بينات من الآيات [11] بعد أن خلق مادة الأرض قبل دحوها أو بعدها قصد ربنا المقتدر بمشيئته
النافذة الى السماء ، و كانت آنئذ مجرد دخان ، و فرض عليها طاعته ، فاستجابت .
[ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ]
أ / و تساءل المفسرون : لماذا استخدم حرف " ثم " وهو للتعقيب و التراخي ، فهل تم خلق السماء بعد الأرض ، بينما النظريات العلمية ترى العكس ، و يقول ربنا في سورة النازعات : " ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، رفع سمكها فسواها ، و أغطش ليلها و أخرج ضحاها ، و الأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها و مرعاها " . (1)أجــاب البعض : إن ثم للتعقيب البياني ، أي ثم أسمع قصة السماء وهي كيت و كيت .
وقال البعض : إن الله خلق الأرض أولا و خلق السماء ثانيا ، ولكنه إنما دحا الأرض بعد خلق السماء ، كما تدل الآية في سورة النازعات ، وعلى ذلك تدل أيضا بعض النصوص الإسلامية .
و يبدو لي أن المراد من " السماء " هنا الهواء المحيط بالكوكب وليست الأجرام الموجودة في السماء .. " وهي دخان " ذات طبقات سبع ، ولكل طبقة أمرها ، وعلى ذلك فيكون خلقها بعد خلق الارض ، ويكون معنى قوله سبحانه في الآية التالية : " و زينا السماء بمصابيح و حفظا " أن الله جعل السواد المحيط بالكرة الأرضية بطريقة نرى النجوم التي خلقها في صورة مصابيح ، كما جعلها حفظا بما خلق فيها من غازات خاصة .
(1) النازعات / 27 - 31
ب / و تســـاءلوا : ماذا يعني " استوى " فقالوا : إن ربنا قصد و توجه الى السماء ، و يبدو لي أن كلمة الإستواء تعني معنى القيام و الإهتمام و القصد ( بإضافة معنى الى ) و الهيمنة ، وكلها مرادة في هذه الجملة ، ولكن بالطبع من ملاحظة استخدام الكلمة في مقام الربوبية المقدس عن أية همهمة أو تجوال فكرة أو حركة ، سبحانه .
ج / ثم تساءلوا عن الدخان فقالوا : إنه غازات ، وإذا قلنا بأن المراد من الآية كل ما في السماء ، فان الآية تشير الى المرحلة السديمية السابقة لتكون الأجرام الفضائية ، حيث تجمعت و تركزت بعد ذلك في صورة نجوم ، ولا تزال كميات كبيرة منها منتشرة في الفضاءيقدرها الخبراء بمثل الكمية التي خلقت منها النجوم ، ولا تزال النجوم تكنس الفضاء من هذه الجزيئات السديمية باجتذابها إليها ، ولكنها أكثر بكثير من قدرتها على الجذب !!
[ فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ]ولماذا لا تستجيب السماء و الأرض لمشيئة الله الذي خلقهما بفضله ، و أودع فيهما آياته ، و جعلهما محلا لعبادة المكرمين من ملائكته و أرواح أوليائه ، بلى .. إنهما و سائر الكائنات تستجيب للرب طواعية ، سعيا وراء مرضاته ، و امتنانا لرحماته ، و شكرا لبركاته، قبل ان تستجيب له خشية غضبه ، و مخافة سطواته ، وقد يقول : تجلي رحمة الله في الخلائق أبهى من تجلي عزته ، وقد سبقت رحمته غضبه ، سبحان الله رب العالمين .
ولعل الآية تشير الى أن ربنا كان يجري سننه في الخليقة شاءت أم رفضت ، ولكنها خشعت لأوامر الله طوعا لا كرها !! فجرت سننه فيها بلا إكراه .. و يا ليتنا وعينا عبرة هذه الحقيقة ، و أجرينا أحكام الله على أنفسنا طوعا و رغبة في مرضاة الله .
و نتساءل : هل كان للسماء و الأرض شعور حتى يخاطبهما الرب بهذه الصورة ؟ ينفي البعض ذلك بشدة ، و يأولون كل الآيات التي توحي بذلك الى خطاب الحال ، مثلا في هذه الآية يقولون : المعنى : أمرهما بالتشكل فامتثلتا طائعتين ، و يبقى سؤال : ماذا كان إذا الخيارالآخر أي ان تأتيا كرها ؟ أفلا يدل التقسيم الى اختلاف طرفيه ، فهناك حركة طوعية و أخـرى كرهية ، لم أجد من يجيب عن هذا النقاش ، ولكن باب التأويل لديهم واسع ، بيد أن الأقرب حمل الآيـــات التي توحي بإحساس الخلائق على ظاهرها أو صريحها ، لأن ما يدعونا الى تأويلها مجرد استبعاد ، فلأننا لا نعرف كيف تم خطاب الله للأرض و السماء نقول لم يتم هذا الخطاب أبدا ، وأما ذلك اسلوب بلاغي في القرآن ، ولأننا لا نفهم كيف تسبح السماوات و الأرض ، نقول : إن أهلها هم الذين يسبحون ، و لأننا لا نعي كيف عرض الله أمانته على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و اشفقن منها ، قلنا كلا .. إنه كان مجرد افتراض .
إن عشرات الآيات القرآنية و اضعافا منها من الأحاديث المأثورة عن المعصومين - عليهم السلام - ظاهرة أو صريحة في وجود الشعور - بقدر ما - لسائر الخليقة ، يتجلى في يوم القيامة عندما يستنطقها الله ، فهل يجوز أن نضرب بها عرض الجدار لمجرد أننا لا نعرف كيف ذلك ؟ إن من الجهل أن ننكر شيئا لأننا لم نحط علما بتفاصيله ، ومن العقل أن نؤمن به ثم نبحث عن تفاصيله بروح إيجابية .
بلى . إننا كبشر لا يمكننا بالوسائل المتاحة لنا أن ندرس الأحياء و الاشياء من باطنها ، بل من خلال الظواهر التي تهدينا الى واقعها وحتى فيما بيننا كبشر هل يستطيع زيد أن يدرس نفسية عمر كما يدرس هو نفسيته ؟ كلا .. إنما الظواهر تدل عليها ، وإذا اتبعنا هذا المنهج لعلنا نبلغ الواقع .. فما هو الشعور ؟ وماهي الظواهر التي تدل عليه ؟ يبدو أن الشعور هو الجهاز المنسق بين الشيء و المحيط الذي هو فيه ،فنحن نملك هذا الجهاز بفضل الحواس التي تنقل الى المخ الإشارة عبر الإعصاب ، وهناك تقوم مجموعة أجهزة الدماغ بتحليل الإشارات و إصدار الأوامر المناسبة بشأنها ، ولا ريب من وجود مثل هذا الجهاز - ولو كان غير متطور - عند سائر الأحياء ، بل وفي النباتات التي تنسق وضعها - بصورة و بأخرى - مع بيئتها بفضل نواتها المركزية ، بلى . نحن لم نكتشف مثل هذا الجهاز عند الجمادات ، ولكن يحق لنا أن نتساءل عنه بعد علمنا بوجود قدر كاف من التنسيق بين جميع الكائنات ، ولو افترضنا قوة الجاذبية - مثلا - إحدى ظواهر هذا الجهاز لم نجاف الحقيقة .
[12] و يمضي السياق يبين قدرة الله المتجلية في هذا الخلق العظيم ، لقد خشعت له السماوات و الأرض و جائتا اليه طائعتين ، فقدر و قضى أن تكون السماوات سبعا بحكمته البالغة و بمشيئته التي لا ترد ، فاستجابت السماوات الهائلة بلا تردد ، و أضحت سبعا خلال المدة التي قررها الرب لها ، وهي يومان أو دورتان .
[ فقضاهن سبع سماوات ]
ماهي هذه السماوات السبع ؟ هل هي طبقات سبع حول أرضنا تشكل السماء المحيطة بنا ؟ أم هي سبع مجاميع من المجرات ، و المجرة الواحدة كالتي نحن فيها المسماة بسكة التبان يبلغ قطرها مأة ألف مليون سنة ضوئية ؟ أم كل ما في المجرات التي نعرف عنها من شموس و أجرامتقع في السماء الأولى ، وإن لله سماوات أخرى غيرها فيها مالا يعلمها إلا الله من كائنات عظيمة ؟
وعلى أي تفسير فإن قضاء الله جرى خلال يومين ، أو حسب تفسير سابق دورتين ، لا أعرف عنهما شيئا .
[ في يومين و أوحى في كل سمآء أمرها ]
يبدو أن امر كل سماء قيادتها و نظامها وما يتعلق بها من شؤون التدبير أن كل تلك قائمة فيها كما لو كانت وحدة إدارية ، ولعل من أمرها ملائكة الله التي فيها .
[ و زينا السمآء الدنيا بمصابيح ]
ماهي هذه السماء الدنيا ؟ فإذا كانت السماء المحيطة بالأرض فإن زينتها بسبب طريقة تموج النور فيها ، حيث لا ترى النجوم خارج الفضاء المحيط بهـــذه الصورة الجميلة ، ولكن القول المعروف عند المفسرين أن السماء الدنيا هي جانب من الفضاء الأرحب ، وعلى ذلك نستوحي أن كل النجوم التي ترى تسبح ضمن السماء الدنيا ، وأن هناك سماوات لا نرى أجرامها .
[ و حفظا ]
فالغازات المحيطة بالأرض تحفظ الأرض من ملايين الشهب التي تتساقط عليها كل يوم ، كما أن الله يحفظ الأرض بالمصابيح من الشياطين .
[ ذلك تقدير العزيز العليم ]
تعالـوا لننظر الى لطف صنع الله ، و حسن تدبيره ، و جمال خلقه ، و بديع تقديره . أفلا يهدينا كل ذلك الى عزته و عظمة قدرته في الخلق و التدبير ؟! أفلا يهدينا الى أنه العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء ؟ وأي قدرة وأي علم لربنا الذي سخر الشمس التي هي أكبر من أرضنا بمليون مرة في مدارها المحدد دون ان تفسق عن مسارها قيد شعرة ؟! وأي قدرة و علم لربنا الذي أجرى في قلب الذرة المتناهية في الصغر سننه النافذة التي لا تغيير فيها ؟!!!
|