فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[37] هناك بعض المجتمعات تحصر الدين في اتباع بعض الطقوس دون التوجه الى القضايا المصيرية الهامة التي تكلفهم الإيثار و الجهاد و الشهادة ، ففي الوقت الذي يبنون المساجد و دور العلم تراهم لا يتورعون عن ظلم بعضهم ، ولا يدافعون عن أحكام الله ، وإنما يهتمالقرآن ببيان صفات المجتمع المسلم في كثير من سوره و بصورة مجتمعة لكي يعطينا صورة متكاملة عنه نعيش بها مجتمعنا ، و نعرف مدى قربه و بعده من المجتمع الذي يبشر به القرآن .

ومن أبرز صفـات المجتمع الإسلامي السعي من أجل اجتناب كبائر الإثم و الفواحش ، حيث يجب أن يتنظف المجتمع المسلم من الجاهلية بكل أبعادها الثقافية و الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية .

[ والذين يجتنبون كبائر الإثم ]

وهي - كما يبدو - الذنوب الاجتماعية و الإعتداء على حقوق الناس ، و قيل بأنها الشرك ، ولا ريب أن الشرك أفحش ظلم ، و أعظم ذنب ، و هذا التفسير نسبالى ابن عباس ، و قيل بأنها البدع و الشبهات ، و بالتالي الضلالة الثقافية ، وهي بدورها من الذنوب الإجتماعية ، وقال البعض بأنها مطلق الذنوب التي أوعد الله عليها النار في القرآن أو ثبت بحجة قوية أنها من كبائر الذنوب .

[ و الفواحش ]

وهي الذنوب الشخصية ، كالزنا ، و اللواط ، و شرب الخمر ، و اجتنابها هذه من أهم الصفات التي يجب توفرها في مجتمع المؤمنين الفاضل .

[ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ]

إنهم حينما يختلفون مع بعضهم أو مع الآخرين ، و حينما يسيء أحد إليهم ، يؤثر ذلك في نفوسهم ، ولكنهم لا يحولون تلك الآثار الى صراع ، بل يعودون الى القرآن والى سائر التعاليم ، ليجعلوا ذلك حكما فاصلا بينهم ، فتراهم بدل ان يختلفوا فيه يختلفون إليه .


و لعل من العوامل الإساسية التي تجعلهم يتجاوزون سورة الغضب الى سعة الصدر و سماحة الحلم أهدافهم السامية ، فهم يؤمنون بأن غضبهم و حدتهم يجب ان يصرفا في الصراع مع العدو ، بينما الذين تتضاءل أهدافهم في أعينهم تراهم يصبون جام غضبهم على أنفسهم ، و يساهمون في تحطيم مجتمعهم بأيديهم .

و العفو صفة سامية جدا لأن هناك من لا يملك نفسه عند الغضب فتراه يتجاوز حدود الشرع و العقل و الأعراف ، و يهدم في لحظة ما بناه في عقد من الزمن .

و المؤمن ليس فقط لا يخرجه رضاه و غضبه عن حدود الله بل و يتجاوز غضبه الى العفو .


جاء في الحديث المروي عن الإمام الباقر (ع) :

" من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنا و إيمانا يوم القيامة "وقال :

" من ملك نفسه إذا رغب و إذا غضب حرم الله جسده على النار " (1)و روي عن رسولنا الأكرم (ص) أنه قال :

" ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا و الآخرة : العفو عمن ظلمك ، و تصل من قطعك ، و الإحسان الى من أساء إليك ، و إعطاء من حرمك " (2)[38] ومن صفات مجتمع الشورى إيمان أفراده بخط واحد ، فلا يسمى اجتماع خليط من المذاهب المختلفة بمجلس شورى ، إذ كيف يشترك من يكفر بإله الكون أو يشرك به مع من يؤمن بالتوحيد و بالإسلام في مجلس واحد ؟!

[ و الذين استجابوا لربهم ]

فهم يلتقون في خط واحد هو خط الإمام المطاع بإذن الله .

[ وأقاموا الصلاة ]

بطقوسها و قيمها .. ثم يؤكد ربنا مباشرة على صفة التشاور كأبرز صفة للمؤمنين ..


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 582

(2) المصدر


[ و أمرهم شورى بينهم ]

وإنما تقدم ذكر الإستجابة لله ، و إقامة الصلاة بشروطها ، لأنهما ضرورتان لكي تكون الشورى ذات فاعلية إيجابية في المجتمع .

وهناك ثلاث نظريات في الشورى :

الأولى : تقول بأن الشورى " حق " ، و الثانية : ترى أنها " واجب " ، و تجمع الثالثة بين النظريتين ، و بالذات في المسائل العامة التي تتعلق بمصير الأمة و شؤونها ، فعلى ضوء هذه النظرية لا يجوز لحاكم الشرع ولو كان الفقيه العادل أن يجري الأمور في إدارته للأمة كما يريد ، وإنما يجب عليه أن يستشير الآخرين ، و يجمع علمهم و عقلهم الى ما عنده ، ثم يتخذ القرار على أساس هذه المشورة ، كما يجب من جهة أخرى على الآخرين أن ينصحوه ، ومن أبرز الواجباب الإسلامية النصيحة لولي الأمر .. وهكذا روي عنالرسول (ص) :

ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي الى الرشد "

ولأن الشورى انعكاس لروح الإيمان فهي تتسع لسائر مرافق حياة الجماعة المؤمنة ، ابتداء من الإسرة ، و انتهاء بالدولة ، و مرورا بالمرافق الإجتماعية و الإقتصادية ، و الشؤون البلدية و القروية . إنها أكثر من مجرد نظام سياسي ، بل تشكل جوهر العلاقة بين المؤمن و أخيه المؤمن ، لأنها نابعة من احترام المؤمن و رأيه ثم التسليم للحق ، و البحث عنه أنى وجد .

وحين تكون الشورى صبغة المجتمع المسلم تضمن حرية الرأي ، وحق الإنتخاب ، و واجب المساهمة في صنع القرار السياسي ، بل و تكون كل هذه المفاهيم ذات هدف مقدس .


ولقد رسم الدين منهج الحكم في قيادة أولى الناس بالنبي (ص) ، وهم الأكثر علما و الأتقى عملا و الأكفأ إدارة ، وجعل على الناس واجب التعرف على هذا القائد ، و انتخابه حاكما عليهم ، فإذا فعلوا وجبت طاعته ضمن إطار المشورة .

فجاء في الحديث الشريف :

" من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فعلى العوام أن يقلدوه "" أنظروا الى رجل منكم قد روى حديثنا ، و عرف حلالنا و حرامنا ، فاجعلوه حكما فإني قد جعلته حاكما "وبهذا يتكفل الإسلام حرية الراي في انتخاب أعلى قيادة في الأمة ( بالطبع ضمن الأطار الديني للمجتمع ) ولكن لا ينتهي دورالأمة عند هذا الحد بل يجب على الإمام آنئذ استشارة الأمة ، ثم العزم على رأي و التوكل على الله في تنفيذه ، كما قال ربنا : " و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " (1)

وهكذا كان يفعل النبي (ص) و الأئمة من أهل بيته حسبما روي معمر بن خلاد عن الإمام الرضا (ع) قال :

" هلك مولى لأبي الحسن الرضا يقال له سعد فقال : أشر علي برجل له فضل و أمانة ، فقلت : أنا أشير عليك ؟ فقال شبه المغضب : إن رسول الله كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد الله " (2)إن الراي الأخير يكون للقائد المنتخب الذي يجتهد في سبيل استنباطه من قيم(1) آل عمران / 159

(2) موسوعة بحار الأنوار / ج 72 - ص 101


الدين ، ولكن لا يتعجله بل يسعى إليه عبر مشورة الرجال ، يروي في ذلك علي بن مهزيار عن الإمام الجواد و يقول : كتب إلي أبو جعفر أن : سل خلافا يشير علي و يتخير لنفسه ، فهو يعلم ما يجوز في بلده ، و كيف يعامل السلاطين ، فإن المشورة مباركة ، قال الله لنبيه فيمحكم كتابه : " فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " فإن كان ما يقول مما يجوز كنت أصوب رايه ، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله " (1)ومن خلال النصوص الإسلامية التي تأمر بالإستشارة نتبين أن أفضل الأنظمة الإقتصاية في الإسلام هي التي تجمع أكبر قدر من صفة الشورى ، ولعلها التعاونيات الإقتصادية التي نستوحي أهميتها أيضا من مجمل القيم الإيمانية كالتعاون و الإحسان و الإيثار و حرمة الترفو حرمة سيطرة الأغنياء على مقاليد السلطة .

وقد حددت النصوص معالم الشورى في الحياة الإجتماعية ، فقد روي عن رسول الله (ص) :

" استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا " (2)و روي عن الإمام الصادق (ع) :

" استشر في أمرك الذين يخشون ربهم " (3)

وقال رسول الله ، وهو يوصي أمير المؤمنين (ع) :


(1) المصدر / ص 104

(2) المصدر / ص 100

(3) المصدر / ص 101


" يا علي لا تشاور جبانا فإنه يضيق عليك المخرج ، ولا تشاور البخيل فإنه يقصد بك عن غايتك ، ولا تشاور حريصا فإنه يزين لك شرهما ، و اعلم يا علي أن الجبن و البخل و الحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن " (1)و مثلما أمر الإسلام بالمشورة أمر المستشار بالنصح ، فحرام أن يمحضك أخوك المؤمن ثقته ثم تخونه بالرأي الباطل و الرأي الفطير ..

قال الإمام الصادق (ع) فيما روي عنه :

" من استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه الله عز وجل رأيه " (2)و بين الإسلام كيف ينبغي أن يشير من يطلب منه الرأي ، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) :

" ولا تكونن أول مشير ، و إياك و الرأي الفطير (3) ، و تجنب ارتجال الكلام ، ولا تشر على مستبد برأيه ، ولا على وغد (4) ، ولا على متلون ، ولا على لجوج ، و خف اللــه في موافقة هدى المستشير فإن التماس موافقته لؤم ، و سوء الإستماع منه خيانة " (
5)

و كلمة أخيرة : إننا نسعى جميعا نحو رحاب الحرية ، و نطالب أولي الأمر بها . أفلا نبدأ بأنفسنا و نشبع أجواءنا بعبق الحرية ، و نبادل الرأي فيما بيننا ؟ أفليس أحق الناس بالخير الدعاة إليه ؟


(1) المصدر / ص 99 .

(2) المصدر / ص 102 .

(3) قالوا : الرأي قبل التروي و التعمق .

(4) الدني الضعيف رأيا و عقلا .

(5) المصدر / ص 104


أوليس أقرب السبل الى الحرية جعلها واقعا يعيش بيننا ؟ أوليست الحرية سلاحا نستخدمه ضد من يصادرها ، وهي قوة تهاب ، و جمال يستهوي اللباب ؟

دعنــا إذا نبدا بأنفسنا و داخل أطر التحرك الديني بالذات ، فتشاور في سائر شؤوننا ، ذلك لأن الحاجة الى المشورة تزداد عندما تخوض الأمة صراعا حضاريا مع الكفار و المنافقين ..

فقد روي عن الإمام الصادق (ع) :

ما يمنع أحدكـــم إذا ورد عليه مالا قبل له به أن يستشير رجلا عاقلا له دين و ورع ؟ ثم قال : أما إنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله ، بل يرفعه الله و رماه بخير الأمور ، و أقربها الى الله " (1)وقال الرسول (ص) :

" الحزم أن تستشير ذا الرأي و تطيع أمره " (2)وقال الإمام علي (ع) :

" الإستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه " (3)ثم و بعد التعرض للشورى يسرد لنا القرآن مجموعة أخرى من صفات المؤمنين التي تتكامل و صفة الشورى فيقول :

[ ومما رزقناهم ينفقون ]


(1) المصدر / ص 102

(2) المصدر / ص 105

(3) المصدر / ص 104


سواء كان رزقا ماديا كالمال و الثروة ، أو معنويا كالحكمة و العلم ن فإن المؤمنين ينفقون منه في سبيل تقدمهم جميعا ، ولا ريب أن المجتمع البخيل الذي ينحصر أبناؤه في حدود أنفسهم و مصالحهم لا يستفيد من الشورى ، لأن تبادل الأفكار و المعلومات و الخبرات يستدعي تبادل المنافع ، و دائما يكون وراء مبادلة الخبرات التي تنفع اقتصاديا مبادلة للأفكار ، إذ لو لا وجود حالة العطاء و الكرم ، و بالتالي الخروج عن نطاق الذات ، إذن لما أمكن الإنسان الجلوس و التفاوض مع الآخرين ، ولذلك جاء لنا التأكيد القرآني على الإنفاقبعد الحديث عن الشورى .

[39] وهناك مسألة أخرى تتصل بموضوع الشورى اتصالا متينا وهي قضية الكرامة في حياة المجتمع و الفرد ، والتي من خلالها يتحدد مصير الحرية ، ذلك أن تحسس الإنسان بكرامته هو الذي يدعوه للتحرر و رفض الضيم .

و المجتمع الذي يبقى يدور في حدود المطالبة بالحرية زاعما بأنها ستأتيه على طبق من الذهب لا يفلح أبدا ، لأنه عندما يستجديها ممن سلبها منه فإنه يثبت له بأنه ليس أهلا للحرية و لا للكرامة ، و إنما أهل الحرية هم الذين يأخذون حريتهم بالقوة ، و يستعيدون كرامتهم بدمائهم ، ولذلك أكد القرآن وفي هذا المقطع بالذات على فكرة هامة هي أن الشورى التي تعد تعبيرا عن الحرية و الكرامة لا تعطى للمجتمع ، و إنما يجب أن تؤخذ بالقوة ، وهذا يهدينا الى ضرورة الجهاد و التضحية من أجلها .

[ والذين إذآ أصابهم البغي هم ينتصرون ]

و الضمير المنفصل " هم " يأتي هنا للتأكيد على أن المؤمنين لا ينتظرون أحدا لينتصر لمظلمتهم ، وإنما يسعون بأنفسهم لرفع البغي عن أنفسهم ، وفي الآية فكرتان : الأولى : إن هؤلاء يقاومون البغي و يستعيدون حقوقهم بالقوة ، و الثانية :


إنهم ينصر بعضهم بعضا في هذه المقاومة ، فإذا سعى الظالم للبغي عليهم و قهرهم وقفوا جميعهم صفا واحدا ضده .. و يتساءل البعض : لماذا أمرنا الله - إذا - بالعفو في آيات عديدة ؟ و الجــواب : إن التعافي إنما هو بين المؤمنين ، أما إذا كان العفو سببا لتمادي الظالم في ظلمـــه فإنه لا يكون حسنا ، جاء في الحديث المأثور عن الإمام زين العابدين (ع) :

" و حق من أساءك أن تعفو عنه ، و إن علمت أن العفو يضر انتصرت ، قال الله تعالى : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " (1) .

[40] و حيث توجد بعض الجوانب السلبية في نفس الإنسان ، فإذا به وهو يجاهد لمقاومة الظالم يصبح أظلم منه ، أو ينشر الفساد و البغي تحت راية المقاومة ، أكد القرآن على ضرورة التقوى في المقاومة ، وأن لا يتعدى المؤمنون حدود الله في جهادهم للظلم و الظالمين ،بل و يدعوهم للعفو و الإصلاح ما استطاعوا إليه سبيلا .

[ و جزاؤا سيئة سيئة مثلها ]

فالمقابلة مشروعة ولكنها محدودة بالتماثل إذ قال ربنا : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (2)وهذا التأكيد من قبل الله على التماثل مهم جدا ، لأن النفس البشرية تزلزلها ردات الفعل و تخرجها من حد المعقول ، فإذا بالضربة الواحدة تقابل عندها بعشر ضربات مثلها تشفيا و إنتقاما و علوا و إستكبارا ، وهذه المعادلة مرفوضة بتاتا في كتاب الله .


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 585

(2) البقرة / 194


لذلك ينبغي ومن أجل الإحتياط و عدم مخالفة قانون التماثل في القصاص ، أن يأخذ الإنسان أقل من حقه ولو بقليل ، و المثل الذي يقول : ( نرد الصاع بصاعين ) لا يصلح قاعدة للقصاص عند الإسلام ، وإنما الصاع ينبغي أن يقابل فقط بصاع ، كما قال القرآن الحكيم في معرض حديثه عن بني إسرائيل : " و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن ، و السن بالسن و الجروج قصاص " (1)و يرتفع الإسلام بأتباعه الى قمة الفضيلة و الإحسان بدعوته للعفو .

[ فمن عفا و أصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ]و الدعوة للعفو هنا لا تدل على أن ربنا يأمر بغض النظر عن الظالمين ، أو انه سبحانه يدافع عنهم ، كلا .. فهو لا يحب الظالمين كما تشير الى ذلك خاتمة هذه الآية الكريمة ، ولكن الإنسان لا يمكنه أن يحكم قطعيا على الآخرين بالظلم من خلال تعامله اليومي مع الناس ، فبرغم أن فلانا ظالم استنادا الى بعض ممارساته فيقع فيما وقع فيه الظالمون من البغي على الناس زعما بأنهم إنما يستردون منهم حقوقهم المسلوبة فينبغي له أن يعفو عن الناس ما أمكنه ذلك ، و بالذات إن العفو في كثير من الأحيان يكون نفسه دافعا قويا للمسيء نحو التوبة و الإعتدار ، وبالتالي الإصلاح ، وهذا الأمر هو الذي يجعل من العافي مصلحا ، حسبما تشير الآية إليه .

أما الذين يتسرعون و يغضبون لأتفه الأسباب ، أو لمجرد بعض الأخبار التي ينقلها المغرضون ، فيثيرون النزاع بين المؤمنين ، فإنهم لا يقاومون الظلم في الواقع ، لأنهم لن يستأسدون على الضعفاء ، بينما يستسلمون للأقوياء ، فهم كما قال الشاعر : أسد علي وفي الحروب نعامة ، بينما المجتمع الفاضل هو الذي تسود


(1) المائدة / 45


علاقاته الداخلية فضيلة التعافي و الإيثار ، و يدخر قوته و غضبه لمقاومة الظالمين و الجبابرة .

وما أحوجنا اليوم ونحن نعيش ظروف الصراع مع أعداء الدين الى التعافي بيننا ، ولو عرفنا ما في العفو من ثواب عظيم لاستصغرت في أعيننا المكاسب الجزئية التي ترتجى من صراعنا الداخلي أو انتصارنا من بعضنا البعض ، هكذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (
ع) قال : قال رسول الله (ص) :

" عليكم بالعفو ، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا ، فتعافوا يعزكم الله " (1)ولعل العزة تأتي عبر انتصارهم على عدوهم بما يوفره التعافي عن بعضهم من التماسك الداخلي ، و ربما تشير الرواية التالية الى هذه الحقيقة ، إذ تقول ( نقلا عن الإمام أبي الحسن (ع) ) :

" ما التقت فئتان قط إلا نصر الله أعظمهما عفوا " (2)[41] و ينقض القرآن جانبا من الأفكار السلبية التي ينشرها البعض في الأمة ، من قبيل أن مقاومة الظالمين و الثورة ضد الإنحراف هي السبب في اضطراب الأوضاع و انحسار الأمن ، بينما السبب هو ظلم السلطة الحاكمة و انحرافها ، فالظلم هو السبب في انعدام الأمن ، وليس رد الظلم من قبل المجاهدين .

[ و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ]

فلا يجوز إذن أن نلقي باللوم عليهم ، لأنهم يطالبون بحقوقهم المشروعة ، و بهذا(1) المصدر .

(2) موسوعة بحار الأنوار / ج 68 - ص 424


يقطع القرآن الكريم ألسنة ضعفاء النفوس و مرضى القلوب الذين يقفون دائما مع القوي ضد الضعيف .

[42] إذن فعلى من يقع اللوم ؟ ومن هو المسؤول عن الواقع الفاسد ؟ إنما المسؤول الأول عن مشاكل الصراع هم الحكام الظلمة الذين يريدون السيطرة على الناس و نشر الفساد .

[ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق ]فالقوى الإستكبارية التي تسعى لبسط سلطانها الفاسد على الشعوب و أنظمتها العميلة هي المسؤولة عن مشاكل الشعوب و مآسيها ، أما دفاع الناس عن أنفسهم و عن مصالحهم فهو جهاد مشروع لاسترداد الحقوق الضائعة .. و الإرهاب هو السياسة التي يقوم بتطبيقها المستكبرونو الأنظمة الرجعية العميلة لهم ، وليس ما يضطر إليه المصلحون و المدافعون عن حقوقهم .. و يتوعد ربنا الطغاة بأشد العذاب .

[ أولئك لهم عذاب أليم ]

قد يرونه في الدنيا و ربما يتأخر الى الآخرة .

[43] وإذا كنا نريد الإنتصار على هؤلاء الظلمة فنحن بحاجة ماسة الى الصبر ..

أولا : الصبر و الإستقامة أمام إغراءات العدو ، فالظالم يبث في المجتمع ألوانا من الأحلام و الأماني و كلها كاذبة ، ثانيا : الصبر لتحدي إرهاب العدو و قمعه ، ثالثا : الصبر لمقاومة الإستعجال و الإرتجالية في أنفسنا و عند أصدقائنا ، فما أحوجنالذلك ونحن نسعى لتنظيم أنفسنا و أمورنا استعدادا لمحاربة العدو .

[ ولمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور ]

و العزم في الأمور هو أن لا يأخذ الانسان الأمور مأخذا هينا دون التخطيط الدقيق لها و السيطرة عليها ، بل الحسم و الإرادة القوية لتحقيق الأهداف المنشودة ، بعيدا عن روح التشفي ، وذلك لا يتأتى إلا بالصبر و الحلم .

و يبدو أن هذه الآيات و بالذات الأخيرة منها تهدف - فيما تهدف - تربية نفوس المؤمنين على مقاومة الترف و التعجيل و فورات الغضب التي تصيبهم في لحظات الضعف فتذهب بحلمهم و أناتهم و رفقهم و تلطفهم ، و ربما كشفت عن واقعهم ، و أفسدت خططهم الرسالية .

بينما حاجة المؤمنين الى الصبر بانتظار اللحظة المناسبة حاجة مضاعفة ، من أجل ذلك أوصى أئمة الهدى المجاهدين ضد الطاغوت بكظمهم الغيظ ، و اعتبروا ذلك من الحزم الذي يساهم في نجاح المهمات الصعبة .

قال الإمام الصادق (ع) :

" كظم الغيظ من العدو في دولاتهم تقية ( تقاة ) حزم لمن أخذ به ، و تحرز عن التعرض للبلاء في الدنيا ، و معاندة الأعداء في دولاتهم ، و مماظتهم (1) في غير تقية ترك لأمر الله ، فجاملوا الناس يسمن ذلك لكم عندهم (2) و لا تعادوهم فتحملوهم على رقابكم فتذلوا " (3)


(1) المماظة : شدة الخلق و المنازعة .

(2) اي ينمي قدركم عندهم .

(3) المصدر / ص 49


و يبلغ بالإمام زين العابدين التأكيد على كظم الغيظ تقية درجة يقول :

" وددت أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض ساعدي ، النزق و قلة الكتمان " (1)و تزداد صفة العفو أهمية عند المقدرة ، و بالذات عند سيطرة فريق على آخر ، وما أحوج حكام المسلمين اليوم الى هذه الصفة الإيمانية التي كانت رمز بقاء الإسلام و انتشار نوره ، أفلا تأسوا برسولهم الكريم الذي عفى عن قريش بعد أن شنت عليه (17) حربا بكلمة واحدة قائلا : " إذهبوا فأنتم الطلقاء " و عفى عن قاتل حمزة عمه الكريم ، بالرغم من أن قتله أحدث في فؤاده جرحا نازفا ، بل و عفى عن تلك المرأة اليهودية التي سمته ، و سببت - بالتالي - في وفاته حسب بعض النصوص !

و يروي الإمام الباقر (ع) قصة عفوه عن اليهودية هكذا :

" إن رسول الله أتى باليهودية التي سمت الشاة للنبي فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت : قلت : إن كان نبيا لم يضره ، و إن كان ملكا أرحت الناس منه ، قال : فعفا رسول الله عنها " (2)إن خلق الرسول كان من أعظم أسباب انتشار نور الإسلام و عزة المسلمين ، وقد قال (ص) :

" ما أعز الله بجهل قط ، ولا أذل بحلم قط " (3)(1) المصدر / ص 416

(2) المصدر / ص 402

(3) المصدر / ص 404


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس