بينات من الآيات [37] بين البشر و سائر الخليقة أكثر من صلة ، و حين يكتشف الإنسان آماد هذه الصلة لا يزداد وعيا بما حوله فقط ، ولا يزداد قدرة على تسخير الطبيعة فحسب ، بل و يزداد إيمانا بربه ، و معرفة باسمائه الحسنى التي تتجلى في السماوات و الأرض .
فإذا نظرنا الى الليل و النهار و الشمس و القمر راعتنا عظمتها و كبر حجمها و دقة نظمها ، ولكن حين نجد أنها مسخرات بأمرا لله ، و خاشعة لمشيئته ، محاطة بعلمه و قدرته ، هنالك يهتدي المؤمنون الى ربهم ، و يعرفون شيئا من عظمته ، فيخرون ساجدين لله وحده الذيله الحمد و المجد و الكبرياء و العظمة .
[ ومن ءاياته الليل و النهار و الشمس و القمر ]
اختلاف الليل و النهار بما فيه من دقة التدبير و حسن النظم شاهد على عظمة مقدرهما و مدبرهما ، كما أن حركة الشمس ذات الأبعاد الثلاث المتناهية في الدقة ، و دورات القمــر المتصلة ذات الأثر البالغ في مقدرات الأرض ، كل ذلك آية من آيات قدرة الله ، فمن الضلالة تقديس الشمس و القمر من دون بارئهما !
[ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ]
وكانت من عادات الجاهلية ، و التي لا تزال شائعة عند بعض الأمم ، ولعلها ناشئة من النظرة السطحية الى آيات الخليقة التي لا تنفذ الى ما ورائها من حقائق الغيب .
[ و اسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ]
وكان بعضهم يزعم أن السجود للشمس و القمر و للأصنام التي تنحت كرمز لهما و لغيرهما من مظاهر القوة و الجمال في الخلق يعتبر عبادة لله أوليس كل أولئك من خلق الله ، ومن مظاهر قوته و جماله ؟ فنهرهم الرب بأن عبـادة الله لا تتم إلا بالسجود له وحده ، فإن كانوا يريدون الله فليعبدوه وحده ، ذلك أن السجود للشمس و للقمر ولكل مظهر من مظاهر القدرة و الجمال يبهر البشر و بالتالي الاستسلام للسلطة و الثروة ، وما إليهما من زينة الحياة الدنيا . كل ذلك أصل الفساد في حياة الأنسان ، وإن من عبادة الله تحصين البشر من هذاالفساد الكبير .
و بعضهم أخذ يفلسف هذا الفساد ، و يزعم أن آيات الله هي عين ذاته ، وأن الوجود و الموجود واحد ، وأن الخالق و المخلوق واحد ، وأن الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق .
كلا .. لا تعايش عند الله بين عبادة الله و السجود للشمس و القمر ، فمن سجد لهما خرج عن إطار عبادة الله .
[38] ولكن لماذا يترك الانسان عبادة الله إلى عبادة مخلوقاته ؟
لأن فـي عبادة الخالق استشعار الذلة و الصغار ، و التحسس بالمخلوقية و العبودية ، وبالتالي الإلتزام برسالات الله وما فيها من قيم و شرائع ، و اتقاء شح النفس ، و مخالفة أهوائها ، و التحلق في سماء العقل ، و العبور من واقع الشهود الى حقائق الغيب ، وما إلى ذلك من الكمال الرفيع الذي يستصعب على البشر فتراه يتكبر ، فكيف يشافي المنهج القرآني حالة الإستكبار ؟ بتذكير البشر بأن الملائكة وهم أفضل منه ، و أقرب الى ربهم ، و أعظم قوة و سلطانا ، يتعبدون الله وحده ، و يقدسونه من الشركاء الموهومين ، وأن المقربين من عباد الله الصالحين الذين يحظون بقرب الله يسبحونه ، وأن طريق التعالي هو الخضوع ، وأنه لا يتسامى البشر من دون كسر حاجزالإستكبار في نفسه .
[ فإن استكبروا ]
و أخذوا يشركون بالله خلقه ، و يسجدون للشمس و القمر ، و يخضعون لزينة الحياة الدنيا ، و يزعمون أن ذلك طريق الكمال ، تكريسا للأنانية ، و إبقاء للجهل و الجهالة ، فليعلموا أنهم لم يهتدوا الى سبيل التقرب الى الله .
[ فالذين عند ربك ]
من الملائكة و المقربين ، و لعل هناك خلق غيرهما لا نعلمه ، هؤلاء الذين حظوا بمقـــام القرب من الله حتى صاروا عنده ، و يحتمل أن يشمل المقربين وهم أحياء في الدنيا ، لأنهم عند ربهم بأرواحهم و قلوبهم ، وليس لربنا مكان محدد ، فالقرب منه قرب معنوي .
[ يسبحون له بالليل و النهار ]
فآيات الله لا تستبد بمشاعرهم ، بل تذكرهم بعظمة ربهم . أوليس الليل يزول ، و الله دائم لا يزال ؟ أوليس النهار ينسلخ ، و الله حي قيوم ؟ فهم ينظرون الى الجوانب السلبية في الخليقة فينزهون بارئها منها ، كما أنهم ينظرون الى الجوانب الإيجابية فيزدادون حبالربهم و شوقا ، وهذا المنهج في النظر الى الليل و النهار يلهمهم المزيد من معرفة الله باختلاف الليل و النهار ، فلا يتعبون من تسبيحه ، لأن النظر الإيماني يعطيهم الطاقة و النشاط في كل ساعة .
[ وهم لا يسئمون ]
ترى المؤمنين يستقبلون يومهم بمثل هذا الدعاء الذي يعكس بصيرتهم التيينظرون من خلالها الى ظواهر الخليقة ، يقولون :
" اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه ، و سرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه ، و أتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه ، و شعشع ضياء الشمس بنور تأججه " (1)فالطبيعة تجليات لأسماء الله ، و النظر اليها يهديهم الى تلك الأسماء .
و يعكس داعاء الإمام الحسين (ع) في يوم عرفة هذه المنهجية في تكفير أولياء الله حين يقول :
" الهي علمت باختلاف الآثار ، و تنقلات الأطوار ، أن مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء ، حتى لا أجهلك في شيء " (2)و إذا أشرق نور معرفة الله على قلب مؤمن انسحب منه ظلام الأغيار ، فلا شيء ولا شخص يشارك الرب في القلب .
يقول الإمام الحسين (ع ) في ذات الدعاء :
" أنت الذي اشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك و وحدوك ، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ، ولم يلجئوا الى غيرك ، أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، و أنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم ، ماذا وجد من فقدك ،وماالذي فقد من وجدك " (3)
(1) فاتحة دعاء الصباح المأثور عن أمير المؤمنين (ع) في مفاتيح الجنان .
(2) المصدر / ص 272
(3) المصدر / ص 273
و كلمة أخيرة :
اختلفت المذاهب في موضع السجدة في هذا السياق بعد اتفاقهم على وجوبها ، و أنها من العزائم ، فقال فقهاء الشافعية والمالكية : تجب السجــدة عند قوله تعالى : " وهم لا يسـأمون " ، بينما قال الحنفية و الحنابلة : إن موضع السجـــود الواجب عند قـــولـــه : " تعبدون " ، و ذهب الشيعة الى هذا الرأي تبعا لروايات أهل البيت (ع) .
ولا يجب ذكر مخصوص في السجود ، ولكن يستحب أن يقول ما ذكر في رواية " من لا يحضره الفقيه " قال :
و روي أنه يقول في سجدة العزائم :
" لا إله إلا الله حقا حقا ، لا إله إلا الله إيمانا و تصديقا ، لا إله إلا الله عبودية و رقا ، سجدت لك يا رب تعبدا و رقا ، لا مستنكفا ولا مستكبرا ، بل أنا عبد ذليل خائف مستجير " (1)[39] القرآن بصيرة لا بصر ، و رؤية لا نظر ، إنه منهج تفكير لمن يعقل ، و هدى و عبرة لمن يعي و يعتبر . إنه يقول لك كيف تصبح متعلما في مدرسة الحياة وفيها من معارف الرب ، و معالم الحق ، و مشاهد النفس ما يكفيك حكمة و علما .
ولو اتخذنا آيات القرآن بصيرة للنظر الى ما حولنا لنطقت الطبيعة بألف درس و درس ، و بأكثر من لغة ، لغة العواطف و الأحاسيس ، لغة العلم و الحكمة ، لغة الضمير و الوجدان ، و فوق كل ذلك لغة الشهود و الإيمان .
انظر الى الارض . أولا ترى خشوعها لربها ، و كيف تتعطش حبات التراب(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 551
للغيث ، وكأنها تناجي ربها طالبة أحيائها ؟!
[ ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة ]
لا مستكبرة ولا متجبرة ، و حق لها أن تخشع لربها الجبار ، ومن دون خشوعها لا يمكن ان تنتفع ببركات ربها ، و كذلك القلب الخاشع يهبط عليه نور ربه العظيم فيحييه بالمعرفة و الإيمان .
[ فإذا أنزلنا عليها المآء اهتزت ]
وكذلك القلوب الطاهرة تهتز لآيات ربها .
[ و ربت ]
لقـــد تنامى عليها الزرع و الورق و الثمر فإذا بالأرض قد علت عن مستواها الأول ، وكذلك كل من تواضع لله يعلو ، و من يخشع يربوا ومن تزكى ينمو .
[ إن الذي أحياها لمحي الموتى ]
وهكذا بهذه البساطة يحل القرآن أعقد لغز حير البشر أوليست العقول تقف على شاطئ الحياة متسائلة : ماهي ؟ كيف وجدت ؟ وكيف تعود حين تذهب ؟
بلى . إنك إن سمحت لنظراتك إن تعبر حاجز الظاهر الى حقيقة السنن فإنها تغور في ألغاز الخليقة .
لابد أن تلامس رافد الحقيقة عن كثب ، أما إذا وقفت على الشاطئ باسطا كفيك إليه ليبلغ فاك فلن يبلغه ، خض البحر حتى تحظى بالجوهر ، إلق الحجاب عن عينك ترى قدرة الله تتجلى في البساط الأخضر الذي يفرشه الربيع - بإذن الله -على الأرض من ملايين النباتات المفعمة بأسرار الحياة .
إن تنوع النباتات ، و سرعة التهاب الحياة في جنباتها ، و انسياب القدرة من أطرافها ، يهدينا كل ذلك الى أن إحياء الموتى على الله يسير ، و البشر بدوره كنبتة واحدة بين ملايين النباتات .
بل يهدينا ذلك الى أن القدرة الإلهية لا تحد ، لأن شد التنوع ، و كثافة الخلق ، و عظمة التدبير ، و سرعة التطوير ، لا يدع كل ذلك مجالا للشك في أن الله واسع القدرة ، ولا شيء يعجزه أبدا .
[ إنه على كل شيء قدير ]
جاء علي بن فصال الى الإمام الرضا (ع) يسأله : لم خلق الله الخلق على أنواع شتى ، ولم يخلقه نوعا واحدا ؟
فأجابه قائلا :
" لئلا يقع في الأوهام أنه عاجز ، فلا تقع صورة في وهم ملحد إلا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقا ، ولا يقول قائل : هل يقدر الله أن يخلق على صورة كذا و كذا ، إلا وجد ذلك في خلقه تبارك و تعالى ، فيعلم بالنظر الى أنواع خلقه أنه على كل شيء قدير " (1)
[40] قلب البشر كالأرض ، إذا خشع لربه و استجاب لآيات الله أحياه الله بالإيمان أما إذا استكبر و لم يستجب لآيات الله كان كالصخرة الصماء التي لا تهتز للغيث .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 551
وبما أن الخليقة تفيض بآيات الله فإن الكفار يسعون جاهدين التخلص من آثارها على نفوسهم ، فتراهم يلحدون فيها ، و يحرفونها عن مواضعها ، و يبحثون لأنفسهم عن تبريرات لكي لا يؤمنوا بها ، ولكن هل تنطلي تبريراتهم و خدعهم على ربهم ؟ كيف وهو الذي خلقهم و أحاطبهم علما ؟
إنهم سوف يلقون في نار جهنم يوم القيامة ، لقد فروا من مسؤوليات الإيمان الى ظل الإلحاد ( التبرير ) زاعمين أنه ينجيهم من العقاب ، بينما النجاة كانت في التسليم لآيات الله ، و تقبل مسؤولياتهم .
[ إن الذين يلحدون في ءاياتنا ]
جــاءت هذه الآية بعد ذكر الآيات ، لأن كثرة الآيات لا تنفع من يتهرب من التأثر بها ، وقال فريق من المفسرين : إن معنى الإلحاد هو ما كانوا يفعلونه من المكاء و التصدية ، و كأنهم نظروا الى ظاهر كلمة الإلحاد الذي يدل على الفعل المتعدي الى الغير ، و يعنيحرف الآخرين عن الإيمان كمن يحرف آيات الله ، وقالوا : إن الآية نزلت في أبي جهل ، بينما ذهب مفسرون آخرون أن المعنى : الذين يميلون عن آياتنا ، و يبدو هذا المعنى أقرب الى السياق .
[ لا يخفون علينا ]
بالرغم من أن الملحد يتشبث بالتمحلات البعيدة ، و يحاول إخفاء رفضه للآيات بابتداع نظريات و فلسفات و أفكار باطلة و تخرصات واهية ، إلا ان كل ذلك قد يخدع الناس ، وقد يخدعهم أنفسهم ، ولكنه لا يخفى على الله ، لأن الله محيط علما بنياتهم الخبيثة ، و يجازيهم عليها بالنار .
[ أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي ءامنا يوم القيامة ]ميزة الإنسان عن سائر الأحياء تطلعه الى مستقبل أفضل . ألا ترى كيف تبحث البشرية اليوم إلى التقدم الحضاري ؟ لماذا ؟ لأنهم يريدون أمن المستقبل ، ولكنهم يغفلون عن أعظم أمن لابد ان يسعوا إليه ، وهو أمنهم يوم القيامة ، الذي لا يتوفر إلا لمن ألقى السمع إلى آيات ربه ، و استجاب لها بخشوع .
ولأن الإستجابة لآيات الله تتم بوعي و شدة عزم من قبل المؤمنين فانهم يأتون بأنفسهم الى ساحة المحشر آمنين ، بينما الإلحاد يتم إستسلاما للهوى فإن الملحدين يلقى بهم في نار جهنم إلقاء .
[ اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ]
لقد سمح الله لعباده بقدر محدود من الحرية في الدنيا ليتحملوا مسؤولياتهم كاملة يوم القيامة ، ولكنه حذرهم من مغبة الإلحاد ، و الإلتواء ، و التبرير ، و خداع الذات ، لأنه بصير بما يعملون ، فيعلم فعلهم ، ولماذا يفعلون .
[41] الكتاب الذي أنزله الله لعباده يعكس آياته المبثوثة في الخليقة ، فمن أعرض عنه فقد أعرض عن حظه ، لأن الكتاب ذكر يستثير ما نسيه البشر من حقائق هامة .
[ إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم ]
إنهم هم الملحدون في آيات الله ، و إن مصيرهم الدمار ، لأنهم أعرضوا عن كتاب مقتدر .
[ و إنه لكتاب عزيز ]
وكيف لا يكون عزيزا وقد وعد رب العزة أن يحفظه ، و ينصر من ينصره ، وإنهليعكس سنن الله التي تنتقم ممن خالفها بشدة ، وقد أنبا الرسول (ص) عن عزة الكتاب حيث قال عنه :
من جعله أمامه قاده الى الجنة ومن جعله خلفه ساقه الى النار "وقال المفسرون : إن خبر المبتدا هنا محذوف لدلالة السياق ، كما لو قلنا : إن من يعادي زيدا و إن زيدا لقوي ، أي أنه لا يفلح لأن من يعاديه قوي .
[42] و عزة القرآن تتجلى أيضا في أنه حق ، و الحق منتصر .
[ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ]
فلا إخباره عما مضى يشوبه الباطل ، ولا إنباؤه عما يأتي . إنه كتاب العصور جميعا . أوليس يبين محض السنن ، و لباب الحقائق ، و عبر القصص ، وهي لا تختلف من عصر لعصر ، كما قال الإمام الرضا (ع) عنه :
" هو حبل الله المتين ، و عروته الوثقى و طريقته المثلى ، المؤدي الى الجنة ، و المنجي من النار ، لا يخلق على الأزمنة ، ولا ينعت على الألسنة ، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان ، بل جعل دليل البرهان ، و الحجة على كل إنسان " (1)[ تنزيل من حكيم حميد ]
الله الذي شهدت آفاق الخليقة بحكمته البالغة هو الذي نزل الكتاب ، فهو الناطق عن تلك الحكمة التي نراها في خلقه سبحانه .
وهو الحميد الذي نشرت محامده على كل أفق مبين ، لأن رحمته وسعت كل(1) المصدر / ص 554
شيء ، وقد بعث آخر الأنبياء رحمة للعالمين ، و أنزل معه كتاب رحمته .
[43] إن طبيعة النفس البشرية واحدة عبر التاريخ ، و تبريرات الملحدين في آيات الله و المعرضين عن ذكرهم اليوم هي ذاتها التي قالوها للرسل من قبل ، كما أن سنة الله في إمهالهم برحمته الى أجل ثم أخذهم إن لم يتوبوا بعقاب أليم جارية فيمن يأتي كما جرت فيمن مضى .
[ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ]
فلا تحزن عليهم . إنها عادة الملحدين الذين يعرضون عن الذكر ، و يتقولون على الرسل تبريرا لإلحادهم و إعراضهم .
[ إن ربك لذو مغفرة ]
فعلى الرسول ومن يتبعه أن يوسع صدره ، و يتعامل مع خلق الله برفق .
[ وذو عقاب أليم ]
فلو أعرضوا فإن لهم عذابا أليما أعده الله لهم ، فلا يستعجل الداعية العذاب ، ولا يحمل هم إنكارهم .
[44] القرآن ذكر ، وقد توافرت فيه شروط الهداية لولا أنهم أعرضوا عنه ، لو جعله الله أعجميا لبرروا إعراضهم بأنه غير مفهوم ، أو قالوا : كيف يتحدث نبي عربي بقرآن أعجمي ؟!
[ ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ]و يحتمل أن يكون المراد من الأعجمي الكتاب غير المبين ، كما لو كانت آياتهكلها فوق مستوى عقولهم فلم يستوعبوه ، هنالك كانوا يطالبون بأن يكون واضحا قد بينت آياته .
و ينهرهم القرآن أن القضية ليست في أن يكون عربيا أو أعجميا ، بل في أن يكون القلب مستعدا لتقبله .
[ ءاعجمي و عربي ]
وقال المفسرون : إن هذا الكلام تكميل لقوله " لولا فصلت آياته " ، أي يكون الكتاب أعجميا بينما الرسول عربي ، أو يكون الكتاب مختلطا بين العربي و الأعجمي .
[ قل هو للذين ءامنوا هدى و شفآء ]
يهديهم الى الحق ، و يشفي قلوبهم من أمراضها ، أما المعرضون عنه فأنهم لا ينتفعون بالكتاب . إن في آذانهم وقرا من الأفكار الباطلة ، و المسبقات الذهنية الخاطئة .
[ والذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقرا وهو عليهم عمى ]قالوا : معناه أنهم محجوبون عنه حتى صاروا بالنسبة إليه كالأعمى ، ولعل معناه أنهم يزدادون به ضلالا و طغيانا كما قال ربنا : " و ننزل من القرآن ماهو شفاء و رحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " .
[ أولئك ينادون من مكان بعيد ]
ذلك أن المسافة واسعة بين القرآن و هداه و شفائه و قلوبهم المغلفة التي غلفتها الشهوات و الكبر و الأحقاد .
[45] و قصة الجحود طويلة ، فلقد أنزل الله التوراة على موسى فاختلف فيها الناس على الرغم من انها كانت هدى و نورا .
و أمهلهم الله حتى يمتحنهم ، ولولا أنه قد قدر امتحان البشر في الدنيا لقضى بينهم ، و أخذ الجاحدين أخذا شديدا ، لأنهم قد جاؤوا إفكا مبينا ، ولا يزال البعض يشك في التوراة شكا مقلقا .
[ ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ]
فاختلافهم في القرآن ليس دليلا على نقص فيه ، حاشا لله ! إنما هو بسبب وقر آذانهم ، وعمى أبصارهم ، وكما أن الله لم يعجل على أولئك بالعذاب ، بالرغم من عظيم إفكهم ، كذلك لم يعجل العذاب على هؤلاء . كل ذلك لأن الله قد قدر الدنيا دارا للفتنة و البلاء .
[ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ]
و نزل عليهم العذاب ، ولكن الله قد سبقت كلمته أن يمهل الجاحدين الى أجل مسمى فلا يغرهم المهل ، ولا يتخذ البعض ذلك دليلا على أن الله لا يعز كتابه أو لا ينصر رسله .
[ و إنهم لفي شك منه مريب ]
قالوا : المعنى أن العرب لا يزالون في شك من القرآن ، وقال البعض : بل اليهود لا يزالون في شك من التوراة ، و يبدو أن هذا أقرب الى السياق والذي فيه تسلية للرسول ليتسق المعنى ، هكذا : لا يحزنك - يا رسول الله - شك قومك في القرآن فبنوا إسرائيل لا يزالونفي شك من التوراة .
وقالوا : الريب هو أفظع الشك ، فالمعنى - على هذا - أنهم في شك فظيع .
وقالوا : الريب هو الشك المقرون بسوء الظن .
و يحتمل أن يكون معنى الريب هو الشك المفزع ، فقد جاء في اللغة : أراب خلافا أقلقه و أزعجه ، وفي حديث فاطمة : " يريبني ما يريبها " (1) .
ولعل الفارق بين الشك المريب و غيره : أن من يهتم بأمر يشك فيه يريبه الشك و يزعجه ، بينما الذي لا يهتم بأمر لا يزعجه الشك فيه .
(1) المعجم الوسيط / ج 1 - ص 384
|