الإطار العام
في الوقت الذي تختص كل سورة في القرآن بمحور يفردها عن بقية السور فإنها كلها تلتقي حول محور مشترك واحد ، لذلك فإن من الصعب على المتدبر أن يميز بينها ، لأنها جميعا تنطلق من قاعدة واحدة لتنتهي إلى هدف واحد ، تنطلق من معرفة الله ، و تنتهي إلى الإيمان بهو عبادته ، فآياتها متشابهة كما يصف القرآن نفسه بذلك ، إلا أن المتدبر يجد لكل سورة محورا يتميز بما يلي :
أولا : إن كل القضايا المتعلقة واقعيا بذلك المحور تكون مبحوثة في السورة ، بالرغم من أنها - و بالذات في السور الطويلة - تبدو مختلفة أو حتى متباينة إلا أنها مادامت تمت بذلك المحور تبحث في السورة ، لأن المعالجة القرآنية للمحاور هي معالجة شاملة تسع جميعجوانب القضية .
ثانيا : إن القرآن لا يعالج القضايا معالجة نظرية ، بل يودع ضمن آياته الكريمة القوة التنفيذية اللازمة لعلاجها ، فهو لا يكتفي ببيان القانون العلمي أو الحكم الشرعي للقضية مجردا ، بل يشفعه بتوجيه الإنسان و تذكرته ، مستخدما من أجلذلك شتى الوسائل ، ومن أبرزها التذكرة بالله و بالآخرة ، و إثارة العقل ، و الترهيب ، و الترغيب ، وحتى التصوير الفني ، التي تدعو قارئ القرآن الى تطبيق أوامره و تعاليمه .
ونجد محور هذه السورة معالجة الخلافات البشرية .. لماذا يختلف الناس ؟ وما هي حدود الإختلافات الطبيعية بين البشر ؟ وماهو جذور الخلاف ؟ ثم ماهو علاج الخلاف ؟
وإنما سميت هذه السورة بالشورى ، لأن الشورى تعتبر بعد الوحي أفضل علاج للإختلاف .
و القرآن لا يبدا السورة بالحديث عن الشورى ، بل يبدأها بالحديث عن الوحي ، لأن الوحي هو محور المجتمع الإسلامي ، و أساس وحدته ، ذلك لأن أي مجتمع يقوم على أساسين :
الأول : وجود شريعة ، أو كتاب ، أو منهج متكامل ، وفي أمتنا الإسلامية يجسد القرآن هذا الأساس .
الثاني : وجود القيادة الصالحة التي تحدد معاني الكتاب ، و تستنبط الأحكام منه ، و ترسم المنهج السليم للحياة به .
وهذا ما يفسر ابتداء السورة بذكر القرآن و انتهائها الى ذكر الرسول ، و بين هذا المبتدأ وذلك المنتهى تبصرنا آياته بلطائف القيم المباركة في الوحدة ، وفيما يلي نستوحي تفصيلا لهذا الموجز :
فاتحة السورة تذكرنا بالوحي الذي يلقيه الله العزيز الحكيم مليك السماواتو الأرض العلي العظيم ، و كفى بالوحي عظمة أن السماوات و الأرض يكدن يتفطرن من فوقهم ( من عظمة ربهن أو من كلماته ) . أما الملائكة فهم يسبحون بحمد ربهم ، و يشفقون على من في الأرض ( بالذات المؤمنين منهم ) فيستغفرون لهم ( لأنهم يرون جانبا من عظمة ربهم ) والله غفور رحيم (1/7) .
وهذه الفاتحة تنسجم مع خاتمة السورة التي تبين صفات الوحي حيث لا يتلقاه البشر إلا إلهاما أو من وراء حجاب أو عبر رسول من عند الله ، وأنه قد هبط الى الرسول الروح ومن قبل لم يكن النبي يدري ما الكتاب ولا الايمان ، أما اليوم فعنده نور يهدي به الله من يشاء الى صراط مستقيم ، وهو صراط الله الذي إليه ترجع الأمور (51/53) .
و بين هذه الفاتحة و تلك الخاتمة اللتين تتحدثان عن محور المجتمع الاسلامي و صبغته الأساسية وهو الوحي تجري آيات الذكر في تبيين أسس الوحدة في الأمة ، بل و يرسي هذه الأسس ببصائره و نذره و بشائره .
كيف ؟
ألف : تقسم الآية (8) الناس فريقين : من هداه و أدخله في رحمته ، و الظالمين الذين مالهم من ولي و لا نصير .
وبعد أن يحدد الصفة الرئيسية للظالمين وهي الشرك بالله ( والذي يعتبر جذر كل فساد ) يثبت مبدأ التحاكم الى الله في الاختلاف ( و بالذات الى وحي الله ومن نزل عليه الوحي أو استوعبه ) و الانابة إليه ، و التوكل عليه (9/10) .
باء : و يذكرنا السياق - بعدئذ - بأن الله الذي فطر السماوات و الأرض خلق الناس و الأحياء أزواجا ليكون نسل الناس بذلك ( فالإختلاف حقيقة واقعة ، وهو فيحدود التكامل مفيد ) .
كما أنه سبحانه بسط الرزق بين الناس بقدر ما يشاء حسب حكمته ( فلا يجوز أن نسعى للتساوي المطلق بينهم ) (11/12) .
جيم : و الدين محور الوحدة ، ولكن بشرط ألا نتفرق فيه ، وهذه وصية النبيين أولي العزم نوح و محمد و إبراهيم و موسى و عيسى ( عليهم السلام ) . أما سبب الإختلاف فليس هو الدين بل أهواؤهم التي تنزع نحو البغي ( وما أعظم جريمة تنزل نقمة الرب لولا أنه أخرها الى أجل مسمى ) و يبقى الرسول ( ومن بعده خلفاؤه ) محورا للوحدة ، و عليه أن يستقيم على الحق بعيدا عن أهوائهم المختلفة ، مؤمنا بكل الكتب ، وعادلا في الحكم بينهم ، ( وألا يكرههم بل يلزمهم بما ألزموا أنفسهم به ) (13/15) .
دال : أما الذين يجادلون في آيات الله ( و يرفضون أحكامه ) من بعد ما استجاب المؤمنون له ( و أقاموا المجتمع المسلم ) فإن حجتهم داحضة ، وعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب شديد ( و تطالهم العقوبات إذ رفضوا أحكام الله ) أوليس قد رفضوا الكتاب الذي أنزله الله، و الميزان الذي جعله سبيلا للعدالة ( وهو الإمام أو أحكام القضاء أو قيم العقل أو هي جميعا ) ؟
وبعد أن يحذرهم الله الساعة التي يشفق منها المؤمنون ، و يقول : بأن الشاكين فيها في ضلال مبين يذكر بأن الله هو الرزاق ( وأن مخالفة الحق لا تجلب رزقا ) وأن من يترك الحرام من الدنيا ( ولا يثير الصراع من أجل لقمة الحرام ) يعوضه الله في الآخرة كما يرزقهفي الدنيا ، بينما الآخر لا نصيب في الآخرة ( وربما يفقد الدنيا أيضا ) .
وهكذا عالج السياق جذرا أساسيا للخلاف الاجتماعي (16/20) .
هاء : ( ولأن من الناس من يشرع بأهوائه ، وهو يسبب الإختلاف الكبير ) أنذر الله أولئك الذين اتخذوا من دون الله شركاء يزعمون أنهم يشرعون من الدين مالم يأذن به الله ( و يسنون القوانين الوضعية ) بأنه لولا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وأن لهم بالتالي عذابا أليما يوم القيامة ، حيث ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا دون أن تجديهم الشفقة نفعا ، لأنه واقع بهم ، بينما ترى المؤمنين في روضات الجنات .
واو : و يرسم القرآن الخط المستقيم في الأمة بالأمر الناجز بمودة أولي القربى التي هي الحسنة الكبرى ( لأن بمودتهم يتكرس الخط القيادي السليم ) .
( ولأن القضية القيادية أهم قضية و أكثر قضية إثارة للخلاف ) اتهموا الرسول بالإفتراء في الوحي ، و أدحض الله فريتهم بأن الله لو شاء لختم على قلب الرسول ، وأنه يمحو الباطل ، و يحق الحق بكلماته .. و بين أنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده ( لأن الإنحراف عنالخط القيادي كثيرا ما يقع فلولا قبول التوبة هلك خلق كثير ) .
و بين السياق أخيرا بان الذين آمنوا يستجيبون ( لهذا الأمر ) بينما الكفار ( الذين لا يستجيبون ) لهم عذاب شديد (21/26) .
زاء : ( ولأن حب الدنيــا و التكاثر من متعها يعد أحد الجذور الرئيسية للإختلاف - بعد الإختلاف الطبيعي المشروع ، و التفرق في الدين ، و التشريع بغير إذن الله - فقد عالجته عدة آيات بينت حكمة تحديد الرزق ، فلو بسط الله الرزق بسطا لبغى الناس في الأرض فقدره تقديـــرا حكيمــا يتناسب و مقــدرة الناس على الإستيعاب ، و الرزق بيد الله ( ولا يجوز الإختلاف عليه ) فهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ( ومن أساب التقتير في الرزق الذنوب ) .
وما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم ( ولعل من الذنوبالإختلاف الذي يمنع الرزق ) وإذا قدر الله العذاب لأمة لا يقدر أحد على دفعه عنها .
( و مظهر آخر لرزق الله الرياح التي تنقل سفن التجارة ) فهذه الجوار في البحر كأنهن الجبال إن يشأ الله يسكن الريح فيظللن رواكد أو يهلكهن بذنوبهم .. كل ذلك ليعلم الذين يجادلون في آيات الله ( و ينكرون هيمنة الله أو عذابه ) أنه لا مفر لهم من عذابه .
وبعد كل ذلك ، ماهي الدنيا ؟! إن هي إلا متاع إذا قيست بما عند الله للمؤمنين في الآخرة الذي هو أفضل و أدوم (27/36) .
حاء : ( وفي هذا المنعطف يبلغ السياق المحور الأساسي في السورة المتمثل فيما يبدو في الشورى التي تكثف التجارب البشرية ، و يبينه القرآن ضمن صفات مختلفة للمؤمنين ) الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش ، و يغفرون حين الغضب ، وقد استجابوا لربهم ( بالتسليمللقيادة الشرعية ) و أقاموا الصلاة ، و أمرهم شورى بينهم ( يتبادلون بها خبراتهم ) ومما رزقناهم ينفقون .
طاء : ( تلك كانت طائفة من صفات المؤمنين تتعلق بعلاقاتهم بينهم ، وهناك طائفة أخرى منها تتصل بمواقفهم من أعدائهم ) فهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ولا يخضعون للبغاة بل يحاربونهم ) و لكنهم لا يعتدون على الناس بل جزاء سيئة سيئة مثلها عندهم .
( و يبين القرآن هنا فضيلة التعافي عندما لا يكون مضرا ، و يدحض اتهام مرضى القلوب و السلطات لمن ينتصر للحق ، بأنهم مسؤولون عن ويلات الحرب ، و يقول : ) لا سبيل على من ينتصر بعدما يظلم ، إنما السبيل على الظالم .
ثم يأمر بالصبر و الغفر ، و يقول بأنه من عزم الأمور ( الذي يستدعي عزيمة شديدة ) و يسوق الحديث في عاقبة الظلم ، و أولها : الضلالة ، و يقول : ومن يضلل الله فماله من ولي ( و الثانية : العذاب الشديد حيث ) يقول الظالمون لما رأوا العذاب هل نستطيع أن نعودالى الدنيا ( لنعمل صالحا ) هنالك تراهم خاشعين من الذل حين يعرضون على النار ، وقد خسروا أنفسهم و أهليهم ، وليس لهم ( من الذين أضلوهم ) أولياء ينصرونهم (38/46) .
ياء : وفي خاتمة السورة يأمرنا القرآن مرة أخرى بالمبادرة بالإستجابة لله ( و التسليم للقيادة ) من قبل يوم القيامة حيث لا مرد له من الله ولا ملجأ يومئذ ولا من ينكر .
و يبين أن مسؤولية البحث عن الإمام الحق تقع على عاتق الإنسان نفسه ، و أنهم إن أعرضوا فما أرسل الله نبيه عليهم حفيظا إن عليه إلا البلاغ .
( ثم يبين مدى ضعف البشر و حاجته الى هدى ربه و القيادة الربانية ، ويقول ) إنا إذا أذقنا الإنسان رحمة فرح بها ( و خرج عن طوره ، و أصابه الغرور ) وإن تصبهم سيئة بذنوبهم يكفرون بنعمة الله ، وإن لله ملك السماوات و الأرض ( وهو الذي يهب أو يمنع حسب حكمته) فيرزق من يشاء ذكورا ومن يشاء إناثا أو يهب الذكور و الإناث معا بينما يجعل البعض عقيما . إنه عليم قدير .
ثم ينهي القرآن السورة بالحديث عن الوحي كما افتتح به . أوليس الوحي أساس وجود الأمة ؟
|