بينات من الآيات بنور الله الذي يرشه على الأشياء فيجعلها مخلوقات مدبرات بأمره ، بنور الله الذي يفيضه على الانسان فيجلعه خليفته في أرضه ، و يمنحه به العقل و الهدى و المعرفة و المشيئة ، و بنوره الذي يوحيه الى أنبيائه فيجعلهم السرج المنيرة في ديجور الحياة ..
بــذلك الإسم العظيم و النور الباهر يبتدأ الوحي رسالته ، و به نتلو تلك الرسالة .
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]
[1] [ حم ]
مرة أخرى تستقبل أفئدتنا هذه الكلمات المتقطعة التي تستثير عقولنا ، فهل هي أسماء للسورة التي تبدأ بها ؟ أم هي إشارات الى ذات القرآن وهي بمثابة هذه الأحرف أو هذه الكلمات او هي رموز بين الله و الراسخين في العلم من عباده ؟
كل ذلك محتمل ، ولا ضير في أن يكون كل ذلك مراد القرآن ، لأن للقرآن تخوماوعلى تخومه تخوم ، و يبدو أن كلمة " حم " مبتدء أسند إليها قوله تعالى : " تنزيل " ، فيكون المعنى : هذا تنزيل من الله .
[2] تتجلى في كتاب الله الرحمة الإلهية التي تتجلى في خلقه ، تلك الرحمة التي تتسم بالشمول و الإستمرار .
[ تنزيل من الرحمن الرحيم ]
هل استطاع العادون إحصاء رحمات الله ؟ كلا .. و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، فهو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء و أحاطت بكل شيء ، و رحماته مستمرة منذ أن خلقنا من تراب ، ثم من نطفة ، والى أن يوارينا الثرى ، وهي تستمر بالنسبة الى المؤمنين الى الجنة .
أفــلا ينبغي أن نسارع الى هذا الكتاب الذي أنزل من عند ذلكم الرب الرحمن الرحيم ؟ بلى . . أولسنـا بشرا وقد أودع الله فينا حب المحسن إلينا ، و شكر من أنعم علينا ؟ أولا نريد المزيد من الرحمة ؟ دعنا إذا نبادر الى قبول رسالته التي تتسم بالرحمة .
[3] التنوع و الإختلاف سمة بارزة للمخلوقات ، و العلم الحق هو الإحاطة بمعرفة خصائص الأشياء و اختلافاتها و نسبة بعضها الى البعض الآخر .
و حاجات الانسان هي الأخرى شديدة التنوع و عظيمة الأختلاف ، سواء منها النفسية أو الجسمية ، ولكل شيء حد إذا تجاوزه بطل ، وهكذا حاجات البشر ذات مقدار فإذا أسرف فيها أفسد ، وإذا قتر أفسد ، فنحن إذا بحاجة الى خريطة مفصلة لوجود الكائنات و وجود الانسان بينها ، فأين نجدها ؟ أوليس في كتاب ربنا الحكيم ؟ بلى .
[ كتاب فصلت ءاياته ]
إنه كتاب ( ثابت ) ، و إنه مفصل قد أحكمت آياته و تشابهت و تناسقت ، لا تجد فيها عوجا و لا ثغرة ولا اختلاف ، وهذا بذاته شاهد على صدقه ، فكل آياته تنبعث من التوحيد الخالص ، و تدعو الى الحق و العدل و الجزاء .
و الكتاب قرآن عربي جاء بهذه اللغة الفريدة التي سمت على كل اللغات في إعرابها عن نوايا المتحدث بكل دقة و بلاغة .
[ قرءانا عربيا ]
وإنه لشرف عظيم لهذه اللغة و للناطقين بها عبر التاريخ أن وحي الله قد امتطى متنها ، ولعلنا نستوحي من هذه الإشارة : أن شرف العروبة باللغة ، ولذلك فكل من تحدث بها و اعتنق المبادئ السامية التي جاء بها الذكر فهو عربي ، وإنما تتفاوت عروبة الناس بمدى التزامهم بتلك المبادئ ، وأكرم الناس جميعا أتقاهم .
[ لقوم يعلمون ]
القرآن كتاب علم و لا يبلغ آماده إلا العلماء ، وإذا قصر عن وعيه إنسان فلنقص في معارفه ..
و كلما تقدم علم البشرية كلما اقتربوا من محتوى القرآن وعرفوا عظمته ، إلا أن ركب الانسانية يسير قدما نحو التكامل و يبقى القرآن أمامه أبدا ، كالشمس ضوؤها قريب و الوصول اليها مستحيل .
وهذا الاستفتاح يتناسب و الحقائق العلمية التي تشير اليها هذه السورة لكي لا تنكر بعضها عندما نجهل أبعادها ، فليس من خصائص الانسان العاقل أن ينكرمالا يعرفه ، بل يسعى من أجل معرفته .
[4] والى جانب أنه كتاب علم ، فهو كتاب حكمة ، تنفذ بصائره في الفؤاد ، و تستثير عقل الإنسان من سباته ، و تنهض إرادته ، و تشحذ عزائمه ، و تربيه و تزكيه ، كل ذلك بما يحتوي من بشارة و إنذار .
[ بشيرا و نذيرا ]
ولا يدع الكتاب نافذة على القلب إلا و ينفذ منها ، ولا وترا حساسا إلا و يغرب عليه . إنـــه يرغبهم في ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة بألوان من الترغيب لاتكاد تحصى ، كما و ينذرهم بألوان من عذاب الدنيا و عذاب الآخرة .
ولكن هل يعني ذلك أن القرآن يؤثر في كل الناس؟ إذا بطلت حكمة الإبتلاء . ولا يصبح الناس جميعا على هدى .
[ فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ]
لقد أعرضوا عن ذكرهم ، ولم تشأ حكمة الرب إكراههم ، فهم لا يسمعون الموعظة ولو سمعوها حقا لاهتدوا إذ لا نقص أبدا من جانب القرآن ، بل قد وفر الله وسائل الهداية ، ولكن ما ذنب الشمس لو كان الإنسان أعمى .
[5] وكـــان من ملامح إعراضهم أنهم زعموا أن قلوبهم موضوعة في أوعية مغلقة ، فهي لا تستجيب للحقائق الجديدة ، وأن بينهم و بين الرسول حجابا لا يمكنهم رؤية الرسول من ورائه .
[ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ]
لقد عقدوا عزمات قلوبهم على الكفر بما جاء به الرسول ، و التعصب الأعمى لماكان عليه آباؤهم ، فزعموا أن هناك سواتر و أغطية عديدة تلف أفئدتهم عن الدعوة الجديدة ، بلى . الغفلة و الجهل و الكبر و العناد كلها أكنة على قلوبهم ، فكيف تخترقها الرسالة ؟!
ثم قالوا : وحتى ولو كانت قلوبنا سليمة فإن آذاننا لا تسمع لما فيها من ثقل ، و أبصارنا لا ترى و جوارحنا لا تحس لأن المسافة التي بيننا و بينك قد سدت بالحجاب .
[ وفي ءاذاننا وقر ومن بيننا و بينك حجاب ]
فمن أعرض قلبه ثقل سمعه عن استقبال الدعوة ، كما علت عينه غشاوة .
ثم كشفوا عن غاية تعصبهم و شدة جمودهم إذ قالوا :
[ فأعمل إننا عاملون ]
فلم يطيقوا الحوار فقطعوه ، وقالوا : إعمل أنت بما ترى ، و نعمل بما نعتقد ، و المستقبل يحكم بيننا وبينك ، وإذا كنت تخطط للمواجهة فنحن مستعدون !!
هكذا أعرضوا عن الذكر ، فهل يلام على ضلالتهم غيرهم ؟
[6] في مواجهة الدعوات الصادقة يلتجئ المتعصبون الى مكر شيطاني ، وذلك بأن يخلطوا بين الدعوة وبين صاحبها فيتهموه بحب السلطان أو الجاه وما أشبه ، ومن هنا كان من أقوى الحجج التي اعتمدها الرسل - عليهم السلام - التجرد للرسالة عن شخصياتهم ، وأنهم لا يطالبون الناس بأجر ( اللهم إلا ما يكون لهم ) و انهم لا يبحثون عن جاه أو سلطة أو ثروة ، وأنهم لا يدعون التميز عليهم إلا بالوحي .
[ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ]
وأن دعوتهم خالصة لله ، وأنهم يسلمون أمرهم لذلك الرب الواحد الذي يدعون الناس للتسليم له ..
[ أنما إلهكم إله واحد ]
وهذه هي الميزة الأساسية لرسالات الله عن كل دعوات الباطل ، أن تلك الدعوات تسعى لإخراج الناس من ظلام الى ظلام ، و من عبودية الى عبودية ، ومن غل الى غل آخر ، بينما رسالات الله تدعو الى النور ، الى الحرية ، اى فك الأغلال جميعا .
ولولا حجاب الجهل و العصبية و العناد فإن نور الصدق يتجلى في دعوات الأنبياء ومن اتبع نهجهم .
[ فاستقيموا إليه ]
وهذه ميزة أساسية ثانية : إن دعوات الباطل تجر أصحابها من انحراف الى انحراف ومن ظلم الى ظلم ومن إسراف الى تقتير ومن إفراط الى تفريط ، بينما رسالات الله تدعو الانسان الى الحكمة و الإعتدال و الإستقامة ، في طريق الله .
وبما أن الإستقامة الى الله تعني مقاومة شهوات النفس ، و ضغط المجتمع ، و سلبيات الماضي ، وإرهاب الطغاة ، فان البقاء عليها يشبه المستحيل ، أولم يقل رسول الله (ص) شيبتني سورة هود ، لأن فيها آية الاستقامة ، ولذلك أمرنا الله بعد الإستقامة بالإستغفار ، كما أشار في سورة هود الى مثل ذلك حيث قال : " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك " .
[ و استغفروه ]
فكلما دفعتك أعاصير الضغوط ذات اليمين و ذات الشمال عد الى طريقك المستقيم ، فإن على أطراف طريق الجنة حفر النيران فلا تسترسل مع الرياح الى نهايتها المريعة .
[ و ويل للمشركين ]
وهم الذين انجرفوا مع رياح الضغط حتى وقعوا في حفر الشرك فلحقهم الويل ، و نستوحي من الآية أن من لم يستغفر ربه بعد الإنحراف عن خط الإستقامة ينتهي به المطاف الى الشرك و الكفر ، كما قال ربنا في آية أخرى : " ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوئى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزؤون " .
[7] وقد يكون الانسان مشركا دون أن يعرف ، لاعتقاد أكثر الناس أن مجرد الشهادة بالتوحيد لفظيا تكفي علامة على الايمان ، بلى . إنه كاف في مجال التعامل الإجتماعي إذ يحسب من المسلمين ظاهرا ، و تحل ذبيحته ، و يجوز مصاهرته ولكن لا يكفي عند الله الذي يعلمخائنة الأعين وما تخفي الصدور .
إن الايمان وقر في القلب ، وأثر على السلوك و ممارسة للطقوس .. ومن أبرز علائمه الزكاة و الايمان بالآخرة ، فمن منع زكاة ماله و اعتبره مغرما و ارتاب في الآخرة فهو مشرك حتى ولو لهج لسانه بالتوحيد .
[ الذين لا يؤتون الزكاة ]
أي زكاة هذه ؟ هل هي النصاب المعروف أم مطلق الإنفاق في سبيل الله ؟ يبدو أن الثاني أقرب باعتبار الآية مكية .
[ وهم بالأخرة هم كافرون ]
فلولا كفرهم بالآخرة لما منعوا زكاة أموالهم . جاء في الأثر المروي عن الإمام الصادق (ع) أن النبي (ص) أوصى عليا (ع) فقال ضمن وصية :
" يا علـي كفر بالله العظيم مــن هذه الأمة عشــرة ( و عد منه مانع الزكاة ، ثم قال : ) من منع قيراطا من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة ، يا علي : تارك الزكاة يسأل الله الرجعة الى الدنيا ، وذلك قوله عز وجل : " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون " " (1)
[8] أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإنهم ينفقون زكاة أموالهم طلبا لأجر الله الذي لا ينقطع .
[ إن الذين ءامنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ]و يبقى سؤال أخير : ما هو صراط الله الذي يجب أن نستقيم عليه ؟
إنه يتمثل في كتاب الله الذي أوحي الى الرسول (ص) فيكون الشرك هو مخالفة كتاب الله المتمثلة في مخالفة الرسول .
و مخالفة الرسول تعني اليوم مخالفة القيادة الشرعية التي تدعو الى الله و تنفذ كتابه ، هذا ما نقرأه في تفسير أهل البيت لهذه الآيات . (2)(1) تفسير نمونه / ج 20 - ص 219 نقلا عن وسائل الشيعة / ج 6 ص 18 - 19 .
(2) راجع نور الثقلين / ج 4 - ص 539 نقلا عن الامام الصادق (ع) في حديث مفصل .
|