استهزأوا بالحقائق إيغالافي اللهو و اللعب ، فأنظروا كيف كانت عاقبة أمرهم ، فما راعهم إلا و بأس الله على رؤوسهم ، فأعلنوا الإيمان لعله يدفع عنهم قضاء الله ، ولكن هيهات !
[ أفلم يسيروا في الأرض ]
لينظروا مصارع عاد و ثمود و أصحاب الأيكة ، و ليقرأوا على بقايا قلاع بعلبك ، و أهرامات مصر ، و أطلال مدينة بابل ، وما في المدائن و .. و .. تاريخ الظالمين .
بلى . ساروا و قرأوا و حفظت كتب التاريخ ، و متاحف البلاد ، و روايات الناس كثيرا من هذه الحقائق ، ولكن الإعتبار هو المهم .
[ فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ]
وهل أنهم انتهوا لقلة عددهم ، أو ضعف عدتهم ، و محدودية آثارهم بالقياس إليهم ؟ كلا ..
[ كانوا أكثر منهم و أشد قوة و ءاثارا في الأرض ]
لقد عمروا الأرض بإثارة التراب و تغيير ملامحه أكثر مما فعل هؤلاء فما أغنت عنهم القصور الشامخة ، و القلاع المنيعة ، و المنائر الضاربة في السماء .
[ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ]
[83] لقد اعتمدوا على منطق القوة فرفضوا المنطق السليم ، و أرادوا دعم منطقهم بأموالهم و آثارهم في الأرض ، زاعمين أنهم على حق لأنهم الأقوى ظاهرا ، و أن علمهم هو الأفضل لأنهم أكثر عددا و عدة . [ فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ]ولعل معنى الفرح هنا : الإستغناء به عن العلوم الأخرى ، كمن يعتز برأيه ، وهذا يوجب الإنغلاق دون الأفكار الجديدة ، وهذه - في الواقع - عادة الظالمين حيث أنهم يصابون بالتعصب و التقليد حتى لكأن قلوبهم في أكنة ، يخشون من كل جديد ، و ينغلقون دون كل دعوة .
وهذا ليس من حكمة العلماء إنما هي صفة أصحاب القوة ، فالعلم بذاته يدعو إلى التــواضع ، و يهدي صاحبه الى آفاق جهله ، و آماد المعارف التي يجب عليه السعــي إليها ، وقد شبه بعضهم العلم بحلقة في صحراء الجهل كلما اتسعت حدودها كلما لامست مساحات جديدة من هذه الصحراء ، لذلك ترى أحد العلماء يقول عند موته عندما يسأل : ماذا علمت ؟ يقول : علمت بأني لا أعرف شيئا .
بلى . إننا نجد بعض الجهلاء اليوم يفتخرون بعلم العلماء ( لا علمهم هم ) و يرفضون رسالة الله اعتمادا على تقدمهم العلمي ، بينما نجد علماءهم يزدادون تواضعا للحقائق كلما ازدادوا علما .
[ و حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ]
لقد استهزأوا بالحقائق فأهلكتهم ، و اليوم حيث يستبد بالمستكبرين في الأرضغرورو القوة ، و يفرحون بما لديهم من العلم ، و ينغلقون دون دعوات الإصلاح التي يحملها أنصار الرسالة ، و يستهزؤون بالإنذار تلو الإنذار الذي يبلغه أصحاب الرسالة بأن عاقبة هذه الحضارة ليست بأفضل من عاقبة الحضارات المادية السابقة ، و أن الجهل ، و الأنانية ،و الظلم ، و الترف ، و الغفلة ، و سكر الغنى ، و غرور القوة ، و كل الصفات الرذيلة التي انتشرت في الأرض عاقبتها الدمار ، أما بحرب ثالثة لا تبقي ولا تذر ، أو بصاعقة منشأها ارتطام كوكب بكوكبنا ، أو زلزال مدمر كالذي يتنبأ به بعض العلماء فيما يتعلق بغرب أمريكا أو ما أشبه ..
وإذا كان كل ذلك الإنذار يذهب سدى فإننا نخشى من مصير رهيب نسأل الله العلي القدير أن يرحم البشرية ، وأن يهدينا و العالم الى نور الإسلام الحق .
[84] هؤلاء يعرفون الحقائق ، ولكنهم ينكرونها غرورا ، لذلك تراهم يؤمنون بالله عندما ينزل عليهم بأسه .
[ فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين ]من سلطان و مال و ضلال .
إن غرورهم بالقوة و الثروة ، و تعصبهم لضلالاتهم ، يسمى كل ذلك شركا في هذه الآية ، وقد كفروا به ولكن بعد فوات الفرصة .
[85] إن الكفر بالأنداد ، و رفض الآلهة المزيفة ، كان ينبغي أن يسبق البلاء حتى يكون نافعا ، لأن الدنيا دار ابتلاء ، و وقت الإبتلاء ينتهي عند رؤية العذاب .
[ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون ]إن الايمان ينفع قبل حلول البلاء ، تلك سنة لا تتحول فيمن مضى و فيمن يأتي .
|