فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[57] يتبع القرآن الحكيم منهجا رائعا حين يفصل القول في موضوعة هامة عبر سورة واحدة أو سور شتى ، ثم يجمله مشيرا الى ذلك التفصيل ، وهكذا ينبغي أن يتبع المتدبـر منهج النظرة الشمولية الذي أشارت إليه النصوص ، بأن يفسر بعض القرآن ببعضه ، و يعيد متشابهاتهالى محكماته ، ولا يجعل القرآن عضين يأخذ ببعضه و يترك بعضا .

و هنـا يجمل القرآن حديثه عن النبي عيسى - عليه السلام - كما جعله مثلا يحتذى لبني إسرائيل ، كما ضرب مثلا للعرب لعلهم به يهتدون إلى نوع القيادة الذي أمروا باتباعه .

لقد رفع الله شأن ابن مريم حين خلقه من غير أب ، و جعله يكلم الناس في المهد صبيا ، و آتاه الكتاب و الحكمة ، و جعله مباركا .

ولقد أكرمه الله بالزهد في الدنيا ، و الخلق الرفيع ، و تلك هي قيم الوحي الحق ،وليس المال و الجاه وما أشبه .

وكان يكفي العرب هدى مثال عيسى ، فرسالة النبي محمد (ص) و رسالة أخيه عيسى (ع) واحدة ، و زهده في الدنيا ، و خلقه العظيم ، و معالم شخصيته ، كلها متشابهة و معالم شخصية ابن مريم ، ولكن قريشا صدت عن هذا المثل السامي . لماذا ؟

أولا : لأنهم لم يؤمنوا بتلك القيم العليا التي مثلها عيسى - عليه السلام - بشخصيته و دعوته ، فهم عبدوا آلهة تمثل الشهوات و الأماني الزائلة ، و زينها قرناؤهم من شياطين الجن و الإنس في أعينهم ، حتى قالوا : ءآلهتنا خير أم هو ؟!

ثانيا : لأن إيمانهم بعيسى بن مريم (ع) مثال الفضائل ( والذي قد فرض نفسه على وجدانهم و فطرتهم بالرغم منهم ) كان يدعوهم الى الإيمان بالنبي محمد (ص) لأنهما على نهج واحد ، فصدوا عن ذاك ليصدوا عن هذا .

ثالثا : ولعــــل قريشـا تأثرت بالدعاية السلبية التي بثها اليهود حول النبي عيسى - عليه السلام - ، و يبدو أن من أبعاد رسالة النبي (ص) في قومه إحياء ذكر إخوته الأنبياء الكرام - عليهم السلام - لا سيما أنبياء بني إسرائيل الذين ربما منعت عصبية العرب منقبولهم ، و بالذات عيسى - عليه السلام - الذي تعرض للإعلام المضاد من قبل اليهود بالإضافة الى كونه من بني إسرائيل .

[ ولما ضرب ابن مريم مثلا ]

أي بين القرآن كما الرسالات و اتباعها مثال عيسى (ع) في زهده و خلقه و آياته ليهتدي به العرب الى رسولهم الكريم ، والى اوصيائه الذين يجسدون نهجه .

[ إذا قومك منه يصدون ]


فلا يؤمنون به مع أن شخصيته أسمى من كل ريب ، ولعل كلمة " يصدون " أشربت معنى الصد عن سبيل الله ، وقال بعضهم : إن معناها يضجون ، من الصديد وهو الجلبة ، فيكون تفسيرها : يثيرون الضجيج و اللغط حول هذه الشخصية من الأفكار السلبية لكي لا يؤمنوا بعيسى (ع) ، وقد سمى القرآن أفكار الضالين باللغو في آيات أخرى ، كقوله سبحانه : " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه " (1) .

وقد طبقت نصوص أهل البيت - عليهم السلام - هذه الآية على أمير المؤمنيـــن - عليه السلام - لأنه كما جاء في أحاديث عديدة عن النبي (ص) أنه شبيه عيسى بن مريم (ع) .

ولا ريب أن عليـــا - عليه السلام - كان مثالا للقيادة الربانية التي تمثل قيم الوحي ، كما كان النبي عيسى بن مريم (ع) ، كما أن عليا - عليه السلام - غالى فيه قوم حتى قالوا فيه مثلما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، و قلاه آخرون حتى ساووه بمعاوية ، و اقتصد فيه الصالحون .

في الحديث عن أهل البيت - عليهم السلام - عن الإمام علي (ع ) قال : " جئت الى النبي ( صلى الله عليه و آله ) يوما فوجدته في ملأ من قريش ، فنظر إلي ثم قال : يا علي إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم أحبه قوم و أفرطوا في حبه فهلكوا ، و أبغضهقوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا ، و اقتصد فيه قوم فنجوا . فعظم ذلك عليهم ، و ضحكوا ، فنزلت الآية " (2) .

و للآية تفسير آخر مستوحى من نص ورد في نزول الآية ، نذكره فيما يلي ، علما(1) فصلت / 26

(2) جوامع الجامع - الطبرسي / ج 2 - ص 517


بأن تطبيق القرآن على موارد نزول آياته لا يعني تحديده بها ، فللقرآن أبعاد مختلفة و بطون شتى تجري عليها جميعا الآيات كما تجري الشمس على السهول و الجبال .

روي أنه لما نزلت هذه الآية : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " (1) قال أحد مشركي قريش وهو ( عبد الله ابن الزعبري ) : هذا خاصة لنا و لآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال الرسول (ص) : " بل لجميع الأمم " فقال : خضمتك و رب الكعبة ، ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي ، و تثني عليه خيرا وعلى أمه ، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما ، و اليهود يعبدون عزيرا ، و الملائكة يعبدون ، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ، فسكت النبي - صلى الله عليـه و آله وسلم - و فرح القوم ، و ضحكوا ، و ضجوا ، فأنزل الله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " (2) .

[58] [ و قالوا ءالهتنا خير أم هو ]

هل آلهتنا خير أم عيسى ؟

إنهم زعموا أن آلهتهم خير من عيسى لأنها تمثل الثروة و القوة و التقاليد المتوارثة ، بينما عيسى - عليه السلام - مثال الزهد و الطهر و الفضيلة .

وهم يعرفون أن عيسى خير من آلهتهم ، ولكنهم لا يريدون الإذعان بهذه الحقيقة التي تنسف أساس بنيانهم الجاهلي .

[ ما ضربوه لك إلا جدلا ]

لأن فطرتهم تهديهم الى سمو عيسى بعلمه و رسالته و بأخلاقه و فضائله عن آلهة(1) الأنبياء / 97

(2) الأنبياء / 101


تمثل شهواتهم و عصبياتهم التافهة .

[ بل هم قوم خصمون ]

كلمـا ابتعدت أمة عن قيم الوحي كلما ازدادت حاجتها النفسية الى الخصام و الجدال ، أوليس الإنسان يمارس الجدال من أجل دحض الحق ، كما قال ربنا : " و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " ؟ أوليسوا قد هبطوا الى حضيض الباطل ، فلابد أن يبلغوا ذروة الخصام حتى يبتدعوا لكل حق باطلا يجادلون به لدحض الحق .

هكذا قال الرسول ( صلى الله عليه و آله ) :

" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ، ثم تلا هذه الآية " (1) .

و حسب بعض التفاسير أن معنى الآية : إن القوم قالوا ما دام عيسى ابن مريم في النار - لأنه يعبد من دون الله - فلا بأس أن تكون آلهتهم أيضا في النار وهم معها ، ولكنهم كانوا يعلمون أن عيسى ليس في النار ، لأنه لم يكن راضيا عن عبادتهم له ، ولم يكن يدعو أحدا الى عبادة أحد غير الله ، فما كان مثلهم بعيسى إلا جدلا .

[59] و أبطالا لجدالهم بين الله أن عيسى لم يكن إلها كما اتخذه النصارى ، ولم يدع الرسول الناس الى نفسه ان يعبد من دون الله ، إنما كان عيسى عند القرآن عبدا مخلوقا ، و إنما كان يميزه عن الآخرين نعمة الوحي الذي أنزل عليه ،[ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ]

حيث انتخبه الله لرسالاته .


(1) تفسير فتح القدير / ج 4 - ص 564


[ و جعلناه مثلا لبني إسرائيل ]

ليقتدوا به ، حيث أن الرسول - أي رسول - يجسد المكرمات ، فيأمر الله باتخاذ سنته منهجا . ولقد فشت المادية في بني إسرائيل ، و فرغت الرسالة من روحها و قيمها و أهدافها المباركة ، فكان عيسى بن مريم - عليه السلام - مثلا لبني إسرائيل في الزهد و الخلـق الرفيع . هكذا يصف أمير المؤمنين - عليه السلام - أخاه عيسى بن مريم حين يقول :

" وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام ، فلقد كان يتوسد الحجر ، و يلبس الخشن ، و يأكل الجشب و كان إدامه الجوع ، و سراجه بالليل القمر ، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها ، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجه تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، و خادمه يداه " (1)[60] و الله غني عن طاعتهم ، ولو شاء لأهلكهم ، و أسكن مكانهم ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ، وهم إذ يعصونه بالشرك لا يخرجون عن إطار قدرته .

[ ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة ]

أي بدلا منهم .

[ في الأرض يخلفون ]

[61] و مضى القرآن يكرم عيسى بن مريم ، و يجعله من أشراط الساعة ، حيث رفعه الله اليه ، و أدخره لآخر الزمان حيث يهبط من السماء ، و يصلي خلف المهدي(1) نهج البلاغة / خ 160 - ص 227


المنتظر - عليه السلام - بعد ظهوره .

[ وإنه لعلم للساعة ]

جاء في النصوص المتظافرة عن الرسول - صلى الله عليه وآله - : " ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم : تعال صل بنا ، فيقول : لا . إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأمة " (1)[ فلا تمترن بها ]

أي فلا تشكوا ، وإنما يشك الانسان حتى يجعل علمه جهلا بالتكاسل عن العمل ، كما قال الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - : " لا تجعلوا علمكم جهلا ، و يقينكم شكا ، إذا علمتم فاعملوا ، وإذا تيقنتم فأقدموا " (2)ولعل الحكمة في التأكيد على النهي من الشك هي أن الحقائق العظمى تحمل الإنسان مسؤولية كبيرة ، و لكي تهرب النفس منها تستجير بالشك و الإرتياب : من يقول أن الساعة قائمة ، ومن يقول أن الناس يبعثون ..

و عيسى - عليه السلام - كان كل شيء فيه دليلا على الساعة ، فقد ولد من غير أب ، ثــم رفع الى السماء دليلا على قدرة الله التي لا تحد ، ثم إنه كان دائم التذكرة بالآخرة ، وقد اتخذ من الزهد في الدنيا منهجا لحياته ، و محورا لدعوته .

[ واتبعون هذا صراط مستقيم ]


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 611 نقلا عن مجمع البيان ثم قال : أورده مسلم في الصحيح وفي حديث آخر : كيف أنتم اذا نزل فيكم ابن مريم و امامكم منكم .

(2) نهج البلاغى / حكمة 274 - ص 524


و اتباع الرسول دليل الإيمان بالساعة ، فمن أيقن بها و فكر كيف ينقذ نفسه من ويلاتها ، فسوف لا يجد صراطا مستقيما الى الجنة و الرضوان غير رسالة الرسول و حسن اتباعه فيها .

و " هذا " إشارة الى رسالة الله المتمثلة في القرآن .

[62] [ ولا يصدنكم الشيطان ]

فيجعل بينكم وبين الصراط المستقيم حواجز التكبر ، و العزة بالإثم ، أو حواجز الدم و اللغة .. وهكذا ، وقد تكون نفسك أو صديقك أو حتى زوجتك هم شيطانك الذي لا يفتأ يصدك عن الصراط المستقيم .

إن الشيطان وما فتأ حتى الآن يجعل بينك و بين الرسل أو من يخلفه حواجز من التهم و الشائعات و الشبهات ، و هكذا تجد أجهزة الطاغوت يلمعون الوجود الخبيثة ، و يشوهون صور الرسل و الشخصيات الرسالية .

[ إنه لكم عدو مبين ]

فقد يأتي اليكم بصفة الناصح ، وهو لكم عدو مبين ، وهو يمكر و يكيد و يزين و يغر ، و يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه ، و بالتالي إنه قد عقد العزم على إغواء أبنـــاء آدم ، جـاء في الحديث : " إن الشيطان يسني لكم طرقه ، و يريد أن يحل دينكم عقدة عقــدة ، و يعطيكـم بالجماعة الفرقة ، و بالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزعاته و نفثاته " (1) .

[63] [ ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ](1) نهج البلاغة / خ 121 - ص 178


وهو جوهر الرسالة ، الذي يصدقه عقل الإنسان و فطرته .. و رأس الحكمة توحيد الله ، و مخافته ، و التوكل عليه ، و التحابب فيه ، و الإحسان الى الناس ابتغاء رضوانه ، وهذه هي وصايا الأنبياء ( عليهــم الســلام ) و بالذات النبي عيســى بن مريــم - عليه السلام- فلقد جاء في بعض مواعظه :

" بحق أقول لكم : إن أرواح الشياطين ما عمرت في شيء ما عمرت في قلوبكم ، وإنما أعطاكم الله الدنيا لتعملوا فيها للآخرة ، ولم يعطكموها لتشغلكم عن الآخرة ، وإنما بسطها لكم لتعلموا أنه أعانكم بها على العبادة ، ولم يعنكم بها على الخطايا .

بحق أقول لكم : إن الأجر محروص عليه ، ولا يدركه إلا من عمل له .

بحق أقول لكم : إن الشجرة لا تكمل إلا بثمرة طيبة ، كذلك لا يكمل الدين إلا بالتحرج عن المحارم .

بحق أٌقول لكم : إن الزرع لا يصلح إلا بالماء و التراب ، كذلك الإيمان لا يصلح إلا بالعلم و العمل .

بحق أقول لكم : إنه لا يجتمع الماء و النار في إناء واحد ، كذلك لا يجتمع الفقه و الغي ( وفي نسخة : و العمى ) في قلب واحد .

بحق أقول لكم : إن النفس ( الشمس ) نور كل شيء ، وإن الحكمة نور كل قلب ، و التقوى رأس كل حكمة ، و الحق باب كل خير ، و رحمة الله باب كل حق ، و مفاتيح ذلك الدعاء و التضرع و العمل ، و كيف يفتح باب من غير مفتاح " (1) .


(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 14 - ص 316 نقلا عن تحف العقول .


و يبدو أن عيسى - عليه السلام - بعث لتصحيح مسيرة المؤمنين بالتوراة ، ولقد أجمل الإمام الصادق - عليه السلام - شريعة عيسى حين قال :

" كان بين داود و عيسى بن مريم أربع مأة سنة ، وكان شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد و الإخلاص وبما أوحي به نوح و إبراهيم و موسى ، و أنزل عليه الأنجيل ، و أخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين ، و شرع له في الكتاب : إقامة الصلاة مع الدين ، و الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، و تحريم الحرام ، و تحليل الحلال ، و أنزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال ، وليس فيها قصاص ، ولا أحكام حدود ، ولا فرض مواريث ، و أنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى في التوراة ، وهو قول الله في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل : " و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " و أمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة و الإنجيل " (1) .

[ ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ]

فقد جاء عيسى - عليه السلام - ليرفع الأختلاف الكبير الذي كان قد دب في بني إسرائيل حتى بلغ دينهم فتفرقوا مذاهب شتى ، و أبرزها أربع :

الأولى : طائفة الصدوقيين من أولاد هارون ، الذين توارثوا الولاية على الهيكل منذ عهد داود و سليمان ، و اهتموا بالقشور و شكليات الطقوس ، و أضاعوا القيم فتراهم يرتكبون الموبقات ثم يأخذون على غيرهم استخفافهم ببعض الطقوس .

الثانية : طائفة الفريسيين ، حيث عزفوا عن الدنيا ، و مالوا الى التصوف ، و ترفعوا على الناس ، و اغتروا بما لديهم من زهد و معرفة .


(1) المصدر / ص 234


الثالثة : السامريين نفوا الكتب التي أضيفت الى الكتب الموسوية في العهود المتأخرة .

الرابعة ، طائفة الآسين وقد تأثروا ببعض المذاهب الفلسفية (1) .

وقد جاء عيسى بن مريم ينفي كل هذا التكلف في الدين ، و يعيد الناس الى عبادة ربهم الواحد ، و يأمرهم بالإهتمام بروح الدين وليس حدوده فقط ، فقال فيما قال :

" أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ، و يبتلعون الجمل !! إنكم تنقون ظاهر الكأس و الصفحة ، وهما في الباطن مترعان بالرجس و الدعارة ، ويل لكم أيها الكتبة و الفريسيون المراؤون . إنكم كالقبور المبيضة ، خارجها طلاء جميل ، و داخلها عظامنخرة " (2) .

و خاطب الجماهير ، و تحدث عن العلماء الفجار ، قائلا :

" بحـق أقول لكم : إن شر الناس لرجل عالم آثر دنياه على علمه ، فأحبها و طلبها ، و جهد عليها حتى لو استطاع أن يجعل الناس في حيرة لفعل ، وماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها ، كذلك لا يغني عن العالم علمه إذا هو لم يعمل به . ما أكثر ثمار الشجرة ، وليس كلها ينفع و يؤكل ، وما أكثر العلماء ، وليس كلهم ينتفع بما علم ، وما أوسع الأرض ، وليس كلها تسكن ، وما أكثر المتكلمين ، وليس كل كلامهم يصدق ، فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم ثياب الصوف ، منكسوا رؤوسهم الى الأرض ، يزورون به الخطايا ،


(1) في ظلال القرآن ، بتصرف و إيجاز / ص 348 - 349 نقلا عن " عبقرية المسيح " للعقاد / الطبعة السابعة - دار إحياء التراث العربي .

(2) المصدر .


يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب ، و قولهم يخالف فعلهم ، وهل يجتنى من العوسج العنب ، ومن الحنظل التين ؟! " (1) .

[ فاتقوا الله و أطيعون ]

إذ أن الفلاح لا يكون إلا بتقوى الله ، و طاعة رسوله .

[64] [ إن الله هو ربي و ربكم ]

أستوي أنا و أنتم عنده ، فهو ربي و ربكم ، ولست بربكم ، أو ابن ربكم .

[ فأعبدوه هذا صراط مستقيم ]

الصراط المستقيم أن تسقط في ذاتك عبادة الأولياء أو عبادة الأصنام ، أنى كانت حجرية أم بشرية ، و تعبد الله وحده .

[65] [ فاختلف الأحزاب من بينهم ]

اختلفوا في عيسى (ع) ، منهم من جعله ثالث ثلاثة ، و منهم من عاداه و أراد قتله ، و منهم من آمن به و صدقه ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري الى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " (2) .

[ فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ]


(1) بحار الأنوار / ج 14 - ص 307

(2) الصف / 14


وهذا الإختلاف على عيسى (ع) كان سببا للعذاب الأليم ، لأنه ظلم ، وهكذا كل اختلاف في الدين نابع من الأهواء .

[66] [ هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ]لو مات الإنسان وهو قائم يصلي أو في حالة عبادة أخرى ، فطوبى له و حسن مآب ، أما لو كان يعمل الخبائث ، أو يظلم الآخرين ، فياللخسارة العظمى ! إن ساعة الموت مصيرية لابد من أن نكون مستعدين لها دائما ، لأنها تنزل بنا في أية لحظة ، ولذا نجد في سورة مريم (
ع) قوله : " و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا " و قولــه : " و سلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا " ، وقد قال يعقوب لبنيه : " فلا تموتن إلا و إنتم مسلمون " (1) ، وفي الدعاء : " اللهم اجعل خير أعمالي خواتيمها ، و خير أيامي يوم ألقاك " .


(1) البقرة / 132


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس