بينات من الآيات [19] لقد تكفل ربنا بالرزق لعباده بما وفر لهم من وسائل العيش في الحياة ، ولو تدبرنا في رزق البشر لعرفنا لطف ربنا ، و حسن تدبيره .
[ الله لطيف بعباده ]
قالوا : اللطيف العالم بخفيات الأمور و الغيوب ، والمراد به هنا : الموصل المنافعالى العباد من وجه يدق إدراكه ، وذلك في ألارزاق التي قسمها الله لعباده ، و حرف الآفات عنهم ، و إيصال السرور و الملاذ إليهم ، و تمكينهم بالقدرة و الآلات . (1)و يبدو لي أن معنى اللطيف أنه تعالى يدبر شؤون خلقه بدقة و يسر و تنوع حكيم الى حد قد يسير الإنسان في تطبيقها بدوافع لا تبدو واضحة له ، كما أشار القرآن الى ذلك بقوله : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " (2)و الكثير من الناس يخططون لأنفسهم ، ولكنهم عند تطبيق ما رسموه يكتشفون عقبات جديدة لم يحتسبوها ، بينما يأتيهم ما تمنوه سعيا من حيث لم يحتسبوا ، مما يدل على أن ما يدبره الرب من شؤونهم أكبر بكثير مما خول اليهم منها .
وهذا من آيات لطف الله في تدبير الأمر ، و إليه أشار الإمام علي (ع) :
" عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، و حل العقود ، و نقض الهمم " (3)ومن تدبر حياة الناس وجد الكثير ممن يتمنون مستقبلا معينا ينتهون الى غيره ، فالذي قدر أن يصبح مهندسا أضحى عالما بالدين أو تاجرا ، لأن الله لم يجعل رزقه إلا في هذه المهنة أو تلك ، فلماذا يختلف الناس إذن ، و يشعلون نار الصراعات بينهم من أجل لقمة العيشالتي يقدرها الله ؟!
[ يرزق من يشاء ]
وما دام الرزق مضمونا من عند الله فلماذا اكتساب الموبقات ، و ابتداع المذاهب(1) مجمع البيان / ج 9 - ص 27
(2) لقمان / 34
(3) نهج البلاغة / حكمة 250 - ص 511
الباطلة ، و الشرك بالله عبر تأييد السلطات الظالمة ؟
إن دوافع الشرك كثيرة ، ولكن من ابرزها طلب الرزق ، و الحديث المأثور بالتالي يقص علينا حياة واحد من الذين اشركوا بربهم طلبـا للرزق الحرام ، وكانت نهايتهم السوئى ، وفيه عبرة مؤثرة :
قال الإمام الصادق (ع)
" كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها ، و طلبها من حرام فلم يقدر عليها ، فأتاه الشيطان فقال له : يا هذا إنك قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها ، و طلبتها من حرام فلم تقدر عليها ، أفلا أدلك على شيء تكثر به دنياك ، و يكثر به تبعك ؟ قال : بلى ، قال تبتدع دينا ، و تدعو اليه الناس ، ففعل ، فاستجاب له الناس ، و أطاعوه ، و أصاب من الدنيا ، ثم فكر فقال : ما صنعت ؟ ابتدعت دينا و دعوت الناس ! ما أرى لي توبة إلا ان آتي من دعوته اليه فأرده عنه ، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوهفيقول لهم : إن الذي دعوتكم إليه باطل ، و إنما ابتدعته ، فجعلوا يقولون : كذبت وهو الحق ، ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه ، فلما رأى ذلك عمد الى سلسلة فوتدها وتدا ثم جعلها في عنقه ، وقال : لا أحلها حتى يتوب الله عز وجل علي ، فأوحى الله عز وجل الى نبي من الأنبياء : قل لفلان ، وعزتي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك ، حتى ترد من مات الى ما دعوته اليه فيرجع عنه " (1)ولو أن الانسان اتبع منهاج الرسالة لرزقه الله بصورة أو بأخرى ، قال الله : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب " . (2)(1) بح / ج 72 - ص 219
(2) الطلاق / 2 - 3
[ وهو القوي العزيز ]
العزيز هو المهيمن ، و السلطان المقتدر الذي يفرض أمره على الناس .
[20] ولكي يهذب القرآن دوافع الكسب عند الانسان حتى لا يبعثه نحو الشرك بالله و الصراع مع أقرانه ، يقارن بين ما يكتسبه الانسان لدنياه وما يسعى اليه لآخرته ، فيقول :
[ من كان يريد حرث الأخرة نزد له في حرثه ]
حيث يبارك الله له في سعيه الأخروي ، و يضاعف له الجزاء عند الحساب ، فإذا بعمله يتنامى من حين قيامه به حتى يجزى عليه ، أولم يقل ربنا : " مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم " . (1)
ولكن الذي يريد الدنيا بسعيه فإنه لا يحصل على كل أمانيه و إنما يحصل على جزء منها ، ثم إنه يعدم أي نصيب له في الآخرة .
[ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الأخرة من نصيب ]إذن فعليه أن يسعى من أجل الآخرة عبر القرآن الذي ليس فقط يهدي الى العلاج السليم بل و ايضا يتضمن العلاج بذاته ، وهنا يعالج حرص النفس البشرية على الدنيا بإيصال فكر الانسان بالآخرة من خلال التذكير بها ، و حثه على أن لا يجعلها همه الأكبر فيختلف بسببهامع الآخرين ، أو يتصورها محور الحياة الذي
(1) البقرة / 261
يؤول الأمور على ضوئه ، كما فعل ماركس حين اعتبر الإقتصاد و الطبقيـة أساس الصــراع .
إنه لا يمكن علاج مشاكل الأنسان السياسية و الإجتماعية و غيرها إلا إذا ترفع عن التبعية المطلقة للدنيا و لشهواتها ، ولو تساءلنا عن علة نمو الرأسمالية في أي بلد ، الذي ينتهي الى تسلط الأغنياء على الأمم ، لوجدناه حب المال الذي يجعل الناس عبيدا و أصحابالثروة آلهة مزيفة .
ومن جهة أخرى يمهد للحكم الطاغوتي ، فإذا بمجموعة من الناس يتسلطون على الناس من خلال سيطرتهم على خيرات الشعوب و مواردها الإقتصادية ، الأمر الذي ينتهي الى الفساد السياسي ، ولو فكرنا عميقا في عوامل الفساد السياسي في السياسة ، لرأينا الطمع و الخوف و الجهل من أبرز هذه العوامل . ولعل عامل الطمع الناشئ من حب الدنيا في رأس القائمة ، لا فرق في ذلك بين النظام الرأسمالي و الإشتراكي ، فبينما يدير أصحاب الثروة كـ ( روكفلر ) من خلال شركاتهم التي تحتكر الموارد الإقتصادية الأمريكية بصورة غير مباشرة ، نجد الحزب في أي بلد شيوعي يدير السياسة من خلال سيطرته على الموارد الإقتصادية أيضا ، و بالتالي السيد الحقيقي هنا وهناك واحد وهو المال ، بالرغم من اختلاف طريقة الحصول عليه ، ففي النظام الرأسمالي يحتكر أصحاب الثروة ( وهم في الواقع أرباب السلطة الحقيقية ) المال باسم الملكية الفردية ، بينما نجد في النظام الشيوعي يحتكر أصحاب السلطة الثروة ( وهم في الواقع الرأسماليون الجدد ) باسم الملكية الجماعية ، وهنا و هناك المال .
و حتى سبب خضوع الشعب واحد وهو حبه للمال ، سواء كان هذا المال بيد الدولة أو كان بيد أصحاب الثروة .
فمن أجل تلافي معظم الصراعات البشرية لابد من معالجة نقطة الضعف الرئيسية عندهم وهي عبادة الثروة لكي لا تصبح أداة السلطة الفاسدة ، و سببا للحروب التي أفنت لحد الان أضعاف ما افنته سائر أسباب الوفــاة كالمجاعات و الأمراض ، و الكوارث الطبيعية ، ولو حاولنا التقرب الى هذه الفكرة أكثر يجب أن نعرف بأن مصطلح المصالح الأمريكية ، أو المصالح الروسية أو ما إلــى ذلك هـو التعبير الواضح عن اللهث وراء الدنيا ، أولم تدفع هذه المصالح الإدارة الاميريكة لقتل الملايين في فيتنام و كمبوديا و السلفادور و .. و .. ؟ أولم تدعو هذه المصالح الحزب الشيوعي الروسي لقتل الملايين في أفغانستان و غيرها ؟!
[21] ثم هل يكتفـي الانسان بخوض الصراعات ، و إفساد البلاد و العباد ، و حسب ؟ كلا .. بل يسعى لتبرير تصرفاته و مواقفه من خلال دين يصطنعه لنفسه ، ولو درسنا الواقع الثقافي و الإعلامي في عالم اليوم لانتهينا الى نتيجة واحدة ، هي أن أكثر الأيديلوجيات و الثقافات منتزعة من الواقع المصلحي للانسان ، فمن أجل حماية مصالحهم تجد هذه الدولة أو ذلك الحزب يبتدعون الأفكار و النظريات المختلفة ، فإذا بالصعاليك يؤسسون نظرية الصراع الطبقي ، بينما يبتدع المترفون أيديلوجية النخبة ، و القرآن يستنكر هذا النهج و يعتبره صورة من صور الشرك .
[ أم لهم شركآؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ]إن الشريعة التي ينبغي للانسان اتباعها و الخضوع لها هــي الموحاة من الله وحده ، أما الشرائع و القوانين التي يبتدعها البشر ولا يرتضيها الرب فإن اتباعها شرك به عز وجل ، و التدبر العميق في هذه الآية يهدينا الى أن الذي يشرع قانونا مخالفا لشرع الله إنماينصب نفسه إلها من دونه ، و الذي يسمى في القرآن دينا ليس القوانين الفيزيائية و الكيميائية ، إنما القوانين السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و .. و ..
التي تحكم الناس ، وهذه لا يجوز لأحد أن يسن منها شيئا إلا على ضوء شرع الله ، ومن خلال رسالته .
وبعد أن يهدد القرآن - في آية سبقت - الذين يثيرون الصراعات السلبية ، أو يشرعون القوانين ، يتوعدهم ربنا في هذه الآية بعذابه الأليم ، محذرا لهم من أن تأجيل العذاب ليس دليلا على الإهمال ، إنما لأنه وعدهم بإعطائهم الفرصة لبيان طبيعتهم ، والتي لولاها لأخذهم بالعذاب فور المعصية .
[ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وأن الظالمين لهم عذاب أليم ]و تكاد تتميز هذه الكلمات إنذارا ، فلولا عهد الله على نفسه بإعطاء الفرصة لهم لكفت هذه الجريمة ( إبتداع نظرية في غير إطار الشريعة ) سببا للقضاء عليهم قضاء تاما ، ولكن تلك الكلمة وذلك العهد يؤجل العذاب العظيم ولا يرفعه أبدا ، وإن الشرك ظلم بذاته وهوينتهي الى الظلم أيضا ، إذ لا يمكن للنظام الشركي أن يكون عادلا أبدا ، و نستوحي هذه البصيرة من تبديل كلمة المشركين بالظالمين .
[22] وفي يوم القيامة حيث تنصب الموازين الحق للجزاء يخاف الظالمون من أعمالهم السيئة التي اجترحوها في الدنيا ، فهي حينئذ تصير ألوانا من العذاب ، و لكن هل يمنع هذا الخوف عنهم شيئا ، كلا .. بلى . لو أنهم خافوا من ارتكاب المعاصي في الدنيا لنفعهم خوفهملأنه حينذاك يصير سببا للتقوى ، أما يوم القيامة فلا ..
[ ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ]
أي ينزل عليهم سواء أشفقوا أم لم يشفقوا .
و يأخذنا القرآن في المقابل الى منظر مناقض آخر ، هو منظر المؤمنين الذين تحول إيمانهم و عملهم الصالح الى جنة و رضوان من الله .
[ والذين ءامنوا و عملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ]و أي رياض هذه التي يرزقها المؤمنون ؟! دعنا هنا نقرأ شيئا من كلام أمير المؤمنين عنها ..
يقول (ع) :
" فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها و لذاتها ، و زخارف مناظرها ، و لذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار ، غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها ، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها ، تجني من غير تكلف فتأتي على منية مجتنيها ، و يطاف على نزالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة ، و الخمور المروقة ، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار ، و أمنوا نقلة الأسفار ، فلو شغلتقلبك أيها المستمع بالوصول الى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة ، لزهقت نفسك شوقا إليها ، و لتحملت من مجلسي هذا الى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا الله و إياكم ممن يسعى بقلبه الى منازل الأبرار برحمته " (1)(1) نهج البلاغة / خ 165 - ص 239
|