فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


و استقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
هدى من الآيات

انطلاقا من محور الوحدة يبين لنا هذا الدرس سبب الخلاف بين البشر ، وهو ظلم الإنسان للآخرين مما يسميه القرآن بالبغي ، حيث يبدأ بسلب حقوقهم الأمر الذي يجر الى تنامي الصراعات ، و بالرغم من أن كل ظالم يغلف بغيه بمختلف التبريرات ، بل يصنع لنفسه ثقافة ( ودينا ) يزعم أنه يدافع عنها و يذب عن قدسيتها ، إلا أنه كذاب ، لأن الإختلاف لا يكون من أجل القيم ، فالقيم لا اختلاف فيها ، و إنما الأختلاف نتيجة للبغي و السعي وراء حطام الدنيا .

وعندما يجد الانسان الخلافات الأجتماعية ، يكاد ينكر هيمنة الخالق على الخلق ، و يظن أنه تعالى فوض الأمور إليهم ، و يتساءل : إذن لماذا لا يحكم الرب بين عباده ، و يفض الخلافات ؟ و لماذا لا ينصر أصحاب الحق ؟

وماهي إلا وسوسة شيطانية لفصل الخلق عن هيمنة الله ، إذ أنها تدفع الإنسانلاختيار وسائله الكفيلة بتحقيق مصالحه ، ولا يهمه بعد ذلك لو ترك الدين جانبا ، والآية الأولى من هذا الدرس تؤكد أنه قد سبقت كلمة تقضي بتأجيل الحسم في الخلافات ، وأن ذلك لا يدل على التفويض أو الإهمال ، من قبل الله ! بل مجرد إعطاء فرصة للإبتلاء ، ولولا ذلكلكان يأخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر .

و يعتمد الإختلاف على أرضية الشك بالقيم الحقيقية المتمثلة في الكتاب ، ولذلك لا تختلف الأمم حين تعتمد الكتاب محورا لوحدتها ، و مرجعا لخلافاتها و صراعاتها ، ولكنها حينما تفقد الإيمان بالكتاب ، و تبحث عن مصالحها على حساب الآخرين ، تتنامى صراعاتها ، لأن الضمانة التي تحجز عن دفع الصراعات نحو التطرف هو الإيمان بالقيم و الإعتصام بحبــل الله ، وإلا فما أسرع تأثر البشر بالأحداث الإجتماعية و السياسية من حوله ، فهو و بسبب نفسه الأمارة بالسوء يسعى للتطرف في الرد على من يخطئ عليه أو يقصر تجاهه ، وفي قوله تعالى : " ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " (1) إشارة صريحة لهذه الطبيعة في الانسان ، وإنما يستطيع أن يتجاوزها باليقين و الإستقامة ، فــــلا تدفعه الأهواء ولا الدعايات الضالة الى المواقف المتطرفة تجاه الآخرين ، وهذاأمر صعب أن يقول الانسان الحق سواءا كان معه أو ضده ، وهذا ما أمر به الله نبيه (ص) أن يعدل بين الناس ، لأن العدل ينتهي في الأخير الى صالح الإنسان ، ثم أن كل فرد مسؤول أمام الله عن أعماله في الحياة ، فلا داعي إذن لفرض أحد آرائه على أحد ، فالكل يتحمل مسؤولية عمله ، ويتلقى جزاءه .

ثم يؤكد القرآن بأن الله لا يهمل الصراعات الى الأبد ، و إن كان سبحانه لا يتدخل فيها بصورة مباشرة ، فيد الغيب تتدخل الى جانب الحق ، في الوقت المناسب لتدحض حجة الباطل ، ولكن متى يكون ذلك ؟ حينما تهبط الرسالة يؤمن بها مجموعة من الناس ، و يلتفون حول صاحبها ، بينما يخالفهم فريق آخر


(1) المائدة / 8


و بحجج واهية ، فينصر الله المؤمنين على أعدائهم ، ولا شـك أن الرسالة وحدها لا تنتصر ، إنما تنتصر الرسالة التي يلتف حولها الناس و يدافعون عنها .

إن البعض يستعجل فض الخلافات ، و يريد ذلك في أسرع وقت ، ولذلك يبين القرآن هنا فكرة سبق أن بينها في أكثر من موقع ، وهي عدم استبعاد الساعة ، وإنما توقعها في كل حين .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس