بينات من الآيات [44] في فاتحة الدرس و خاتمته نقرا عن ضلالة الله ، و أن من يضله الله لا ولي له ولا سبيل أمامه ، ولا ريب أن فقد الهداية أعظم مصيبة و أكبر خسارة ، وأن الله لا يضل أحدا إلا بسبب ارتكابه جريمة كبيرة . أوليس الله بأرحم الراحمين ، فكيف يحجب نور هدايته عنالبشر وهو لا يملك هاديا سواه ؟
وهنا يطرح السؤال التالي ، لماذا لا تكون الهداية إلا عبر النهج الإلهي ؟
إن للهداية شروطا ثلاثة وهي :
أولا : وجود نور من عند الله يهدي الإنسان الى الطريق .
ثانيا : وجود إرادة عند البشر يتغلب بها على شهواته و سائر العقبات التي تمنعه من رؤية النور .
ثالثا : انعدام الحجب التي تمنع النور ، كما الرؤية لا تتم إلا بضياء و بصر وألا يكون بينهما حجاب ساتر .
ولا تتوفر هذه الشروط لبشر إلا بإرادة الله تعالى . دعنا نفصل القول في ذلك ،فعن الشرط الأول نقول : من الذي يهب لنا العقل و العلم ؟ من الواضح أن العلم بوسائله القديمة و الحديثة عجز عن إصلاح ألياف المخ التي تتلف ، فكيف يعطي الإنسان نورا ؟ كما لا يزال الجنون لغزا أمام الطب و العلم البشري إلا بعض أنواعه البسيطة ..
كما أننا نمر في حياتنا بعهود ثلاثة يتضح لنا من خلالها أن العقل و العلم من عند الله عز وجل ، ففي عهد الطفولة يولد الانسان وهو لا يعلم شيئا " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون " (1)، وفي عهد القوة عندما يكون المرء في عز شبابه ، و حيث قواه العقلية و الجسمية و النفسية في أوج قوتهــا ، لا يكتشف إلا بعض الأمور ، وقد يفقد علمه بالنسيان و عقله بغلبة الغضب ، ثم يبدأ مسيرته المنتكسة علميا و جسميا و نفسيا ، فإذا به ينقص علمه " ومننعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون " (2) .. ومن الأمور التي تتكرر لكل بشر في جانب العلم من حياته أنه قد تبدو له بعض الأمور واضحة ولكن عقله يعجز عن استيعابها و إذا به يلهمها ألهاما ، و الى هذه الحقيقة يشير أكثر المفكرين و المبتكرين في كلامهم عن كيفيــة وصولهم الى المعرفة ، وإن كانت مذاهبهم تختلف في تفسير ماهية الإلهام و مصدره .
وفي النصوص الإسلامية نجد بيانا لحقيقة العلم ، ففي سورة العلق نقرأ : " إقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ و ربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم " (3) إذن فالقراءة وهي احدى طرق العلم و المعرفة لا تكون إلا بالله الذي يتكرر ذكر اسمه في أول كل سورة تذكيرا بذلك ، و الحديث(1) النحل / 78
(2) يونس / 68
(3) العلق / 1 - 5
المأثور عن الإمام الصادق (ع) يقول :
" ليس العلم بالتعلم ، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك و تعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية ، و اطلب العلم باستعماله ، و استفهم الله يفهمك " (1)و حينما نعود الى تجاربنا الشخصية في الحياة والى وجداننا و فطرتنا نكتشف بأن العلم ليس من ذات أنفسنا ، كما أنه ليس من ذات الأشياء ، وإنما هو حالة في قلوبنا مستجدة ، و بالرغم من وجود إثارات خارجية له إلا أنه غير تلك الإثارات ، بل مثله مثل العين التيتثيرها الأشياء بما فيها من أنوار إلا أننا لو لم نملك عينا لم تنفعنا إثارة الأشياء أبدا ، كذلك الإثارات التي تبدو عندنا أسبابا للعلم فمن دون حالة العلم لما نفعتنا شيئا . إذا العلم من عند الله .
الشرط الثاني : من الذي جعل لكل شيء علامة تدل عليه ، أوليس الله ؟ كما العين تبصر ولكن بشرط وجود النور المنعكس من الأشياء عليها ، كذلك العلم يكتشف الحقائق بشرط وجود دلالة منها عليها ، والله هو الذي جعل لكل شيء دلالة عليه .
وكل شيء يكشف عن نفسه من خلال إمارات و علامات ظاهرة ، فآبار النفط ، و عيون الماء ، و المناجم ، جعل الله لها جميعا آية تدل عليها ، فمثلا قديما كانوا يكتشفون المياه بواسطة غصن أخضر يمشون به في عرض الصحراء ، فإذا مال الى جهة ما تأكدوا من وجوده فيها . من الذي جعل هذه العلاقة بين الغصن و الماء ؟ إنه " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " (2) و الإمارات و الآيات التي أودعها(1) بح / ج 1 - ص 225
(2) طه / 50
الله في الخلق بمثابة النور الذي يكشفها للإنسان ، وقد قال رسولنا الأكرم (ص) :
" إن لكل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا "ولو أخفى الله شيئا ، ولم يجعل بينه و بين علم الإنسان علاقة ، فمن الذين يمكنه أن يهدينا إليه ؟ وفعلا أخفى الله عن علم الانسان أكثر مما أظهر .
الشــرط الثالث : و لأن الانسان يفقد قدرته على الرؤية و التمييز في بعض الحالات ، كالغضب الشديد ، أو الإهتمام بقضية معينة ، أو عند الشهوة ، إذ ينعدم حينها شعوره الداخلي ، فهو بحاجة الى إرادة قوية يتغلب بها عى تلك الحالات ، و الإرادة من الله " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " كما أن قوة الإرادة و ضعفها بيد الله ، ولولا تأييده لخارت أمام الضغوط ، وإذا لم يهتد أبدا .
[ ومن يضلل الله فماله من ولي من بعده ]
يستطيع هدايته أو إنقاذه من مصيره الأليم . فإذا كان يستحق النجاة فإن الله أحق بنجاته ، لأنه خالقه و بارؤه و أرحم به من كل شخص ، فمن لا يرحمه أرحم الراحمين ، ومن لا يسعه حلم الله الواسع و كرمه العظيم ، ترى هل من رحمة تسعه أو حلم أو كرم ؟!
و نقرأ في سورة الرعد : " له دعوة الحق و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " (1) والذي يتبع السبل الأخرى غير سبيل الله المتمثل في رسالاته و أوليائه ، فإنه يكتشف خطأه و ضلاله البعيد يوم القيامة ، أو حتى في الدنيا عند الجزاء .
(1) الرعد / 14
[ و ترى الظالمين لما رأوا العذاب ]
وقد انتهت الفرصة التي أعطيت لهم ليجربوا بها إرادتهم .
[ يقولون هل إلى مرد من سبيل ]
إنهم وقد انتهى بهم الظلم الى نار جهنم يتمنون الكرة ليختاروا هدى الله على ضلالات الشيطان ، ولكن هيهات ، هل تعود عقارب الزمن الى الوراء ، هل الشباب يرد الى العجــوزة المتهاوية ، أم تعود نضارة الطفولة الى من عركته السنين ، و بلغ من العمر عتيا ؟!
حقا تثير هذه الحقيقة النفس من أعماقها ، فأي خسارة كبرى تلحق بالظالمين ، بل أي ثمن يسوى في مقابل هذه الخسارة التي لا تعوض ؟!
[45] و تتواصل الآيات في بيان عاقبة الظالمين الذين لو تسنى لهم لماتوا ملايين المرات حسرة على التفريط في جنب الله ، وهم يتعذبون نفسيا و جسديا ، نفسيا لأنهم يشعرون بالذلة و المهانة بعد العلو و التكبر في الدنيا ، و جسديا لأنهم سيصيرون حطبا لجهنم .
[ و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ]
إن أهم العقبات النفسية التي تعترض طريق الانسان الى الهداية هو التكبر ، الذي أخرج إبليس من الجنة ، ولازال يخرج به إبليس أبناء آدم من رحمة الله الى غضبه و عذابه ، وعلى الإنسان أن يقاوم جموح النفس المتكبرة ، بتصور تلك اللحظة التي يعرض فيها المتكبرونعلى النار ، خاشعة نفوسهم من الذل .
وهذا الخشوع السلبي لا يتجاوزه الانسان إلا بخشوع الإيمان الإيجابي ، ولذلكجاء في الدعاء :
" اللهم ارزقني خشوع الإيمان قبل خشوع الذل في النار "و حيث تبلغ الذلة بالظالمين ذروتها يوم القيامة فهم لا يستطيعون الإلتفات الى من حولهم بكامل نظرهم و أعينهم ، وبالذات أولئك الذين أظهروا أنفسهم مظهر المؤمنين ، و خدعوا الناس في الدنيا ، و لذلك فإنهم حينما يريدون الإلتفات الى الناس ، أو حتى مجرد رفع طرفهم نحو الآفاق ، يختلسون النظرات ذلة و مهانة .
[ ينظرون من طرف خفي ]
بحيث لا يرون أحدا ، وهذه من طبيعة المجرم ، أو الإنسان حينما يصعد عنده الشعور بالذل .
وقال البعض : إن شدة العذاب تمنعهم من النظر الى النار ، ولكنهم ينشدون إليها خوفا منها و فرقا ، ولذلك تراهم ينظرون إليها من طرف خفي ، كالذي حكم عليه بالإعدام ينظر الى المشنقة نظرا خفيا ، بعكس الذي ينظر الى روضة غناء فإنه يملأ منها عينيه .
أما الصالحون فإنهم يستفيدون من هذا الموقف موعظة و عبرة ..
[ وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة ]بسبب ظلمهم و ضلالهم . لقد وفر الله سبحانه فرصة عظيمة للإنسان حيث أعطاه قوى نفسه ، و متعة بأهليه ، و الظالمون يفقدون هذه الفرصة ، فلا يعملون بأنفسهم عملا صالحا حتى يستفيدوا من طاقاتهم يوم القيامة ، ولا يربون أهليهمعلى العمل الصالح حتى يستفيدوا من حسنات ذريتهم يومئذ ، وهكذا تكون خسارتهم مضاعفة في ذلك اليوم الرهيب .
[ ألآ إن الظالمين في عذاب مقيم ]
أي دائم لا يخرجون منه .
[46] كما أن الظالمين يخسرون أنصارهم و أعوانهم يوم القيامة ، حيث تنقطع كل العلاقات و الروابط التي منعتهم في الدنيا من الإستقامة على الطريق ..
[ وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ]
وهذا المعنى يتكرر عشرات المرات في القرآن ، ولكن لماذا تؤكد الآيات على أن الذين يعتمــد عليهم الانسان و يتوسل بهم و يعبدهم ، كالطواغيت ، و أصحاب القوة و المال ، و أصحاب العلم الضال و الشهرة لن ينفعوه ؟ لأن من أعظم عوامل الضلالة أصحاب السوء الذين يغتر بهم الظالم فيتوغل في اغتصاب حقوق الناس اعتمادا عليهم . أفلا يتفكر أنهم لا ينفعونه شيئا يوم القيامة ؟!
[ ومن يضلل الله فماله من سبيل ]
إلى الهداية ، لأن السبيل الوحيد إليها هو سبيله .
وأخيرا :
نتساءل : ماهي علاقة هذه المجموعة من الآيات و الأفكار المستوحاة منها بموضوع الوحدة و معالجة الإختلافات الإجتماعية ؟؟
إن القرآن الحكيم يسعى لمعالجة جذور الفساد و الإختلاف ، ومن أهمهاالضلالة ، ذلك أن البعض يعرف الحقيقة بينما يجهلها البعض الآخر ، الأمر الذي ينتهي الى الخلاف في أغلب الأحيان ، و القرآن يعالج الضلالة البشرية مؤكدا بأن سببها الإبتعاد عن منهج السماء ، فإذا ما عاد الى الله و استجاب لدعوته اهتدى الى الحق ، و ابتعد عن التكبر الذي يقف بصورة أو بأخرى خلف الصراعات الإجتماعية .
|