فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[13] إن ذلك العذاب الإلهي الذي نزل على قوم عاد و ثمود فساء صباحهم يمكن أن ينزل على اي قوم كافر ، إذ لم ينزل على الأمم صدفة بل ضمن سنة إلهية ، وكذلك كل ما يعتبره الناس صدفة . إن عثرة الرجل في الطريق ، أو انتشار مكروب في جسم أحد الأشخاص دون صاحبه ،و حوادث السير و الزلازل و البراكين و السيول و الحروب وما الى ذلك ، قد يتصور الانسان أنها مجرد صدفة ، بينما ليس في هذا الكون بأكمله شيء بلا سبـــب ، بلى . هناك حوادث نعرف أسبابها و قوانينها ، و أخرى لا نعرف فنرميها بالصدفة .

ونحن بصفتنا مؤمنين نعتقد بأن كل حادثة كبيرة أو صغيرة ، تجري ضمن سنة إلهية ، ولهذا نعتقد أن الصدقة تدفع البلاء ، و أن الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما ،وأن صلة الرحم تزيد في العمر ، و أن الإحسان يرفع البلاء ، كما و نعتقد أن من يمارس الأعمال الشريرة يصاب بتلك الحوادث التي نسميها صدفا ، وماهي بصدف ، وقد قال ربنا : " و خلق كل شيء فقدره تقديرا " (1)لذلك أخبرنا الرب بأن إعراض العرب - لو تم - يوم دعاهم الرسول الى القرآن لا يختلف عن إعراض عاد و ثمود ، فإن العاقبة واحدة لأن السنة الإلهية واحدة .

[ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود ]إن العرب ينقسمون الى ثلاث طوائف : العرب العرباء ( عرب اليمن ) و العـــرب المستعربة ( العرب من نسل إسماعيل (ع) ) و العرب البائدة ( كقوم عاد و ثمود ) ، والسؤال : هل بادت عاد و ثمود صدفـــة أم لأسباب و مبررات ، وهي تتجدد ( السنة ) فيما لو تجددت تلك الأسباب و المبررات ؟

بلى . إنها بادت لأسباب و المبررات ؟

[14] و يجمع كل تلك الأسباب و المبررات الكفر ، وفي الآية الكريمة التالية توضيح لذلك :

[ إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ]

كانت تلاحقهم من كل جانب ، و تأتيهم بكل طريقة ، و تحاول هدايتهم بكل كلمة بليغة ، و بكل اسلوب سليم ، كانت تأتيهم " من بين أيديهم " أي تقول لهم قبل الإنحراف : لا تنحرفــوا ، " ومـن خلفهم " أي تقول لهم بعد الإنحراف : لماذا أنحرفتم؟ دعوا الإنحــراف .


(1) الفرقان / 2


لقد جاؤوهم و دعوهم الى تلك الحقيقة الهامة التي هي خلاصة رسالات الأنبياء جميعا ، وهي :

[ ألا تعبدوا إلا الله ]

ولكن ، ماذا كان جوابهم ؟

لقد زعموا أن الله ينبغي أن يبعث ملكا رسولا ، أما أن يكون رسولهم واحدا منهم يأكل الطعام ، و يمشي في الأسواق ، ولا يملك خزائن الأرض فلا ..

[ قالوا لو شآء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون ]فكفروا بالرسالة لاعتمادهم على منهج مادي بحت لمعرفة الحق ، فهم كفروا بما أرسل به الأنبياء قبل أن ينظروا فيه ، بل لمجرد أن المبعوث به ليس ملكا .

[15] ماذا كانت عاقبة كفر أولئك الناس من أسلاف العرب ؟

[ فأما عاد ]

تلك الحضارة القوية ، التي هلكت في عز شبابها ، و عنفوان قوتها .

[ فاستكبروا في الأرض بغير الحق ]

كانوا يستكبرون ، أي يحسبون أنفسهم كبارا فيظلمون الناس ، و يغصبون حقوقهم لمجرد أنهم أوتوا قدرا من القوة .

[ وقالوا من أشد منا قوة ]

ولكن من لا يستطيع أن يمنع عن نفسه عاديات الطبيعة ، كعادية الريحو البركان ، كيف يسمح لنفسه بأن يتعالى على الله رب الريح و البركان ؟! كيف يستطيع أن يتكبر على النظام الذي يسير كل جزء جزء من كيانه ، شاء أم أبى ؟!

[ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ]

أولم يعرفوا هذه الحقيقة الواضحة ؟ بلى . جحدوا بها برغم توافر الآيات عليها .

[ وكانوا بأياتنا يجحدون ]

وهذا الجحود كان نتيجة للإستكبار ، لأن الإستكبار يصبح حجابا سميكا بين الانسان وبين الحقيقة .

[16] ولكن هذا الجحود ، وذلك الإستكبار ، سببا في إرسال العذاب المهين عليهم ، متمثلا في ريح عاصفة ذات صوت و صرير ..

[ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا ]

وتلك هي المعادلة الحاكمة في الخلق ، من لم يستجب طوعا لرسول الرحمة و الإنذار ، يستجيب كرها لرسل العذاب و العاصفة ..

[ في أيام نحسات ]

لم يكن فيها ذرة من السعد ..

[ لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الأخرة أخزى وهم لا ينصرون ]هكذا كان العذاب في الدنيا مخزيا مهينا ، لأنهم كانوا يستكبرون و يتجبرون ، وأما العذاب في الآخرة فهو أعظم خزيا ، و أبقى ألما .

وإن شـدة عذاب الله في الدنيا ، و هول وقعه على الكافرين ، تهدينا الى أمريـن : أولا : هول عذاب الله في الآخرة ، و تناهي شدته بما لا يمكننا تصوره ، ثانيا : صرامة سنن الله و كيف تدمر الذين يكفرون بالله شر تدمير ، بلى . لقد جاءت السماء و الأرض لربها طوعا قبل أن يؤتى بهما كرها ، فهلا نأتي ربنا طائعين من قبل أن تذهب بنا ريح صرصر عاتية ؟!

[17] [ وأما ثمود ]

فقــد بعث الله إليهم الأنبياء ، و زودهم بالآيات المبصرة ، ومن عليهم بالهداية ..

[ فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ]

لقــد بعث الله إليهم صالحا فآمنوا به ، ولكنهم انحرفوا بعدئذ عن طريق الرشاد .

بلــى . إن الطريق كان واضحا أمامهم ، و الحقيقة ظاهرة كالشمس في كبد السماء ، و لكنهم أغمضوا أعينهم ، وقالوا : نحن لا نرى ، فماذا كان مصير كفرهم بعد الإيمان ؟

[ فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ]

نــزلت عليهــم - كما نزلت على عاد - صاعقة العذاب ، المشبعة بالخزي و الإهانة ، و السبب واضح :

[ بما كانوا يكسبون ]


لا لضآلة في مغفرة الله ، لأنها أعظم من ذنوبهم ، ولا لضيق في رحمته ، لأنها وسعت كل شيء ، ولكن لأنهم أبعدوا أنفسهم عن الرب الرؤوف الرحيم بما اجترحوه من سيئات .

و نستوحي من هذه الآية ان كفر ثمود يختلف عن كفر عاد ، فعاد كفروا بكل شيء ، رأسا ، و أما ثمود فآمنوا بالرسول و الرسالة ، ولكنهم فعلوا ما يتناسب و الكفر ، من عقر الناقة ، و مخالفة أوامر الرسول فيما يتعلق بها ، فما كسبوه كان خاطئا .

ولهذا يقول الله سبحانه : " فهديناهم " أي اهتدوا فكريا و نظريا " فاستحبوا العمى " أي انحرفوا عمليا و سلوكيا ، وهذا يعتبر عمى ، كالذي زوده الله بالبصر ، و لكنه لا ينتفع به فيقع في الحفرة .

ومن هنا نعرف أن عذاب الله يقصم ظهر من يخالف سننه في الخليقة والتي تكشفها أحكامه في الشريعة ، سواء آمن بها و خالفها ، أم كفر بها رأسا ، فالذي يناطح الصخرة ينفلق رأسه سواء آمن بهذه الحقيقة أو كفر بها .

وفي ذلك تحذير لأمة النبي محمد (ص) أن مخالفتهم لرسالته نظريا أو عمليا تجر إليهم الويلات .

[18] و بين هؤلاء المنحرفين - الكافرين عمليا - كانت هناك مجموعة من المؤمنين الصادقين ، أنجاهم الرب ، وكان سبب نجاتهم هو تقواهم و اجتنابهم ما ارتكبه الآخرون من الجريمة و الفحشاء .

[ و نجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون ]

و يذكر الرواة في تفسير هذه الآية قصة مفيدة هي مثلما أخرج ابن إسحاق و ابنالمنذر و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر قال : حدث أن عتبة بن ربيعة وكان أشد قريش حلما قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ، و رسول الله (ص) جالس وحده في المسجد : يا معشر قريش ألا أقوم الى هذا فأكلمه فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منها بعضه ، و يكف عنا ،قالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقام عتبة حتى جلس الى رسول الله (ص) فذكر الحديث ، فيما قال له عتبة ، وفيما عرض عليه من المال و الملك وغير ذلك ، حتى إذا فرغ عتبة قال رسول الله (ص) : أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني ، قال ، أفعل ، فقال رسول الله (ص) : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ، فلما سمعها عتبة أنصت لها ، و ألقى يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله (ص) الى المسجد فسجد فيها ، ثم قال : سمعت يا أبا الوليد ؟ قال : سمعت ، قال : أنت و ذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراؤك يا أبا الوليد ؟ قال : و الله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ . (1)[19] وأما العذاب في الآخرة فهو الأكبر و الآلم ، و الأشد و الأبقى ، وما أصاب الكافرين من عذاب في الدنيا ، لا يقاس بذرة من عذاب الآخرة إطلاقا ، لأنها تحمل عنصري الشدة و البقاء ، " و لعذاب الآخرة أشد و أبقى " . (2)من تطوف في المستشفيات و بالذات التي تأوي الحالات الصعبة ، أو زار ساحات القتال و شاهد المناظر الرهيبة ، ثم دار على المناطق المنكوبة ببركان تفجر(1) الدر المنثور للسيوطي / ج 5 - ص 364

(2) سورة طه / 127


فسال لعابه النحيس على القرى المحيطة فأذابها ، أو بسيول عارمة اقتلعت في طريقها الأشجار و دمرت القرى .. أقول مثل هذا الانسان يعي - بعض الشيء - معنى العذاب في الدنيا ، و فظاعته ، و بشاعة مناظره ..

ولكن كل ذلك العذاب ، وكل تلك الويلات و المآسي ، تعتبر تافهة إذا ما قيست بعذاب الآخرة ، وهول ما يجري فيها ، و دوامه .

بلــى . إن عــذاب الدنيا يهدينا الى وجود العذاب الأخروي ، و جانبا من حقيقته ..

الحمى و آلامها التي قد تعتري الجسم فتحوله الى خرقة بالية ! ليست سوى لفحة من نار جهنم .

وهذه النار التي تذيب الحديد ، صورة مخفضة سبعين مرة عن نار جهنم .

ولعله حتى الحرارة التي يولدها تفجير قنبلة ذرية هائلة فتحول الصخور دخانا خلال أقل من ثانية ليست سوى لهيب من نار جهنم ، التي هي أشد حرا مما نتصوره في الدنيا .. وحتى الحرارة الموجودة في مركز الشمس المتناهية الشدة لا تقاس بنار جهنم . أولا نقرأ في النصوص أن الشمس تلقى في جهنم فتصرخ من حرها ؟!

فهل تتحمل العظام الناعمة ، و الأجسام الترفة ، و الجلود الرقيقة ، و الأعصاب الحساسة ، ذلك العذاب الرهيب الذي يحول ساكنيه الى شعلة متقدة ؟!!

نعــم هكذا يفعل العذاب بالكافرين ، فهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، يقول تعالى : " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " كما و أنه لا يغمى عليهم ، كما يحدث للمعذب أو المصاب بآلام في الدنيا ، ولا يعطون إجازاتيتخلصون فيها من عسر البلاء ، ولا تجري لهم عمليات جراحية ليتماثلوا للشفاء من أمراض العذاب ، ولا تقدم لهم مهدئات لتسكن نفوسهم و يكفوا عن الصراخ .

[ و يوم يحشر أعدآء الله إلى النار ]

آنئذ سيلاقون العذاب الأكبر .

[ فهم يوزعون ]

يتقسمون ، و يلقى كل واحد منهم في سجنه المخصص له .

[20] كل ذلك العذاب الغليظ المهين ينتظر أولئك الذين عادوا ربهم ، فلم يتبعوا رسله ، و خالفوا أوامره و سننه ، و تجاوزوا حدوده ، في الوقت الذي أطاعت الكائنات جميعا ربها ، و اتبعت سننه التي قدرها فيها .

وحتى اعضاء جسد الانسان تتبع سنن ربه ، لولا أنه قد سخرت له بعض الأيام في الدنيا لينظر كيف يعمل بها ، وفي يوم القيامة حيث يسلب منه هذه الحرية المحدودة تنقلب عليه أعضاء جسده فتكون شاهدة عليه على شفير جهنم .

[ حتــى إذا ما جآؤوها شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون ]إن من الذنوب ما ترتكب بالأذن ، كسماع الغيبة و الغناء ، وما يرتكب بالعين ، كالنظر الى المحرمات ، و قرائة كتب الضلال ، وما ترتكب عن طريق الجلد ، كالزنا ، وهذه الجوارح ستشهد على الانسان يوم القيامة .

[21] يا لهول المفاجئة ، ويا لصدق الشاهد !


[ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ]

كيف تشهدون علينا ؟! كيف ونحن حملناكم مدى حياتنا ؟! كيف ونحن نلبس الملابس الناعمة من أجلكم ؟! كيف ونحن كنا نحميكم من شدة البرد في الليالي القارصة ؟! كيف ونحن كنا نقيكم الحر ؟!

[ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ]

ومن هذا المقطع في الآية يتضح أن لكل شيء شعورا - كما قلنا - وإذا شاء الله أعطاه القدرة على النطق بلغة الانسان حتى يفهم ، وإلا فهو يملك شعورا .

[ وهو خلقكم أول مرة و إليه ترجعون ]


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس