الاطار العام
لكي تستقبل افئدتنا ضياء الايمان لابد أن نطهرها من طائفة من الأدران التي تترسب عليها ، و آيات الذكر تذكرنا بها ، و تشجعنا على تزكية القلوب منها ، و توصينا بكيفية ذلك ، و يبدو أن سورة الزخرف تجري في هذا السبيل .. كيف ؟
إن هدف الكتاب المبين الذي جعله الله قرآنا عربيا ( بلغتهم ، و يفصح جليا عن الحقائق ) بلوغ العقل ، وهو أسمى و أدق تعبير عما في أم الكتاب (1/4) .
ثم تترى الآيات في تبصير الإنسان بالعقبات النفسية التي لابد من تجاوزها ( أو الأقفال التي يجب فكها ، و الأمراض التي يجب معالجتها ، و الأدران التي يجب تطهير القلب منها ليستعد للإيمان ) وهي :
أولا : الغرور بالمال ، وهل يضرب القرآن الذكر صفحا لأنهم قوم مسرفون ؟ أفلا ينذرون قبل أن يكسر غرورهم عذاب عقيم ، كما أهلك أشد منهم بطشا ، و تركهم أحاديث لمن يعتبر بهم ؟ (5/8) .
ثانيا : الفصل بين رب السماء و رب الأرض ، و الإعتقاد بأن إله الحق لا شان له بدنياهم ، وإذا سئلوا عمن خلق السماوات و الأرض فلا مناص لهم من الإعتراف بالخالق العزيز العليم ، وهكذا الأرض ، فهو الذي جعلها مهدا ، و سلك فيها سبلا ، لعلهم يهتدون الى مآربهمثم الى ربهم الذي أتقن صنعه ، وحتى تدبير رزقهم فهو بأمر الله . أوليست حياتهم تعتمد على الماء ، فمن ينزله من السماء ، بقدر حاجتهم ؟ أفلا يرون كيف يحيي به الله الأرض ، فلماذا لا يهتدون الى أنه كذلك يحييهم بعد موتهم ؟!
ومن آيات تدبيره خلق الأزواج ، و توفير وسائل النقل . أوليس كل ذلك يدل على أن إله السماء هو إله الارض ، و يدعوهم الى طاعته ، و شكر نعمائه ، فإذا استقروا على ظهور الأنعام أو متن السفن سبحوا الله على تسخيرها لهم ! ولم يكونوا بمستواها (9/14) و نقرأ فيختام السورة تذكرة بهذه الحقيقة أيضا (84) .
ثالثا : تقديس الأشياء و الأشخاص ، فإذا بهم يجعلون للرحمن من عباده جزء ( يعطونه صفة التقديس ) و بالغوا في كفرهم حين زعموا أن الله اختار لنفسه البنات ، و اصطفى لهم البنين .
و يتساءل : هل شهدوا خلقهم ؟ كلا .. و يقول إن كلامهم الباطل شهادة عليهم ، سوف تكتب و سوف يسألون عنها ... و تراهم يبررون عبادة الآلهة بالجبر الإلهي ، بلا علم عندهم ، بل بمجرد الخرص و التخمين ، ولا بكتاب إلهي يستمسكون به ، بل باتباع آبائهم .
و يعالج القرآن اتباع الآباء بأن ذلك من عادة المترفين الذين ما أرسل الله الى قرية نذيرا إلا تشبثوا بتقاليدهم البالية متحدين بها رسالات ربهم ، ولكن ألا ينظرون الى عاقبة أولئك المترفين الذين انتقم الله منهم ؟!
و يضرب القرآن مثلا على ذلك بقصة إبراهيم ( أولا : لأن أبرز ما في رسالته تحديه لعادات السابقين ، ابتداءا من أبيه و أنتهاءا بقومه ، و ثانيا : لأنه من أولي العزم الذين يذكرون في هذه السورة باستثناء واحد منهم وهو نوح (ع) ) .
وإذا كانت الجاهلية العربية تعتمد على عقائد ابائها ، فإن أعظمهم إبراهيم ، رائد التوحيــــد و محطــم الأصنام . ألا يتبعونه وقد جعل رسالة التوحيد كلمة باقية في عقبه ؟ كلا .. إنهم يتبعون أهواءهم لا آباءهم ، وقد غرتهم متع الدنيا عن اتباع الحق حتى نسبواالرسول (ص) الى السحر (15/20) .
رابعا : تقييم الحقائق بالمقاييس المادية ، فقد قالوا : لولا أنزل الكتاب على واحد من العظيمين في الطائف و مكة ؟ و نهرهم الله : هل هم الذين يقسمون نعم الله ؟ كلا .. الله هو الذي قسم بينهم معيشتهم ، و جعلهم يتفاضلون في الأمور المادية ، لا لقيمة لهذا عنده أو هوان لذاك ، بل لتنظيم الحياة الإجتماعية ، و يحتاجون الى بعضهم ، و يتعاونون فيما بينهم ، أما النعمة الكبرى فهي رحمة الله ، لا المال الذي يكدسونه .
وما أتفه الدنيا عند الله ، فلولا أن يصعب على المؤمنين لجعلها كلها للكفار ، لأنها بالتالي متاع . أما الآخرة التي هي الحيوان فهي للمتقين وحدهم .
خامسا : قرناء السوء الذين يزينون للإنسان سوء عمله ليراه حسنا ، وإنما يقيض الله قرين السوء من الجن و الإنس لمن يعش عن ذكر ربه ، ( أما من يتذكر فإنه يبصر الحقائق ، لأن الشيطان يتهرب من ذكر الله ) و يقوم الشيطان بصد التارك لذكر الله عن سبيل الهدى ، وتزيين الضلالة له ، و إنما ينتبه لدور الشيطان في إضلاله حين يأتي ربه ، فيقول له : ياليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين . وماذا ينفع التبرء منه يومئذ ، لأنهما في العذاب مشتركين بسبب ظلمهما .
( وهكذا يعالج القرآن وسوسة الشيطان بذكر الله ) .
وبعد أن ينذر القرآن أولئك الجاهلين بعذاب إما في عهد الرسول أو بعده ، و يأمر النبي ( و الذين اتبعوه ) بالتمسك بالوحــي الذي هو شرف له و لقومه ( دون المال و الجاه ) لأنهم يسألون عنه ، يأمره بأن يسأل السابقين من الرسل ( و يستقرء سيرتهم ) هل كانوا يدعون قط الى غير الله ( و يقدسون آلهة المال و السلطة كلا ) و يضرب مثلا من سيرة موسى و عيسى عليهما السلام ( وهما نبيان من أولي العزم ذكرا في هذه السورة مع إبراهيم و محمد سلام الله عليهما ) .
فحين أرسل الله موسى بالبينات الى فرعون و ملئه إذا هم منه يضحكون ، وكلما أراهم ربنا من آياته طلبوا من موسى أن يدعو ربه ، و عهدوا إليه بالإيمان ، فلما كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم ( و اعتمدوا على قيمة الثروة و السلطة الزائلة ) .
و أثار فيهم فرعون نخوة العصبيـة و شهــوة المال و القوة ، و استخفهم فأطاعوه ، فانتقم الله منهم و تركهم آية لمن بعدهم .
( وكذلك كان موقف الجاهليين العرب من عيسى بن مريم عليهما السلام ) و حينما ضربه الله مثلا صالحا جادل فيه قوم الرسول قائلين : أآلهتنا خير أم هو ؟ ( وكانوا يعرفون الحق ، ولكنهم عاندوا ربما لأنهم اعتمدوا على قيمة الثروة و السلطة ، فقدسوا آلهتهم رمـــزالثـروة و السلطة ، و استخفوا بابن مريم الذي كان مثال الطهر و الزهد ) بلى . إنه عبد أنعم الله عليه ، و جعله مثلا لبني إسرائيل ( ولم يأمرهم بعبادته أبدا ) وبعد أن ينذر ربنا أولئك المعاندين بأنه قادر على أن يهلكهم ، و يجعل مكانهم ملائكة في الأرض يعبدونه، يبين بعض جوانب عظمة عيسى - عليه السلام - بأنه من اشراط الساعة ، وأنه قد جاء بالبينات و الحكمة و القول الفصل فيما اختلف فيه بنوا إسرائيل ، و أمرهم بتوحيد الله ربه و ربهم جميعا ، بيدأنهم اختلفوا فيه ( ظلما و بغيا ) فويل للظالمين من عذاب يوم أليم (65) .
و يذكرنا الرب بأن الأخلاء أعداء بعضهم في يوم القيامة إلا المتقين ( وهكذا ينبغي أن نختار من المتقين أصدقاءنا ، وقد أشارت آيات سابقة الى مسألة القرين ) و يصف نعيم الله في يوم البعث لعباد الله الذين تتلقاهم الملائكة بالسلام و البشرى ، و تدعوهم الى الجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين . كل ذلك جزاء لما عملوا (73) .
بينما المجرمون خالدون في جهنم ، دون أن يخفف عنهم عذابها ، وهم آيسون فيها من روح الله بما ظلموا ، و حين ينادون كبير ملائكة العذاب ( مالك ) ليعدمهم الله يجيبهم بأنهم ثمة ماكثون ، و يقول : لقد جئناكم بالحق ، و أنتم كنتم تكرهون الحق . وقد عاندوا الحقفحكم الله عليهم بالعذاب الخالد ( جزاء عنادهم ) (79) .
و بهذه البصيرة يعالج السياق حالة العناد الذي هو واحد من أبرز العقبات النفسية في طريق الإيمان ، ثم يعالج سائر الحالات التي تمنع المبادرة الى الإيمان ، مثل التوهم بأن الله لا يسمع سرهم و نجواهم ، و يذكرنا الله بأنه يسمعهم ، وقد أحاط بهم ملائكته الكرام يسجلون ما ينطقون به (80) .
( و يعود الى معالجة حالة الشرك ، حيث يلتجأ الإنسان - عادة - الى ظل الشرك فرارا من ثقل المسؤولية ) و يقول : النبي ليس ولد الله ، بل هو أول العابدين لله .
( و ينسف أساس الشرك القائم على الجهل بعظمة الله ) و يقول : سبحان رب السماوات و الأرض أن يكون له ولد مثلما يصفون . أوليس هو رب العرش العظيم و الهيمنة التامة ، فماذا يفعل بالولد ؟!
و يأمر الرسول ( و الرساليين ) بأن يتركهم في خوضهم يلتهون بباطلهم ، و يلعبون من دون هدف معقول في حياتهم حتى يلاقوا يوم الجزاء الذي يوعدون ( وهكذا ينذر كل المشركين بالله بأنهم يفرغون حياتهم من أي هدف سليم ، كما يفرغون عقولهم من أي بصيرة حق ) .
و يبين أن إله السماء هو إله الأرض ، وهو الحكيم العليم ( فلا يجوز الفصل بين الدين و السياسة ، بين عالم الخلق و واقع الحكم ) .
( وكيف نتخذ من الثروة و السلطة آلهة و الله عنده كل خير ؟! ) أوليس هو المالك للسماوات و الأرض وما بينهما ، فهو الذي يبارك ( أفلا ينبغي أن نعبده ليعطينا من بركاته ؟ ) و عنده علم الساعة ( أفلا نخشاه ؟ ) و اليه ترجعون .
( أما شركاء المال و الجاه و .. و .. فهم لا يملكون أهم ما يحتاجه البشر وهو الخلاص من النار ) ولا يملكون الشفاعة عند الله ، وإنما الشفاعة للحق و لأهله ، وفي الوقت الذي يعترف الجميع بأن الله هو خالقهم تراهم يؤفكون عنه ! ( ولكن لا ينبغي أن يهلك المؤمننفسه حسرة عليهم ) وحين قال الرسول داعيا ربه : إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، أمره الله بالصفح عنهم ( و الإعراض ) وأن يقول لهم : سلام ( ولا يبادرهم بالحرب ) لأنهم سوف يعلمون أي منقلب ينقلبون .
|