فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[47] أعظم ما يعاني منه البشر الغفلة ، حيث تحيط بهم مشاكل يومية تنسيهم قضاياهم الهامة ، و عادة تحجب الشجرة الناس عن رؤية الغابة المترامية .. و يعالج الذكر هذه الحالة بالإنذار الصاعق من يوم القيامة حيث لا يمكن الفرار من أهواله .

[ استجيبوا لربكم ]

بالإستماع الى داعيه ، و التسليم للحق الذي نزل معه ، و الطاعة للقيادة التي أمر بها .

[ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ]

وهل يرد أحد ما يريده الله تعالى ؟

[ مالكم من ملجأ يومئذ ]

فلا أحد ينصر أحدا .

[ ومالكم من نكير ]

[48] و يعالج القرآن - وفي أكثر من آية - عقبة نفسية أمام تحمل مسؤوليةالايمان ، حيث ترى الإنسان ينتظر من يحمله الإيمان تحميلا ، و يزعم أنه ما دام لا يوجد من يكرههه على الإيمان فهو معفي عنه وعن التزاماته .

كلا .. الإيمان مسؤوليتك قبل أي شخص آخـــر . أوليست فائدته لك ، و خسارته - إن خسرته - عليك ، فماذا تنتظر ؟ إن الرسول ليــــس إلا مبلغ ، فإن شئت آمنت بحريتك ، و إن شئت اشتريت العذاب بما اخترته لنفسك من الكفر .

[ فإن أعرضوا فمآ أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ]وهذا دور كل قائد رسالي في أي مجتمع وأي زمان ، و كفى بذلك مسؤولية كبيرة يتحملها . وإذا ما أعرض الناس عما يدعوهم إليه فلا يدل ذلك على قصور في الرسالة ، ولا تقصير في القائد ، بمقدار ما يدل على ابتعادهم عن ميزان العقل الثابت ، و اتباعهم لطبائعهم المتقلبة ، والتي تتأثر بالضغوط و العوامل الخارجية ، و التي يستعرضها السياق هنا ليهدي الإنسان الى مراكز ضعفه ، لكي لا يستبد به الغرور فيكفر .

إن ضعف الإنسان يتمثل في تقلب حالته النفسية مع تقلبات الظروف الخارجة عن إرادته ، فهل تكون هذه الحالة ميزانا صالحا لتقييم الحق و الباطل ، أو منهجا سليما للسلوك ، أم لابد من اتباع الرسول .

[ وإنا إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ]

و توقف عند حدود النعمة دون التفكير فيما يترتب عليها من مسؤولية ، وقد نهى الله عن الفرح قائلا : " إن الله لا يحب الفرحين " (1) وقال في موضع آخر : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا و يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من


(1) القصص / 76


العذاب " (1) و الفرح المنهي عنه هو حالة الإشباع التي تؤدي الى الغرور أو نفي المسؤولية و الوصول الى الكمال . وهذا الشعور يوقف مسيرة التقدم عند الإنسان ، وعلى العكس من ذلك لو أشعر نفسه بأن أمامه مسؤوليات أخرى لم يؤدها ، فإنه يستشعر الحزن في نفسه لاعتقاده بالتقصير في عمله .

وهكذا أوصانا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حين قال :

" و اعلموا عباد الله ! إن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا و نفسه ظنون عنده ، فلا يزال زاريا عليها ، و مستزيدا لها ، فكونوا كالسابقين قبلكم ، و الماضين أمامكم ، قوضوا من الدنيا تقويض الراحل ، و طووها طي المنازل " (2)و أوصى الإمام الكاظم بعض ولده بذلك قائلا :

" يا بني عليك بالجد ، لا تخرجن نفسك عن حد التقصير في عبادة الله و طاعته فإن الله لا يعبد حق عبادته " (3)وهناك جانب آخر من طبيعة البشر هو اليأس عند المصيبة و الإبتلاء ، حيث ينسى نعم الله عليه بسبب مصيبة يتعرض لها في حياته ، مما يدل على مدى ضعفه .

ولماذا يكفر بالنعم ؟ لأنه فقد بعض المال أو أصابه شيء من المرض ، أفلا فكر في سائر نعم الله التي لا يزال يتقلب فيها ، ألا تذكر أيام الرخاء و الراحة عندما كان يفرح بالنعم و يحسب أنها دائمة لا تزول عنه أبدا ؟!

بلى . ينبغي أن يركز المبتلى نظره في سائر نعم الله عليه ، فيستعيد شخصيته ،(1) آل عمران / 188

(2) موسوعة بحار الأنوار / ج 68 - ص 231

(3) المصدر / ص 235


و يثق بربه ، و يسرع في مقاومة البلاء بروح إيجابية ، كما ينبغي أن يتذكر أبدا نعم الله السابقة عليه فيزداد بالله أملا وله حمدا كثيرا ، كما فعلت امرأة أيوب حيث حاول إبليس إغواءها عندما أحيط بها البلاء ، فنهرته و استقامت على صبرها و تجلدها حتى فرج الله عنها .. جاء في الحديث : إنه جاءها ذات يوم فقال لها : ألست أخت يوسف الصديق (ع) ! قالت : بلى . قال فما هذا الجهد ؟ وما هذه البلية التي أراكم فيها ؟ قالت : هو الذي فعل بنا ليؤجرنا بفضله علينا ، لأنه أعطاه بفضله منعما ، ثم أخذه ليبتلينا ، فهل رأيت منعما أفضل منه ؟! فعلى إعطائه نشكره ، وعلى ابتلائه نحمده ، فقد جعل لنا الحسنيين كلتيهما ، فابتلاه ليرى صبرنا ، ولا نجد على الصبر قوة إلا بمعونته و توفيقه ، فله الحمد و المنة ما أولانا و ابتلانا " (1)هكذا يوجه المؤمنون الإبتلاء و المصيبة ، و يقاومون وساوس الشيطان الذي يحاول تحريف مسيرتهم ، بينما يكفر سائر الناس بسبب الإبتلاءات التي يتعرضون لها ، والتي لو درسناها لوجدنا أكثرها تحل بهم لذنوبهم وما قدمته أيديهم من سيئات .

[ وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور ]يكفر بالنعم القديمة كما يكفر بسائر النعم التي تحيط به الآن ، فتظلم الدنيا في عينيه ، و يفقد القدرة على مقاومة البلاء و التمتع بالرخاء .

[49] هذا ضعف الإنسان ، و خور عزمه ، أفلا اتصل بالقوة التي لا تقهر ، و بالملك الذي لا يحد ، و بالعزة التي لا تغلب ، بالله القوي العزيز ؟

[ لله ملك السماوات و الأرض ]


(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 12 - ص 352


ومن أوسع ملكا ممن يملكهما ، ومن أنفذ ملكا ممن خلقهما ؟ أوليست السماوات مطويات بيمينه ؟ ثم إن ملكه لا يحد بالسماوات و الأرض ، لأنه :

[ يخلق ما يشاء ]

دون أن يحق لأحد الإعتراض عليه أو السؤال .

و تتجلى هذه المشيئة في مختلف جوانب الحياة ، ومن بينها تصرفه في أعظم ما خوله للإنسان من الملك وهو الولد .

[ يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ]

فلا الــذي يريد الله أن يكون نسله كلهم إناثا قادرا على إنجاب الذكور ، ولا العكس . ولعل تقديم الإناث على الذكور كان للدلالة على أن البنت هي الأخرى هبة من الله عظيمة ، أو لأن الجاهليين كانوا لا يحبون الإناث ، ولكن الله - بالرغم من ذلك - يهب الإناث ،فهو الواهب لما يشاء ، كيف يشاء ، أفـلا يدل ذلك على سعة ملكه ، و شدة هيمنتــه ؟

[50] [ أو يزوجهم ذكرانا و إناثا ]

أي يجعل النسل من الجنسين الإناث و الذكور .

فلا يهب له شيئا ، وهذه المشيئة ليست اعتباطية ، وإنما تدخل ضمن حكمة الله و إرادته المطلقة .

[ إنه عليم قدير ]


و لو أنه يعطي الناس كيفما أرادوا لربما فسد العالم ، فقد يتمنى الجميع أو الأكثرية الذكور أو العكس ، بينما لابد من التنوع و التوازن للحفاظ على الجنس البشري ، ومـــن جانب آخر يجعل ربنا البعض عقيما لحكمة يعلمها ، فربما يفسد العقيم لو أعطي ذرية .

و معرفة هذه الحقيقة تبعث السكينة في النفس ، فمن علم بأن الله هو الوهاب لأفضل النعمة و أشدها تأثيرا على النفس ، وهي نعمة الذرية التي تهش لها نفس كل حي ، لا يستبد به الفرح حتى يدخله في الغرور ، كما أنه لو فقد شيئا من النعمة لا يستبد به اليأس حتى يدخله في الكفر بالنعم ، لأنه يعلم بأن المقدر لكل ذلك هو الله الذي لا يظلم و لا يجور سبحانه و تعالى .

[51] وفي سياق الحديث عن آماد ضعف البشر ، و أبعاد حاجته ، و ضرورة اتصاله بمعدن القوة ، و ينبوع الغنى برحمة الله الذي له ملك السماوات و الأرض يهدينا الرب الى نعمة الرسالة ، و يتصل الحديث عن الرسالة بالجو العام لسورة الشورى التي تختم بهذه الآيات اتصالا متينا ، ذلك لأن الشورى - كما أسلفنا - متممة للنظام السياسي للأمة ، ومحور هذا النظام بل و أساس الأمة هو الوحي الذي يضفي على المجتمع المسلم صبغة الله ، و يحييه بكلمة التقوى ، و يوحده حول محور القيادة الرسالية المتمثلة في الرسول (ص) و ذوي القربى من أهل بيته المعصومين ومن اتبع نهجهم من الفقهاء الصالحين !

ولم يمن الله على عباده بنعمة أعظم ولا أروع ولا أنفع من الوحي . إنه التجلي الأعظم لرحمة الله التي وسعت كل شيء ، و أي تقدير أو أي احترام أكبر من أن يتلقى الإنسان كلمات جبار السماوات و الأرض .؟! و أي قلب عظيم هذا الذي يتلقى هذا الأمر الثقيل فلا يتصدع.؟! أي سماء تحلق بها هذه النفس الكريمة


التي تستقبل كلمات الله التي لو ألقيت على الجبال لتصدعت ولو وجهت الى الموتى لتكلموا أو الى الارض لسارت سيرا .؟!

ولكن كيف ينزل الله كلماته على البشر ؟ بواحدة من السبل التالية :

[ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ]

ماهو الوحي ؟ حسب اللغة و موارد استخدام الكلمة أنه قذف الحقيقة في القلب قذفا .

قال الشيخ المفيد : و أصل الوحي هو الكلام الخفي ، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على الستر له من غيره و التخصيص له به دون من سواه ، و إذا أضيف الى الله كان فيما يخص به الرسل ( صلى الله عليهم ) خاصة دون سواهم على عرف الإسلام و شريعة النبي . (1)

و روي عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال في معاني الوحي :

" وأما تفسير وحي النبوة و الرسالة فهو قوله تعالى : " إنا أوحينا إليك كما أوحينا الى نوح و النبيين من بعده و أوحينا الى إبراهيم و إسماعيل " وأما وحي الإلهام فهو قوله عز وجل : " و أوحى ربك الى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون " ومثله : " و أوحينا الى أم موسى أن أرضعيـه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم " ، و أما وحي الإشارة فقوله عز وجل : " فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة و عشيا " " (2)وما يجمع هذه المعاني و غيرها لكلمة الوحي هو الإلقاء إشارة و بنحو من(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 18 - ص 249

(2) المصدر / ص 255


التخصيص و الستر .

و نتساءل : كيف يتم الوحي من الله للبشر ؟ قبل الإجابة لابد أن نعرف أنه لا ينبغي السؤال عن الكيفية في الجانب الإلوهي ، لأن علمه محجوب عنا ، وقد ضل كثير من الناس حين تفكروا في الذات الإلوهية وما يتصل به سبحانه من حقائق ، بل . يحق لنا أن نسأل عن الجانب الآخر حيث يتم التلقي و الإستجابة و الأخذ ، و القضية هنا هينة إذ أن لها أمثلة : فنحن البشر لم نعلم شيئا حين خلقنا الله من بطون الأمهات ثم قذف في قلوبنا العلم ، كما أن كثيرا من البشر يقذف الله في أفئدتهم نور معرفته و روح الإيمان به ، وكل ذلك نظائر للوحي .

ولكن حين يكلم الله أحدا بالوحي فإن ذلك لا يعني مجرد قذف نور العلم بصورة مجملة ، بل و أيضا بيان تفاصيل العلم ، و بينات الهدى ، لأن القضية هنا قضية التكلم ، و التكلم يعني وجود كلمات ، و الكلمات تعني المفصلات من العلم .

و يبدو أن الوحي هو اتصال مباشر بين الرب و عبده المنتخب ، ولعله أسمى درجات التكلم ، وقد كان نبينا ( صلى الله عليه وآله ) يعيش في لحظات التجلي وضعا خاصا كان يسميه المسلمون ( برحاء الوحي ) ..

سأل زرارة من الإمام الصادق - عليه السلام - قائلا : جعلت فداك : الغشية التي كانت تصيب رسول لله (ص) إذا نزل عليه الوحي ؟ فقال :

" ذلك إذا لم يكن بينه و بين الله أحد ، ذاك إذا تجلى الله له " (1)وجاء في حديث آخر :


(1) المصدر / ص 256


" كان جبرئيل إذا أتى النبي قعد بين يديه قعدة العبد ، و كان يدخل حتى يستأذنه " (1)من هنا فإن برحاء الوحي إنما كانت تنتاب النبي عندما يتم تجلي الله له بالوحي المباشر ، وليس عندما يبعث إليه رسولا من عنده ( وهو جبرئيل عليه السلام ) الذي كان يتمثل في أجمل صورة وهو صورة دحية الكلبي المعروف بصباحة وجهه ، ولم ينزل عليه بصورته الأصليةإلا مرتين ، حسب بعض النصوص .. ماذا كانت برحاء الوحي ، ولماذا ؟

روي أنه كان إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل .

و روي أنه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه يتفصد عرقا . (2)و روي أنه كان إذا نزل عليه كرب لذلك ، و يربد وجهه ، و نكس وجهه ، و نكس أصحابه رؤوسهم منه . (3)وفي الحديث أنه أوحي اليه وهو على ناقته ، فبركت و وضعت جرانها (4) فما تستطيع أن تتحرك ، وأن عثمان كان يكتب للنبي " لا يستوي القاعدون ... الآية " و فخذ النبي على فخذ عثمان فجاء ابن أم مكتوم ، فقال يا رسول الله : إن بي من العذر ما ترى ، فغشيه الوحي ، فثقلت فخذه على فخذ عثمان ، حتى قال : خشيت أن ترضها فانزل الله سبحانه : " غير أولي الضرر " (5)(1) المصدر .

(2) أي إذا انتهى عنه الوحي تصبب عرقا .

(3) المصدر / ص 261 .

(4) مقدم العنق .

(5) المصدر / ص 464 .


وحق للنبي أن يتكأده ثقل الوحي ، ولو لا توفيق الله لتصدع قلبه لتجليات ربه . أوليست السماوات يكدن يتفطرن من خشية الله .

ما أعظم هذا القلب الذي يتحمل كلمات الله ، و يتلقى أمره مباشرة ! إنه حقا آية عظمى من آيات الله !

ولعل توفيق الله و تسديده للرسول و الذي تكتمل مقدرته على احتمال حالة الوحي و تجلي الله العظيم ثم احتمال علم الله و كلماته ، لعل هذا التوفيق يتمثل في روح القدس التـي أنزلها الله على نبيه ، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال مفسرا قوله تعالى :
" يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " :

" خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول الله وهو مع الأئمة ، وهو من الملكوت " (1)وقال في تفسير قوله تعالى : " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " :

" خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول الله يخبره و يسدده وهو مع الأئمة من بعده " (2)[ أو من ورآء حجاب ]

كما كلم الله نبيه موسى بن عمران (ع) تكليما ، ولكن دون أن يرى شيئا ، وماذا تحتمل العين من عظمة الله ، أرأيت كيف تتلف أنسجة العين ، و تعطب أعصابها ، لو تعرضت لومضة شديدة من النور الذي خلقه الله ، أويزعم أحد بأن الله(1) المصدر / ص 215 .

(2) المصدر .


أقل نورا من تلك الومضة وقد أشرقت السماوات و الأرض بنور ربها ؟!

لقد تجلى ربك للجبل فجعله دكا ، و خر موسى صعقا ، فإذا لم يصبر موسى على تصدع الجبل فهل كان يتحمل تجلي الله له مباشرة ؟!

[ أو يرسل رسولا ]

كما كان ربنا يبعث جبرئيل لرسله ، ولكن كيف كان يتلقى جبرئيل وحي ربه ؟

حسب رواية عـن أمير المؤمنين - عليه السلام - عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه :

" سأل جبرئيل قائلا : يا جبرئيــل : هـل رأيت ربك ؟ فقال جبرئيل : إن ربي لا يرى ، فقال رسول الله الله : من أين تأخذ الوحي ؟ فقال : آخذه من إسرافيل ، فقال : من أين يأخذه إسرافيل " قال : يأخذه من ملك فوقه من الورحانيين ، قال : فمن أين يأخذهذلك الملك ؟ قال : يقذف في قلبه قذفا " (1)

[ فيوحي بإذنه ما يشاء ]

ولا يحق لأحد يتلقى الوحي أن يتصرف فيه كثيرا أو قليلا ، بل لابد أن يكون الوحي حسبما أمر الله ، وفي الوقت الذي يأذن الله .

[ إنه علي حكيم ]

ومن علومجده تساميه من القلوب المريضة ، و النفوس المليئة بالأحقاد و الأغلال(1) المصدر / ص 257


و آثار الذنوب ، إنما الذين يصطفيهم الله لوحيه من طهرت أنسابهم و أحسابهم ، و صفت قلوبهم ، و تسامت نفوسهم ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته يختار لها أكرم خلقه ، و أشدهم تسليما و طاعة و إخلاصا .

من هنا لا ينبغي للناس أن يختاروا لقيادتهم إلا الأعلم الأتقى . أوليس الله هو المخصوص بالطاعة ؟ فلابد أن يكون أقرب النــاس اليه هـو الذي يطاع بين الناس بإذن اللــه .

[52] وهكذا عقد لواء القيادة في هذه الأمة لرسولنا الأكرم لأنه تلقى الوحي من أمر الله ..

[ وكذلك ]

بمثل هذه السبل الثلاث : بالوحي المباشر ، و بالتكلم من وراء حجاب ، و ببعث الرسول ، تلقى الرسول كلمات ربه .

[ أوحينا إليك روحا من أمرنا ]

ماهو ذا الروح الذي أوحى الله الى الرسول ؟ قالوا إنه روح الحياة . أوليس القرآن حياة القلوب ، وفيه ما يضمن للبشر الحياة الأخروية ، وقد قال ربنا سبحانه : " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم " . (1)ولكن يبدو أن الروح في منطق الكتاب هو روح القدس ، وقد قال ربنا سبحانه :


(1) الأنفال / 24


1) " و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس " (1)2) " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا " (2)3) " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق " (3)4) " يوم يقوم الروح و الملائكة صفا " (4)و الروح - حسب الآية الأخيرة - غير الملائكة ، وهو يلقى على الرسل حسب الآيــة الثالثة ، وهو يحمل الرسالة حسب الآية الثانية ، و يؤيد به الرسل حسب الآية الأولى .

وفي النصوص أنه خلق أعظم من الملائكة ، وهو الذي ينزل في ليلة القدر ، و يصعد مع الملائكة في يوم القيامة كما ذكر في الآية الرابعة .

وهو بأمر الله ومن أمره ، فهو إذا من عالم الملكوت المهيمنة على المخلوقات ، و بتعبير آخر : إنه من عالم الأنوار المتعالية عن عالم الأجسام اللطيفة كالملائكة أو الكثيفة كالبشر ، إنه في أفق العلم و العقل ، و الحياة و القدرة ، و بذلك فهو من عالم الأمر ،حيث ينزل منه القدر ، و يكون به القضاء .

و يكفينا أن نعرف من الروح هذا القليل الذي يشير الى آياته و علائمه و مظاهر وجوده وليس الى ذاته ، كما في سائر الأنوار العالية التي لم نعرف علمها إلا بقدر معرفة آثارها ، وقد قال ربنا سبحانه : " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي(1) البقرة / 87

(2) النحل / 102

(3) غافر / 15

(4) النبأ / 38


وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " .

وهكذا يبدو أن الروح - كما العقل و الإرادة - هو نور ألهي ينزله الله على قلب من يشاء من عباده ، ليشبع فيه سكينة الإيمان ، ونور اليقين ، و سداد التوفيق ، و كلمة التقوى و العصمة .

وقد أعطى ربنا المؤمنين من عباده درجة من هذا الروح وهو روح الإيمان و التقوى ، بينما أكمل لنبيه محمد وآله عليه و عليهم السلام درجات هذا الروح ، و أبلغهم درجة اليقين التام و العصمة .

ولولا هذا الروح لم يكن يعرف الأنبياء أن ما ينقر في آذانهم أو يقذف في أفئدتهم أو تراه أبصارهم هو من عند الله وليس من نزغات الشياطين أو أوهام النفس .

كما أنه لولا نور العقل لم يقدر الانسان على التمييز بين الحق و الباطل ، بين ما تراه عينه من ماء و ما يترائى له من سراب .

ولولا روح القدس لم يهزم النبي الشيطان كليا ، كما أنه لولا روح الإيمان لم يتغلب المؤمن على الشيطان في الأغلب .

و بتعبير آخر : بروح القدس تتكامل نفس النبي حتى تستعد لتلقي وحي الله ، كما بالعقل تتكامل نفس سائر البشر لتلقي المعارف و العلوم . إنه إذا الجانب المتصل بالنبي من الوحي ، بينما الرسالة هي الجانب المتصل بالحق الذي يوحى ، و كلاهما من الله سبحانه ، ولهذا جاءت كلمة الــروح هنا بعد الوحي ، و كأنه أوحي به بينما هو من أمر الله ، وبه يسود النبي لتلقي الوحي .


و نستوحي هذه الفكرة من بعض الأحاديث التي ذكرنا طائفة منها سابقا ، والتي تبين أن الروح خلق أعظم من الملائكة ، و نتلو معا الطائفة الثانية :

روي عن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله ( الإمام الصادق عليه السلام ) : كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما يتنزغ به الشيطان ؟ قال :

فقال :

" إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة و الوقار فكان يأتيه من قبل الله عز وجل مثل الذي يراه بعينه " (1)و روي عن محمد بن مسلم و محمد بن مروان عن أبي عبد الله ( الإمام الصادق عليه السلام ) :

" ما علم رسول الله أن جبرئيل من قبل الله إلا بالتوفيق " (2)وفي تفسير هذه الآية بالذات سبق وأن روينا حديثا عن الإمام الصادق عليه السلام أيضا أنه قال ( عن الروح في هذه الآية ) :

" خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل و ميكائيل ، كان مع رسول الله يخبره و يسدده و هو مع الأئمة من بعده " (3)و جاء في تفسير الآية " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " (4) عن(1) المصدر / ص 262

(2) المصدر / ص 257

(3) المصدر / ص 264

(4) الاسراء / 85


الامام الصادق عليه السلام أنه قال :

" أعظم من جبرئيل و ميكائيل ، لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد وهو مع الأئمة يسددهم ، وليس كل ما طلب وجد " (1)ولكي يزداد الأنبياء يقينا بأن الله يؤيدهم بروح منه و يزدادوا قربا منه بالإنابة إليه و التوبة فإن الله يكلهم الى أنفسهم لحظات فتهتز قناعاتهم أو يرتكبــــون مالا يليق بهم ، كما هم يوسف بها لولا أن رأى برهان ربه ، وكما دعا يونس على قومه وكان الأولى أن يصبر عليهم ، وكما سارع داود بالقضاء فذكرته الملائكة فأناب الى الله .

وقد جاء في حديثين يكمل الثاني منهما الأول ما يلي :

عن أبي بصير عن أبي عبد الله ( الإمام الصادق عليه السلام ) في قول الله : " حتى إذا استيئس الرسل و ظنوا أنهم قد كذبوا " مخففة قال :

" ظنت الرسل أن الشياطين تمثل لهم على صورة الملائكة " (2)وعن أبي شعيب عن أبي عبد الله ( الإمام الصادق عليه السلام ) :

" وكلهم الله الى أنفسهم أقل من طرفة عين " (3)هكذا نعرف أن نعمة الروح الذي يسدد به النبي و يعصم من أن ينطق بهوى ليست بأقل من نعمة الوحي إن لم يكن أعظم .


(1) المصدر / ص 264

(2) المصدر / ص 261

(3) المصدر / ص 262


[ ما كنت تدري ما الكتاب ]

ذلك أن الكتــــاب ليس من عبقرية محمد ( صلى الله عليه و آله ) بل من وحي الله .

[ ولا الإيمان ]

فلولا الوحي لم يكن النبي يدري شيئا من كتاب ربه ، ولولا روح القدس لم يبلغ درجة الإيمان ، لأن الإيمان يتم بروح منه .

ولا ريب أن الرسول كان مؤمنا قبل الرسالة ، ولكن هذا الإيمان كإيمان أي بشر آخر كان بالله و بروح منه . ألم يقل ربنا سبحانه : " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " (1)أما الرسول محمد (ص) فقد سدده الله منذ نعومة أظفاره بروح القدس ، حسبما يبدو من كلام أمير المؤمنين عليه السلام :

" وقد قرن الله به - صلى الله عليه و آله - من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، و محاسن أخلاق العالم ، ليله و نهاره " (2)[ ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا ]

إنه من الله ، و لأجل كل من يشاء الله هدايته ، وليس من الرسول أو خاصا به فقط .


(1) الحجرات / 17

(2) عن نهج البلاغة / الخطبة 192


[ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ]

[53] فالنور الذي أوحى به الله يهدي الى السبيل المستقيم .

[ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألآ إلى الله تصير الأمور ]وهل صراط الله خالق الكون و مالكه أفضل ، أم صراط الشياطين و الطواغيت الذين يشرعون مناهج منحرفة تتنافى مع القوانين الطبيعية و السنن الكونية فيضلون و يضلون ؟!

وهل من تصير إليه الأمور أحق بالطاعة و الإتباع أم من لا يملكون شيئا حتى من أمور أنفسهم ؟!

وقبل الختام نورد حديثا في فضل هذه الآية نقله جابر بن عبد الله (ع) عن الإمام الصادق (ع) ، قال : سمعته يقول :

" وقع مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه إلا هذه الآية : " ألا إلى الله تصير الأمور " (1)(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 591


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس