بينات من الآيات [9] قد يأتي على انسان عشرات السنين ينشغل فيها عن كبريات الحقائق التي تحيط به بأتفه الأشياء ، فيرى الأرض بما فيها من آيات عظيمة ، ولكنه لا يتساءل : كيف خلقت ، وكيف سطحت ، كيف قدر فيها أقواتها ، و تهيأت لاستقبال الحياة هذه النعمة الكبيرة و السر العظيم ؟
و يأتي القرآن يذكرنا بأمنا الأرض ، و يشير الى سنن الله فيها ، وأنه خلقها في يومين ، لعلنا نهتدي الى رب القدرة .
[ قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين و تجعلونله أنداد ذلك رب العالمين ]
من خلال السياق نستوحي عظمة الأرض لعلنا نهتدي الى عظمة الخالق الذي خلقها فقط في يومين ، و هكذا نعرف مدى خطورة الكفر بربنا العظيم !!
ولكن تتوارد التساؤلات الواحد بعد الآخر حول هذه الآية : كيف تم الخلق ؟ وما هما اليومان اللذان خلقت الأرض فيهما ؟ ولماذا التأكيد عليهما ؟
أولا : تقول بعض النظريات الحديثة : إن الأرض انفصلت عن الشمس قبل حوالي ألفي مليون عام ، فهل هذا هو معنى خلق الأرض في يومين ؟ أم معنى خلقها تهيئتها بصورتها التي استعدت لاستقابل شروط الحياة ، فقد مرت مدة طويلة حتى بردت الأرض و تصلب قشرها بعد أن كانتكرة ملتهبة مثلما هي اليوم باطنها حيث لازالت المواد تنصهر هناك في حرارة شديدة .
وجاء في حديث مأثور عن الامام أمير المؤمنين (ع) فيما يتصل بخلقة الأرض :
" كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ، و لجج بحار زاخرة ، تلتطم أواذي أمواجها ، و تصطفق متقاذفات أثباجها ، و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها ، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، و سكن هيج ارتمائه إذ وطأته بكلكلها ، و ذل مستخذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها ، فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجيا مقهورا ، وفي حكمة الذل منقادا أسيرا ، و سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره ، و ردت من نخوة بأوه و اعتلائه ، و شموخ أنفه ، و سمو غلوائه " (1)و يبدو أن حديث الامام يتصل بمرحلة واحدة من أطوار الأرض ، وكيف هيأها الرب لسكن الأحياء ، حيث مرت الأرض بأطوار عديدة تشير إليها سائر النصوص(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 57 - ص 111
المأثورة كما توضحها النظريات الحديثة .
ثانيا : وما هما اليومان اللذان مرت بهما الأرض ؟ لقد اختلف المفسرون في ذلك اختلافا كبيرا حيث أنهم قالوا : إذا كان تقدير اليوم بحركة الأرض فكيف نتصور اليوم قبل وجودها ؟ فقال البعض : إن المراد منها الأوقات ، كما قال سبحانه : " ومن يولهم يومئذ دبره " (1) أي حينئذ أو وقتئذ ، وقال بعضهم : إن المناط في تقدير الأيام إنما هو بحركة الأفلاك التي كانت قبل خلقة الأرض ، وقال ثالث : ما يكون بقدر الأيام في فرض وجودها ، و قال الرازي : المراد بالايام الأحوال المختلفة .. (2)و يبدو هذا التفسير أقرب ، ذلك لأن أقرب المعاني لليوم هنا برهة من الوقت وحين من الدهر ، وما نتصوره من اختلاف وقت عن وقت وحين عن حين هو اختلاف الأحوال ، فمثلا نحن نميز بين اليوم الأول من الربيع عن اليوم الثاني منه ، بفاصل الطلوع و الغروب بينهما ، كذلك كانت هنالك فواصل معينة بين الوقت الأول و الوقت الثاني ( أو إن شئت قلت اليوم الأول و اليوم الثاني ) بتطور الأحوال .
وفي القرآن يصرح بهذا التطور حيث خلق الله الكائنات بصورة ماء فكان عرشه عليه ، ثم خلقها دخانا ، ثم خلق السماوات و الأرض ، ولابد أن مرت دهور متطاولة بين مرحلة و مرحلة حتى اليوم ، كم مرة هذه الدهور بقياساتنا المحدودة ؟ حتى الآن لا نمتلك نظريات حاسمة في هذا الحقل ، بالرغم من أن بعض العلماء يقدر ذلك بخمسة عشر مليار عام مرت من بداية ما يزعم انفجارا هائلا و موجها حدث في هذا الكون ، و تمددت المادة الأولية المخلوقة في صورة مجرات ..
(1) الأنفال / 16
(2) نقلنا ذلك باختصار عن موسوعة البحار / ج 54 ص 6 - 10ومن أطرف ما قرأته حول هذه المدة في النصوص ما جاء في حديث مأثور عن الامام أمير المؤمنين (ع) بعد أن سأله رجل قائلا : فكم مقدار ما لبث الله عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض و السماء ؟ فأجاب : أتحسن أن تحسب ؟ قال : نعم ، قال : لعلك لا تحسن ! ، قال: بلى ، إني لأحسن أن أحسب ، قال علي (ع) :
" أفرأيت لو كان صب خردل في الأرض [ حتى ] سد الهواء وما بين الأرض و السماء ، ثم أذن لمثلك على ضعفك أن تنقله حبة حبة من مقدار المشرق الى المغرب ، ثم مد في عمرك ، و أعطيت القوة على ذلك حتى تنقله ، و أحصيته ، لكان ذلك أيسر من إحساء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض و السماء ، و إنما وصفت لك ببعض عشر عشير العشير، من جزء مائة ألف جزء ، و أستغفر الله من القليل في التحديد " (1)ولعل أيام خلق الأرض و السماء ، و توفير فرص الحياة على الأرض ، هي التي أشارت إليها آيات الذكر من :
1- خلقة الماء ، حيث كان عرش القدرة مستويا عليه ، و لعله كان أصل الكائنات مادة تشبه الماء .
2- خلقة الدخان ، و لعله الحالة السديمية في الكائنات .
3 - تكون المجرات و الشموس و الكرات الأخرى ، و انفصال الأرض عن الشمس .
4 - حالة دحو الأرض و تصلب قشرتها ، حيث نجد إشارة الى ذلك في آي الذكر كثيرا .
(1) المصدر / ص 233
5 - حالة توفر عوامل الحياة عليها من ماء و هواء و مواد ضرورية أخرى .
ثالثا : و يبقى السؤال : ماهي الحكمة التي نستفيدها من بيان هذه الحقيقة ؟
و الجواب :
ألف : بيان قدرة الله و عظمته المتجلية في تكوين الخلائق و تطويرها مرحلة بعد مرحلة و تدبير أمورها في كل مرحة ، حتى انتهى المطاف بها الى صورتها الحالية ، وهي لا تزال تسير في ركب التطور الى حيث يشاء الله ، وهنا نجد إشارة الى هذه الحكمة حيث يذكرنا الرببقدرته بعد بيان خلق السماء في يومين .
حقا : إننا حين نتصور الكائنات تتقلب في كف القدرة الالهية تلك الدهور المتطاولة التي لا يعلمها الا الله سبحانه ، و نتصور - مثلا - ذلك الإنفجار المهيب الذي يرى بعض العلماء أنه وقع في الكون قبل (15) مليار عام ولا تزال أصداؤه تدوي في جنبات العالم الرحيب بالرغم من هذه الدهور المتطاولة ، لابد ان تتضاءل نفوسنا أمام قدرة الرب ، و ندع التكبر و الغرور و المعاصي ، و جدير بنا أن نقرأ خطب الإمام أمير المؤمنين (ع) التي تصف الكائنات و تطوراتها ، و تعظ الناس بالتواضع و اجتناب الكبر و المعاصي .
باء : لعلنا نستوحي من خلقة الله الخلائق في الزمن أن انقضاء الأجل و تقدم المدة و صيرورة التكون من حقيقة الكائنات المحدثة ، ذلك أن اول الشواهد و أبلغ الحجج على أولية الخالــق زوال الكائنات وعلى قدمه حدوثها ، وعلى حدوثها صيرورتها و تقلباتها ، و اكتمالنا بعد النقص ، و انتقاصها بعد الكمال .
جاء في الحديث عن الإمام علي (ع) :
" الحمد لله الدال على وجوده بخلقه ، و بحدث خلقه على أزليته " (1) .
و بتعبير آخر : إن الزمن جزء من حقيقة الأشياء ، و إن هذا آخر بما توصل إليه علماء الفيزياء ابتداءا من كبيرهم إنشتاين .
إن بركات الله و رحماته مستديمة على الكائنات فهي تنتقل من طور الى طور أفضل بفضل الله فتتكامل ، ولكنها قد تنتكس الى الأسفل إن هي تجبرت و تكبرت ، و لعل هذه هي البصيرة في التكامـــل و التطور ، و نستوحيها من قوله سبحانه في سورة الأعراف : " إن ربكمالله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين " (2)فقد ختمت الآية باسم " تبارك " بعد بيان خلقة الكائنات في ستة أيام ، مما بصرنا بالتكامل الذي تفضل الله به على الخلائق ببركته و خيره العميم المستمر .
وفي سياق هذه الآيات نجد قوله تعالى : " وبارك فيها " .
جيم : وإن علينا أن نعيش وعي الزمن في تقييمنا لما في الكون ليكون تقييما سليما ، فمن لم يضع في حساباته ( الزمن ) يتكاسل دون أن يعرف أن عمره هو هذا الزمن الذي يستهين به ، ولا يرى إلا ما يجري أمامه فيصاب بالعجلة و الجزع ، و لا تحركه النتائج البعيدة ،فهو يزداد نشاطا إذا أوتي جزاؤه الحسن عاجلا ، و يخمل كلما ابتعد زمن الجزاء .
ولعل وعي الزمن واحد من الغايات التربوية السامية في كثير من آي الذكر ،(1) موسوعة البحار / ج 54 - ص 27
(2) الأعراف / 54
ولقد ذكرنا بذلك مكررا .
[10] لقد وفر الله شروط الحياة في الأرض ، و أولها استقرار الأرض بالجبال الراسيات ، التي تتصل ببعضها و تمنع الميلان ، الناشئ من الرياح الهوج أو الغازات المتجمعة في مركز الأرض والتي تسبب الزلازل .
[ و جعل فيها رواسي من فوقها ]
يقول العلماء : إن كل حدث يحدث في الأرض في سطحها أو فيما دون سطحها يكون من أثره انتقال مادة من مكان الى مكان يؤثر في سرعة دورانها ، فليس المد و الجزر هو العامل الوحيد في ذلك ، حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية الى ناحية تؤثر في سرعة الدوران ،وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران ، و سقوط في قاع البحار ، أو بروز في سطح الأرض هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران ، ومما يؤثر في سرعة الدوران أن تتمدد الأرض أن تنكمش بسبب ما ، ولو انكماشا أو تمددا طفيفا لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام . (1)
وهذه الحساسية البالغة بحاجة الى أثقال تحافظ على الأرض ، سواء من تأثير الهواء المحيط بها أو الغازات المحتبسة فيها لكي لا يختل توازنها .
و المعروف ان الجبال هي النتوءات الظاهرة للقشرة الصخرية التي تحيط بكرة الأرض ، وكأنها درع حديدي برز بعض جوانبه بينما تبقى سائر جوانبه غائرة في الماء أو مدفونة بالتراب .
هكذا أشار الامام علي (ع) الى هذه الآية الإلهية حين قال :
(1) في ظلال القرآن / ص 3113 نقلا عن كتاب " مع الله في السماء " .
" و عدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها (1) ، و ذوات الشناخيب الشم (2) ، من صياخيدها (3) ، فسكنت من الميلان ، برسوب الجبال في قطع أديمها و تغلغلها ، متسربة في جوبات خياشيمها ، و ركوبها أعناق سهول الأرض و جراثيمها " (4) .
[ و بارك فيها ]
لقد خلق الله الأرض طورا بعد طور ، حتى تكاملت و تهيأت لاستقبال الحياة ، فبعد أن تصلبت قشرة الأرض خلق الله فيها الماء من اتحاد الأيدروجين بنسبة 2 و الأكسجين بنسبة 1 ثم تعاون الماء و الهواء في تفتيت الصخور و تشتيتها حتى صارت تربة صالحة للزراعة و البناء ، كما تعاونا على نحر الجبال و النجاد و ملء الوهاد فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا إثر الهدم و البناء . (5)و مرت العصور المختلفة ، وفي كل يوم بل كل لحظة تتطور الكرة الأرضية أكثر فأكثر بـإذن الله ، و يبارك فيها ، فحينا بالثلوج التي غطت وجه البسيطة ، و حينا بالطوفان ، وآخر بالأعاصير ، و رابع بالشروق المستمر للشمس ، وكذلك بتلقي أشعة تنطلق من النجوم البعيدة ، و بألوان العوامل الأخرى .. و خلال ملايين السنين بارك الله في الأرض .
[ و قدر فيها أقواتها ]
ومن مصاديق البركة الأقوات التي قدرها الرب في الأرض ، حيث أودع التربة(1) الجلاميد : الصخور .
(2) الشناخيب الشم : القمم المرتفعة .
(3) الصياخيد : الصخور الشديدة .
(4) موسوعة بحار الأنوار / ج 54 - ص 112 .
(5) نقلا عن كتاب : مع الله في السماء " .
المواد الكيماوية النافعة للزراعة ، كما خزن في الجبال المعادن المختلفة من الحديد و الذهب و الفضة و أنواع الأحجار الكريمة و الصخور المفيدة ، كما خلق في أعماق الأرض بحيرات النفط و الغاز ، كما أودع فيما حول الأرض حاجتنا من الهواء الذي نتنفس من أوكسيجينه ،و يتغذى النبات من كربونه ، ومن أكسيد كربونه ، كما ضمنه النتروجين الذي يخفف من وطأة الأوكسجين ، و أجرى فيه تيارات رطبة لتلطيف الجو .. و أرسل الرياح في الجو مبشرات برحمته ، حيث تحتمل السحب المتراكمة الى الأراضي المتباعدة ليسقيها الرب حاجتها من الماء .
[ في أربعة أيام ]
قالوا : معناه يومان لخلقة الأرض و يومان لتوفير الأقوات فيها ، و يحتمل أن تكون خلقة الأرض قد تمت في يومين ، وقد تمت خلقة السماء و تهيئة الأرض في يومين بالتزامن ، ثم استمرت عملية تمهيد الأرض ليومين آخرين ، فيكون المجموع ستة أيام ، حيث أن الآيات القرآنية صريحة في أن خلقة السماوات و الأرض قد تمت في ستة أيام ، والله العالم .
وهنا وقفة اعتبار ، لقد خلق الأرض على عظمتها في يومين فقط ، بينما قدر فيها أقواتها في أربعة أيام . أفلا يدل ذلك على أن نعمة تهيئة الأرض للحياة أعظم من نعمة خلقها ، بلى . فقد اكتشف العلماء مزيدا من الأجرام السماوية ، ولكن حتى هذه اللحظة لم يكتشفوا شيئا من آثار الحياة فيها ، مما يهدينا الى عظمة النعم التي أسبغها الرب لأهل الأرض حتى تهيأت لحياتهم . أفلا نشكره سبحانه ؟!
[ سوآء للسائلين ]
فكل المحتاجين الى الأقوات يتساوون في الحصول عليها ، لأنها متوفرة في كلمكان ، فليس الهواء و الأرض و المعادن قليلة حتى يستأثر بها قوم دون آخرين ، بل الناس فيها شرع سواء .
كما أن معرفة هذه الحقيقة متوفرة لكل السائلين .
و يحتمل أن يكون التساوي في الأيام التي هي الدورات التي مرت بالأرض ، والله العالم .
|