بينات من الآيات [ 13] قصة المرسلين الثلاثة الى قرية ( أنطاكية ) التي جعلت قلب سورة ( يس ) التي هي بدورها قلب القرآن تتمثل فيها الحقائق التالية :
أولا : توجز مفصلات الصراع الرسالي مع الجاهلية ، حيث نرى فيها جانبا من حوار الرسل مع الأمم الغاوية ، و حججهم البالغة عليهم ، و شبهات الكفار و ردود المرسلين عليها ، و سائر فصول الصراع المعروفة ، فهي - بالتالي - تجمع جملة الحقائق التي ذكرت بها آيات الكتاب في هذا الحقل .
ثانيا : تمثلت فيها سنة الله في الإنذار ، و عادة الجاهليين في الإنكار ، و اللتين ذكرت بهما آيات الدرس الآنف ، و هكذا تكون القصة حجة على الحقائق التي بينها القرآن في فاتحة السورة .
ثالثا : إن سورة يس تبين واقع الجاهليين العرب و هو قريب جدا من واقع أصحاب القرية ( في أنطاكية ) ذلك لقرب العهد الزمني ، و تشابه الرسالتين ( رسالة الله الى عيسى (ع) و رسالته لمحمد (ص) ) و هكذا وجب أن نستخلص منها العبرة ربماأكثر من أي قصة أخرى .
[ و اضرب لهم مثلا ]
إن هذا المثل ينطبق على مثلهم ، لأنهما من نوع واحد و حزب واحد .
[ أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ]
أين كانت هذه القرية ، و من هم المرسلون إليها ؟
قالوا : إنها كانت أنطاكية ثانية حواضر الروم ، و الواقعة اليوم في تركيا على حدود سوريا ( 100 كيلو متر الى حلب تقريبا ) و قريبة من ميناء الاسكندرية على البحر الابيض ( 60 كيلو متر تقريبا ) و هي لا زالت كبيرة ، إلا إنها في ذلك اليوم كانت أكبر ، و يحترمها المسيحيون لأن بولس و برنابا و آخرين زاروها .
أما قصة الرسالة فلم يختلف المفســرون فيها إلا في بعض التفاصيل ، و هي باختصار :
إن عيسى - عليه السلام - بعث اثنين من الحواريين الى تلك القرية بالرسالة ، فلما بلغاها وجدا في اقصاها حبيب النجار فدعياه الى الرسالة فآمن ، و لما دخلا المدينة دعوا الناس فآمن بعضهم ، و مر بهما الملك ذات يوم فكبرا ( و يبدو أنهما لم يجدا طريقا لدعوته غير ذلك ) فحبسهما الملك ، و بعث عيسى - عليه السلام - الرسول الثالث لتعزيز موقف الأولين ( و لعله كان وصيه شمعون ) فتقرب الى الملك حتى استخلصه فحدثه عن شأن الرسولين ، و طلب منه أن يسمع منهما الحجة ، فلما اظهرا حجتهما بإبراء الأكمه و إحياء الموتى ( حيث أنابن الملك أو ابن واحد من حاشيته كان قد مات قبل اسبوع فإحياه الله بدعائهما ) آمن الملك و بعض قومه ،إلا أن الغلبة كانت للمكذبين الذين اهلكهم الله بصيحة واحدة .
و هكذا يرتفع الإختلاف الظاهر بين روايات التفسير التي تنقل أن الملك آمن ، و بين ظاهر الآية التي تنبأنا بهلاك أولئك القوم ، ذلك أن إيمان الملك - حسب هذه الرواية التي نقلها الفخر الرازي - لم يؤثر في الطبقات المسرفة من قومه ، فإنزل الله عليهم العذاب ،و الله العالم .
[ 14] و ليس المهم أن نعرف تفاصيل القصص القرآنية ، إنما المهم أن نتدبر في الجوانب التي يخبرنا ربنا عنها ، لأنها هي التي تنفعنا ، و تجري علينا سنن الله فيها كما جرت على الأولين .
و هكذا كذب اولئك الغافلون اثنين من المرسلين فعزز الله دينه بالثالث .
[ إذ أرسلنا إليهم اثنين ]
هل كانا رسولين من عند الله مباشرة ؟ أم كانا من عند المسيح روح الله - عليه السلام - كما تروي التواريخ ؟ و اذا كيف يقول ربنا سبحانه : " أرسلنا " ؟
ربما كانا نبيين - كما هارون مع موسى ، و يحيى مع عيسى - إلا أن المفروض عليهما كان طاعة عيسى - عليه السلام - باعتباره من أولي العزم .
و لعل رسول عيسى - عليه السلام - يعتبر عند الله رسوله ، لأن عيسى إنما أرسلهما بإذن الله ، أو ربما بأمر مباشر من الله ، فهما بالتالي رسولان من عند الله .
[ فكذبوهما ]
بالرغم من أن البعض آمن بهما - كالصديق حبيب النجار الذي جاء ينذر قومهمن أقصى المدينة - إلا أن الأغلب كان قد كذب بالرسولين ، لأنهم قد حق القول عليهم .
[ فعززنا بثالث ]
لقد عزز الله دينه الحق بالرسول الثالث ، الذي قالوا : إنه كان شمعون و صي عيسى .
[ فقالوا إنا إليكم مرسلون ]
لا يتعرض السياق لبيان الآيات التي تقول الروايات أنها ظهرت على ايديهم ، مثل إبراء الأكمه و إحياء الموتى ، فهل لأنها لم تكن ضرورية ، إذ أنهم عرفوا صدقهم من خلال أقوالهم ، و ما دعوا اليه من حقائق ، و من خلال سلوكهم و استقامتهم ؟ أم لأن ظهور الآيات علىأيدي الرسل كانت سنة لا تحتاج الى مزيد بيان ؟
لعل القوم كانوا مستبصرين فأغواهم الشيطان ، و أن دعوة الرسل جاءت لتذكيرهم بالحقائق التي آمنوا بها من قبل فلم تكن بحاجة الى آيات جديدة ، و الله العالم .
[ 15] أما شبهة قومهم فكانت تتلخص في أنه كيف يبعث الله بشرا رسولا ، و بالتالي لماذا نطيعكم و أنتم مثلنا ؟
[ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ]
ثم تمادوا في الغي حيث لم ينكروا فقط رسالة هؤلاء بل كفروا بكل رسالة ، و قالوا :
[ و ما أنزل الرحمن من شيء ]
لا رسالتكم ولا رسالة غيركم . و هكذا ازدادوا كفرا و طغيانا ، و لكن لماذا جيء بأسم الرحمن هنا ؟ هل لأن الرسل ذكروا هذا الاسم و هم يبينون لهم أن ربهم لا يتركهم بلا رسالة ، لأنه واسع الرحمة شديد العطف ، فقال الكفار كلا .. ما أنزل الرحمن ؟ أم لأنهم زعموا أن رحمة الله تأبى إنزال التكاليف الشاقة عليهم بالرسالة ؟ يبدو أن الأول أقرب ، فيكون جوابهم مضمرا في حديث أنفسهم .
[ إن أنتم إلا تكذبون ]
فلأن أصل الرسالة مرفوض عندهم فإن دعوة الرسل تكون - بزعمهم - مجرد كذب ، و لعل هذه الآية تدل على أن الرسل كانوا ينطقون عن الله مباشرة .
[ 16] الله تعالى أكبر شاهد على صدق رسله . أو لم يودع في ضمير كل إنسان عقلا يهديه الى الحق ؟ أولا يظهر على أيدي رسله الآيات ؟! أولا ينصرهم ؟ أفلا تدل استقامتهم على صدقهم ، أنهم واثقون تماما من أنهم مرسلون و أنهم لصادقون ؟
[ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ]
و لكن لا يعني تحملهم لمسؤولية الرسالة أنهم مسؤولون عن موقف الناس ، إنما جزاؤهم على ربهم .
[ 17] [ و ما علينا إلا البلاغ المبين ]
فإذا أبلغناكم الرسالة بوضوح تام فقد انتهى دورنا و بدأ دوركم .
و نستوحي من الآية : أن البشر مسؤول عن معرفة الهدى ، ولا يحق له أن يبررجرائمه بأنه لم يكن مهتديا للحق ، كلا .. إذا ظهرت دعوة الى الحق فعليك أن تتفكر من دون عصبية أو عزة ، و ترى هل هي صادقة أم لا .
[ 18] يغفى الجاهليون على حرير التبريرات غارقين في شهواتهم ، فإذا جاءهم نذير و قدم لهم الوعيد بأن عاقبة غفلتهم الدمار ، فإنهم يتشاءمون منه ، و يزعمون أنه يكدر عليهم صفو معيشتهم ، فمثلهم مثل مريض ، تفشى في جسده مرض السرطان ، و هو لا يدري ، فإذا أخبرهالطبيب و حذره من مغبة غفلته ثار عليه ، و قال : إنك منكد ، لماذا انت سلبي ؟
[ قالوا إنا تطيرنا بكم ]
تشاءموا منهم ، و زعموا أن بيان سلبياتهم ، و الدعوة الى إصلاح الفاسد من حياتهم ، هو سبب الإزعاج عندهم .
و احتمل بعض المفسرين أن يكون قد نزل عليهم البلاء عند بلاغ الرسل ، كما نزلت على فرعون و قومه آيات الدم و السنين و .. و .. و يبدو أننا لسنا بحاجة الى مثل هذا الفرض .
[ لئن لم تنتهوا لنرجمنكم ]
هكذا بلغ عنادهم أسفل درك له حين هددوا المرسلين بالرجم لو لم يكفوا عن دعوتهم ، و سواءا كان الرجم هو جراحات اللسان التي لا تلتئم ، حيث توعدوهم بتلفيق التهم المختلفة ورجمهم بها ، كعادة الطغاة و المترفين دائما ، أم كان معنى الرجم هو الرضخ بالحجارة حتىالموت ، فإن ذلك دليل على هزيمتهم أمام حجة المرسلين فتوسلوا بإرهابهم .
[ و ليمسنكم منا عذاب أليم ]
و ماذا فوق الرجم ( لو كان معناه الرضخ بالحجارة ) من عذاب ذي ألم ؟
لعلهم هددوهم بالقتل بأبشع صورة .
[ 19] و عكس جواب المرسلين سكينة الحق ، و طمأنينة الثقة بنصر الله ، إذ لم يهنوا ولم يحزنوا بل كشفوا لهم الحقائق دون لبس ومن دون استخدام ألفاظ نابية .
[ قالوا طائركم معكم ]
كان شؤمهم في أنفسهم السلبية ، في عنادهم ، و تعصبهم لباطلهم ، و في أعمالهم التي جرت الويلات اليهم . أرأيت الفيروس مستقر في جسد المريض أم في كلام الطبيب ؟ أو رأيت الذي ينهى أحدا من الوقوع في بئر محفورة في طريقه ؟ هل الخطر كامن في نهيه أم في غفلة من يمشي ؟
المجتمع الفاسد الذي يمشي على حرف الهاوية ، و يهدده السقوط في أية لحظة ، طائره المشؤوم إنما هو طبقيته ، و ظلم أفراده بعضهم البعض ، و إسرافه ، و ليس في دعوة المنذرين .
[ أئن ذكرتم ]
فإذا ذكرتم بما يهددكم من أخطار ، فهل هذا يسمى طائركم عندكم ؟!
و قـال المفسرون : إن هذه الكلمة بمثابة إجابة عن تهديدهم بالرجم و العذاب ، أي : هل تعذبوننا لأننا ذكرناكم ؟
و يبدو أن محور كلام الكفار هو التطير ، و أن محور كلام الانبياء هو الجوابعن هذا التطير .
[ بل أنتم قوم مسرفون ]
فإسرافكم هو السبب في الشؤم الذي أصابكم ، و لعل هذه الآية تتشابه و قوله سبحانه : " و اتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه " . (1)و ذهب البعض الى أن الإسراف هنا بمعنى الإسراف في الجريمة و الظلم ، و أنه يتصل بتهديد الرجم .
[ 20] و هنا تدخل المسرح صورة جديدة ، هي انعكاس الرسالة على قلب واع و نفس زكية ، ذلك الرجل المؤمن الذي وجد قومه أشرفوا على الهلاك بكفرهم ، فسارع اليهم يحذرهم مغبة رفض الرسالة .
[ و جاء من اقصا المدينة رجل يسعى ]
جاء في الروايات أنه الصديق حبيب النجار ، الذي بلغته الرسالة بالرغم من أنه كان في أقصى المدينة ، و بادر الى النصيحة مع أنه كان - حسب الروايات - راعيا ، و لعل كلمة " أقصى المدينة " تشير الى طبقته الدانية عند أولئك القوم ، كما تشير الى موقعهالجغرافي مما تدل على انتشار الرسالة في صفوف بعض المستضعفين ، الذين بالرغم من انهم كانوا يعيشون في أقاصي المدينة ، و ليس في أعاليها حملوا مشعل الرسالة بكل قوة .
و لعل تنكير كلمة الرجل للدلالة على اكتمال صفات الرجولة فيه من الهمة العالية ، و الحزم الشديد ، و القول الثابت ، كقوله سبحانه : " من المؤمنين رجال(1) هود / 116 .
صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا " .
و ربما سعى الرجل سعيا لاهتمامه البالغ بالإنذار ، و حرصه الشديد على سلامة قومه ، و هكذا يحرص اصحاب النفوس الطيبة على أمن الناس ، و يتفانون في إبلاغ رسالات الله لإنقاذهم من عذابه المحتوم .
[ قال يا قوم اتبعوا المرسلين ]
لقد كان الرجل منهم ، و خاطبهم بما يتناسب و مقام النصيحة ، إذ قال : "يا قوم " ، و كشف منذ البدء عن إيمانه حين امرهم باتباع المرسلين .
و روي أنه كان واحدا من الصديقين الثلاثة في التأريخ ، فلقد جاء في كتاب " الدر المنثور " : أخرج أبو داود و أبو نعيم و ابن عساكر و الديلمي عن أبي ليلى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - :
" الصديقون ث90لاثة : حبيب النجار ( مؤمن آل ياسين ) الذي قال : " يا قوم اتبعوا المرسلين " ، و حزقيل ( مؤمن آل فرعون ) الذي قال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " ، و علي بن ابي طالب ، و هو أفضلهم " (1)[21] و مضى الصديق حبيب النجار في سرد حجج المرسلين قائلا :
[ اتبعوا من لا يسئلكم أجرا ]
فلا يمكن أن يتهموا بالكذب ابتغاء الأجر ، فهم ليسوا سحرة و مشعوذين ، ولا طلاب كراسي و سياسيين ، ولا أصحاب ثروة و مترفين ، فلماذا يكذبون ، و إنما يفتري الكذب - خصوصا في مثل هذه الدعاوي العظيمة - من يطلب أجرا من أي(1) راجع تفسير الميزان / ج 17 / ص 83 .
نوع كانت ، و سيرة الأنبياء كما نمط دعوتهم يشهد لهم بالنزاهة التامة .
[ و هم مهتدون ]
بلى . قد يدعي البعض دعاوي كاذبة بجهل أو جنون ، و حاشا رسل الله من ذلك ، إن رصانة دعوتهم ، و كمال عقولهم ، و حسن سلوكهم و سيرتهم ، و وضوح خطهم ، و استقامتهم على الطريق برغم الصعاب ، كل أولئك شواهد حكمتهم و أنهم مهتدون .
ثم إن مبادرة الرسول - أي رسول - بالعمل بما يدعو الناس اليه من مكارم الأخلاق ، و حسن الفعال تشهد على صدقه .
[22] ثم إن محتوى دعوة المرسلين شاهد صدق لهم ، فهم يدعوننا الى الله الذي أخذ علينا ميثاقا في عالم الذر بالايمان به ، الله الذي أودع قلوب البشر فطرة الإيمان به ، الله الذي تابع نعمه علينا ، و تأمرنا عقولنا بضرورة شكره ؟
إن دعوة الأنبياء ليست الى أنفسهم ولا الى عنصر أو حزب أو طائفة ، إنما هي الى الله الذي لاشك فيه ، و الذي فطر الجميع على سواء .
[ ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ]
إذا كانت هذه حقيقة رسالات النبيين فلماذا نكفر بهم ؟! و ماذا يملك من فقد ربه الذي خلقه و اليه المعاد ؟!
و هكذا نجد هذا الصديق العظيم لم يدع فقط الى اتباع المرسلين ، بل شارك في الدعوة الى محتوى رسالاتهم ، و هو التوحيد .
[ 23] ثم ندد بالشركاء المزعومين ، و بين أن أساس عبادتهم باطل :
[ ءأتخذ من دونه ءالهة ]
فاذا خضع لسلطة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية من دون الله ، فلكي تعطيه الأمن و السلام ، و لكي توفر له الحماية من ذنوبه أمام غضب الرب ، فهل تفعل الآلهة شيئا من ذلك ؟! كلا ..
[ إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ]فلا يخفف العذاب عنه بسبب عبادته للآلهة من دونه ، بل ذات العبادة جريمة نكراء يعاقب عليها الله ، و لا تستطيع الآلهة إنقاذ المشرك منه .
[ 24] [ إني إذا لفي ضلال مبين ]
لو تركت عبادة الفاطر الذي اليه النشور ، و القاهر على عباده ، الى عبادة الآلهة التي لا تضر ولا تنفع .
و الضلال المبين هو : الضلال الواضح الذي لا ريب في ضلالته .
[ 25] ثــم أعلــن للملأ جبهته التي انتمى اليها ، و تحداهم بإعلان براءته منهم ، فقال :
[ إني ءامنت بربكم فاسمعون ]
و لعله أبلغهم بذلك بعد أن رفض المعاندون قبول نصيحته ، و هددوه بإنزال العقوبة عليه كما هددوا المرسلين من قبل ، و لكنه استقام ، و أمرهم بأن يسمعوا شهادته بوحدانية الرب بلا لبس .
ولا ريب أن من الحجج البليغة على صحة الدعوة ، إيمان صاحبها الذي لا يتزلزل ، و تحديه العالم بها .
[ 26 - 27] و فعلا نفذوا التهديد الأرعن بحقه ، فوطأوه بأرجلهم حتى مات ، حسب قول ، و حسب قول آخر أنهم رجموه حتى قتلوه .
فأدخله الله الجنة ، و حينما هم بدخولها تمنى لو كان قومه معه :
[ قيــل أدخــل الجنــة قال ياليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ]و جاء في الحديث عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال عن مؤمن يس :
" إنه نصح لهم في حياته و بعد موته " (1)و هكذا الشهداء يتمنون لو يعادوا الى الدنيا ليخبروا أهلها بما للشهيد من مغفرة و كرامة .
[ 28] مضى الصديق حبيب النجار شهيدا الى ربه ، و لم يلبث قومه الجبارون من بعده إلا قليلا حتى أهلكهم الله ، و لكن كيف تم هلاكهم ؟
[ و ما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء ]من الملائكة أو ما أشبه ، و لعل ذكر " السماء " هنا للدلالة على أن الأمر المهم كان ينزل من السماء .
[ وما كنا منزلين ]
(1) تفسير نمونة / ج 12 / ص 35 .
فما كان ينبغي لرب العزة أن يبعث جندا لمثل هذا القوم . أليس قد تحقق الهدف من دون ذلك ؟
[ 29] فبماذا تم هلاكهم ؟ إنما بصيحة واحدة جعلتهم - في لحظة - كالرماد الخامد ، لا حس ولا حركة ولا حرارة .
[ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ]
[ 30] و يعقب السياق على هذه القصة التي لخصت تجارب الرسالات تقريبا قائلا :
[ يا حسرة على العباد ]
إنها تستدعي الحسرات ، حتى أن كل شخص يكون في مثل هذا الموقع لابد أن يتحسر ، أن الله خلق عباده ليرحمهم ، و أكرمهم بالإرادة و الحرية ، فاختاروا طريق الهلاك ، فبعث اليهم الرسل لينذرهم من مغبة أعمالهم ، و لكنهم استهزأوا بهم ، و عرضوا أنفسهم للهلاك الذييجر الحسرات . كيف ضيعوا فرصتهم الأخيرة بالإستهزاء ؟! و كيف أصبحوا وقود جهنم ، و كان من المرتقب أن يكونوا ضيوف الرحمن في الجنة ؟!
[ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون ]
و لعل الإستهزاء هو أشد ألوان الكفر ، و أبعد سبل الضلالة ، حيث يعيش صاحبه حالة العبثية و اللآهتمام ، و مثله في هذا المقام مثل الطبيب الذي ينصح المريض بالدواء ، و يحذره من الهلاك ، فبدل أن يشكره المريض ، و يبادر الى تنفيذ أوامره تراه يضحك منه . أوليسمثل هذا الرجل يستدعي الإشفاق و الحسرات ؟!
[ 31] و هم يغفلون عن مصير الغابرين الذين أهلكهم الله بكفرهم و استهزائهم ، و لم يبق منهم سوى العبرة .
[ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ]
و أعظم ما في الغابرين من أسباب الموعظة أنهم قد ضيعوا فرصتهم الوحيدة ، و أنهم لا يرجعون أبدا إلى أهلهم .
[ أنهم إليهم لا يرجعون ]
ألا نقف على أطلالهم ، و نتساءل : أين الذين عمروها و عاشوا في ظلها ، و هل يعودون يوما ليروا آثار الدمار الذي لحق ببلادهم ، أو ليخبرونا ماذا كان مصيرهم ؟ كلا ..
[ 32] بلى . سوف يجتمع الناس كلهم في يوم الحسرة ليحاسبوا حسابا عسيرا ، ثم ليجازوا جزاءا وافيا .
[ و إن كل لما جميع لدينا محضرون ]
قالوا : إن حرف " وإن " هنا أصلها إن بالتشديد ، و إن كلمة " لما " جاءت للتأكيد ، و هكذا يكون التأكيد يتبع التأكيد : " إن " للتأكيد ، و " كل " تفيد معنى التأكيد أيضا ، و " لما " و الجميع تأكيد ايضا .
و قال البعض : " إن " نافية و " لما " بمعنى إلا ، كما يقول القائل : نشدتك بالله لما فعلت ، أي إلا فعلت .
و يجوز أن يكون معنى " لما " هو التوقع ، و فيه معنى النفي ايضا ، أي لم يقعحتى الآن و سوف يقع .
و كلمة أخيرة :
تقول آخر الدراسات التي بحثت عوامل نشوء الحرب العالميتين : إن البشرية انساقت اليها انسياقا ، فلا أحد من القادة المتحاربين كان يريدها حربا مدمرة لا تبقي ولا تذر ، ولكنهم كمن ينحشر في الزحام يدفع و يدفع ولا يجد سبيلا للخلاص ، إنحشروا فيها بلا إرادةو وعي .
كذلك حين تتراكم سلبيات الأمم تتفجر في صور شتى ، منها : الحروب التي يجازي الله بها العباد . أولم يقل ربنا سبحانه : " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض " (1)و هكذا تلاشت قوة هتلر و اليابان ، و تأخرت أوروبا حتى أضحت القوة الثالثة . لماذا ؟
للجرائم التي ارتكبت بشأن الإنسانية و للإنحراف الكبير عن سنن الله التي لا تتغير .
و اليوم كيف يذر الرب العزيز الحكيم هذه الجرائم ترتكب بحق خلقه ؟! هذا الظلم العريض ، و هذا الإستضعاف الشامل ، مئات الملايين من خلق الله يظلمهم حفنة من المستكبرين ، فهل يهمل الله عباده ؟!
كلا .. ولكنه يملي لهم إن كيده متين ، فإن لم يرجعوا عن غيهم ، و يعتبروا(1) الانعام / 65 .
بمصير القرون التي كانت من قبلهم - كيف أهلكهم الله فلم يرجع منهم أحد ابدا - فإن ترسانات الأسلحة لابد أن تثور يوما لتصب الحمم على رؤوس صانعيها و الساكتين عنهم من الناس ، أو يخسف الله بهم الأرض ، أو يسقط عليهم من السماء كسفا ، أو ينشر فيهم وباء كوباء الايدز فلا يستطيعون رده .
إذا علينا جميعا أن نعي رسالة ربنا العزيز الرحيم ، و نأخذ إنذاره مأخذ الجد ، و الا فساعة الجزاء رهيبة ، ولا ينفع يومئذ الندم ، كما لا تنفع التوبة شيئا .
|