بينات من الآيات [ 1 - 3] يصور لنا السياق في مطلع هذه السورة الكريمة مشهدا من الغيب حيث تصطف الملائكة في السماوات العلى ، بما لا يعلم عددها إلا الله عز وجل ، أنتظارا لتلقي الوحي من ربها ، ثم تنزل به الى حيث يأمرها زاجرة ما يعترضها من العقبات ، تتنزل به و تتلوه على النبي ، و من هنا يمكننا القول بأن تنزيل الوحي ليس مخصصا بجبرئيل إنما يوجد معه ملائكة آخرون يؤدون نفس الدور ، و في القرآن نجد تعبير رسل الله ، يعني تارة الملائكة التي تهبط بالوحي ، و يعني تارة أخرى الملائكة الذين يتوفون الأنفس ، بينما يقول الله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم الى ربكم ترجعون " (1) يعني بذلك عزرائيل ، وبجمع الآيات الى بعضها نستوحي بأن ملك الموت الأعظم زعيم لنزعة الروح ، أما بقية الملائكة فهم أعوانه على ذلك ، كما أن جبرئيل الملك الأعظم - الذي يتنزل بالوحي على الانبياء و الرسل - زعيم لطائفة من الملائكة الذين يؤدون نفس المهمة .
[ و الصافات صفا ]
يقسم الله بالملائكة التي تصطف انتظارا لأمره و وحيه ، ثم تهبط لإنفاذ أمر(1) السجدة / 11 .
الرب ، زاجرة العقبات في طريقها ، كالطبقات الموجودة بين الأرض و السماء ، و الشياطين التي تحاول استراق السمع أو حجب الله عن أنبيائه و رسله .
[ فالزاجرات زجرا ]
كما أن من صفاتها تلاوة الوحي على الأنبياء ، و التلاوة من التتالي أي التتابع مما يدل على أن وحي الله لهم لا ينزل مرة واحدة ، إنما يتنزل مفرقا ، و ذلك مما تستدعيه الحكمة في التغيير .
[ فالتاليات ذكرا ]
[ 4] فالملائكة إذن ليسوا آلهة من دون الله ، إنما هم مسلمون لأمره ، و حملة وحيه الى الخلق ، فلا تصح عبادتهم ، و إنما عرفنا الله بجانب من دور الملائكة وهو شيء من الغيب ، لأن إشراك طائفة من الناس بالملائكة نابع من جهلهم لحقيقة هذا الخلق ، لهذا نجد القرآن بعد هذا التعريف المختصر و البليغ في نفس الوقت ، ينطلق لتأكيد حقيقة التوحيد قائلا :
[ إن إلهكم لواحد ]
ويلاحظ ورود ثلاثة تأكيدات على هذا الأمر ، هي القسم وهو أعظمها وإن التوكيدية واللام في عبارة لواحد ، الواقعة في جواب القسم .
[ 5] و لكي لا يشبع الإنسان ميوله الفطرية نحو العبودية للرب باعتقادات باطلة تجاه الكون و بعض المخلوقات يبين الله بأن كل مافي الكون هو مخلوق مفتقر اليه في وجوده ، و هذا البيان يعطي البشر شعورا بالإنسجام مع الطبيعة من حوله وهو يعبد ربه ، و على العكسمن ذلك لو اشرك بالله .
[ رب السماوات و الأرض وما بينهما ورب المشارق ]
و لعل الحقائق العلمية القائلة بأن لكل نجم و كوكب مدارا خاصا به ، فمشرقه و مغربه يختلف فيه عن غيره ، تكشف عن جانب من هذه الآية التي جاءت كلمة المشارق فيها جمعا .
و هناك احتمال آخر لمعنى الكلمة هو : إن رحلة الشمس من عام لعام ( أو بالأحرى حركة الارض السنوية حول الشمس ) تستدعي وجود مشارق لها بعدد أيام السنة .
و لعل تخصيص المشارق دون المغارب بالذكر إنما هو بسبب أن عباد الشمس يسحرهم شروقها فيعبدونها فيها ، و لذلك استدعى التأكيد على أن الله هو رب المشارق .
[ 6] أما عن الكواكب التي يتخذها فئام من الناس معبودا من دون الله ، إما لما يرون من اعتقادهم أن ظهورها و غيابها يؤثر في حياة البشر ، أو لأنبهارهم بروعتها ، فإن القرآن يوضح دورها في السماء فيقول :
[ إنا زينا السماء الدنيا ]
القريبة من الأرض ..
[ بزينة الكواكب ]
هذه الكواكب قد تكون موجودة في السماوات الأخرى ، و لكنها لا تكون زينة لها ، بسبب انعدام الأوكسجين و الهواء من فضائها ، مما يمنع بقاء الضوء أو انعكاسه .
[ 7] و بالاضافة الى هذا الجمال يشير السياق الى القوة و المتانة في خلق السماء ، حيث جعل فيها الرصد و الحرس ، يمنعون نفوذ الشياطين الى الملأ الأعلى .
[ وحفظا من كل شيطان مارد ]
[ 8] و تهدم هذه الآية الكريمة العقيدة الباطلة ، التي تقول بمعرفة الجن لجميع الأقدار التي جرت في الماضي ، و ما تجري الآن ، وما ستقع مستقبلا ، لانهم يتصلون بالغيب و يطلعون عليه ، و ينفي القرآن ذلك نفيا مباشرا بقوله :
[ لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ]
لا يستطيعون التجسس أو استراق السمع من الله ، و هو يوحي للملائكة بما يقدره و يقضيه ، لتباشر تنفيذها بإرادته تعالى .
[ و يقذفون من كل جانب ]
يقذفهم حرس السماء بأسلحتهم لو حاولوا النفوذ و اختراق الحجب ، فهم في يقظة دائمة .
[ 9] و دحرون الشياطن .
[ دحورا ]
عند تسللهم لاستراق السمع ، كما يكتب عليهم ذنبا يجمع الى جرائمهم الأخرى ، فينالون بذلك العذاب الشديد في النار بعد الحساب .
[ و لهم عذاب واصب ]
قال الإمام الباقر (ع) :
" عذاب واصب أي دائم موجع ، قد وصل الى قلوبهم " (1)[ 10= و الشياطين يسعون جهدهم للحصول على بعض المعلومات من السماء من أجل اضلال أهل الأرض بها ، بعد تضمينها الأفكار الباطلة ، وما عند الكهنة و المنجمين من الأخبار الصائبة هو من هذا النوع ، فهم يجلبون ثقة الناس بهم ، من خلال الجزئيات الصحيحة حتى يثقونبكل ما يصدر عنهم من الباطل .
[ إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ]
و في الآية وآيات أخرى مشابهة دلالة على أن الشياطين تتمكن من الحصول على بعض الأخبار ، من خلال مغامراتها المستمرة .
كما نستوحي من الآية وآيات أخرى أيضا في القرآن أن حديثا يدور لدى الملأ الأعلى عما يجري في الدنيا ، متى ينزل المطر ، متى تحدث الزلازل ، و .. و .. ولا ريب أن للظواهر الواقعة مستقبلا إرهاصاتها ودلالاتها ، و لعل الحاسة السادسة ، و النظر المغناطيسي ، والإنتقال التلقائي ، و التنبؤات الصحيحة ، و الأحلام ، وحتى بعض أبعاد السحر و الكهانة و العرافة و .. و .. تدل على وجود مبشرات و منذرات قبل وقوع الحوادث .
أما الذين يزعمون بانهم يتبعون الجن و الشياطين فإنهم خاطئون ، لأن الجن أساسا لا يملكون من علم الغيب شيئا ، حيث يمنعهم حرس السماء من ذلك .
[ 11] و بعد هذه المقدمة البليغة التي حطمت أسطورة الشرك بالجن ، و التصور(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 400 .
بأنها آلهة من دون الله ، يخلص السياق الى تساؤل من شانه أن يهز نفوس الكفار و المشركين و عقائدهم من الأعماق ، و يبعثهم على التسليم للرسالة و عقائدها الصائبة لو أرادوا ذلك .
يقول تعالى :
[ فاستفتهم ]
أيها الرسول واسألهم . والاستفتاء هو استطلاع الرأي ..
[ أهم ]
يعني الكفار و المشركين ..
[ أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ]
و لتفسير هذه الآية ثلاثة أوجه :
الأول : أن المعني بالتساؤل هم الملائكة ، ولا يملك الإنسان إجابة سوى الإعتراف بتفوقها الذاتي عليه من حيث القوة ، فهي أقوى حتى من الجنة ، التي يتصورها الإنسان لضعفه أنها آلهة ، فهي من جهة القياس أولى بادعاء الإلوهية و التمرد على الله ، لكننا نجدها خاضعة له مسلمة لأمره ، فلماذا إذن هذه النزعة نحو الربوبية في بعض بني البشر أو التكبر ، و هم ضعفاء في الخلقة حيث عنصرهم الطين اللازب ؟!
الثاني : إن المقصود بالخلقة الشديدة هم الجن ، و ما داموا أضعف من مقاومة قدرة الله و عذابه فلماذا يشرك البعض بهم ، و هذا الأمر يستوجب العذاب الأليمالذي لا تحتمله ابدانهم الطينية الضعيفة ؟!
الثالث : إن الآية تشير الى سائر خلق الله في الكون ، كالسماوات و الارض و الكواكب حيث تتجلى آثار قدرة الله ، التي دفع التشكيك فيها بالإنسان الى الكفر بالبعث ، فإذا ما تفكر الإنسان في خلقها و ثق بقدرة ربه ، و بالتالي آمن بيوم البعث ، و هذا أظهر الوجوهفيما يبدو لي .
[ 12] و مشكلة الإنسان تجاه الحقائق الكبيرة أنه لا يستوعبها إلا إذا اتصف بسعة الأفق و التعقل ، و كلما كان العقل كبيرا كان صاحبه أقدر على اكتساب المعرفة ، و عقل الحقائق ، و الإمام علي (ع) يقول :
" يا كميل ابن زياد : إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها " (1)و العاقل حينما يصغي للحقائق أو يشاهدها يتعجب منها و لكنه يصدقها ، فلا يكذبك لو قلت له بأن الدلفين يستخدم الآن في عمليات التجسس أو أن العلم الحديث اخترع جهازا فلق به رأس البعوضة . أما الجاهل فهو لا يكذب الحقائق و حسب ، بل و يستهزىء بصاحبها ، و يسخرمنه ، و قد يوصمه بالجهل و الجنون ، وفي الوقت الذي يدل موقف الإعجاب على نمو العقل ، وسعة الصدر ، و استيعاب الحقيقة ، فإن موقف السخرية دليل على ضيق الأفق ، و جمود الفكر ، و القرآن يصف الرسول بالإعجاب ، بينما يصف الكفار و المشركين بالسخرية .
[ بل عجبت و يسخرون ]
[ 13] ومن شواهد تحجر قلوبهم ، و جمود عقولهم ، أنهم لا ينتفعون بالذكر ، و قد يتعمدون التغافل عن الحقيقة .
(1) نهج البلاغة / خ 147 / ص 495 .
[ وإذا ذكروا لا يذكرون ]
و التذكير هو إثارة معلومات الإنسان في ذاكرته مما يدل على أن عقل الإنسان يحتوي على حقائق كثيرة لو استثاره صاحبه .
[ 14] وهؤلاء ليس فقط لا يعودون الى ذاكرتهم إذا استثيرت ، إنما يرفضون الانصياع للحق مع ظهور الآيات و الشواهد عليه ، و أعظم من ذلك جرأة على الله أنهم يستثيرون الناس للسخرية على الحق .
[ و إذا رأوا ءاية يستسخرون ]
و قد تكون في الآيات إشارة الى ثلاث مراحل يمر بها هؤلاء في رفضهم للحق : الأولى السخرية بالحق لمجرد رؤيته ، و الثانية : قسوة القلب ، و هي نتيجة للسخرية حيث تتراكم عليه الحجب ، فلا يعود صاحبه قادرا على التفاعل مع التذكرة ، و مطابقة الحق الخارجي مع الفطرة البشرية و العقل ، و الثالثة : محاربة الحق و محاولة صد الناس عنه .
[ 15] و من أجل أن يبرر هؤلاء كفرهم بالحقيقة ، و يضلون الناس عنها يلجأون الى إثارة الشبهات حول الحقائق ، الشبهة الأولى حاولوا من خلالها تشكيك الناس في أصل الرسالة .
[ و قالوا إن هذا إلا سحر مبين ]
و اختاروا تشبيهها بالسحر ، لأنه أقرب الأمور و أشبهها للحق ظاهريا ، و من قصة النبي موسى (ع) يتضح لنا أن حبال السحرة خيلت للناس أنها تسعى ، إلا أن الفرق بين السحر و الحق أن السحر لا واقع له ، بينما الحق واقع قائم .
[ 16] و الشبهة الثانية قالوا : كيف يبعث الإنسان بعد أن يصير ترابا وأعضاء ممزقة ؟! لأنهم يريدون حياة لا مسؤولية فيها ، و هذا الاعتقاد يلتقي مع عبادتهم للجن و سائر الشركاء الذين يعبدونهم ليرفعوا عنهم المسؤولية بالشفاعة .
[ ءإذا متنا و كنا ترابا و عظاما أنا لمبعوثون ]
[ 17] ثم يضيفون استهزاءا و سخرية :
[ أو ءاباؤنا الأولون ]
الذين تلاشوا في التراب ؟!
[ 18] فيجيبهم الله على لسان نبيه (ص) إذ يترفع عن مخاطبتهم تحقيرا لهم و إصغارا ، و هكذا لا نجد في القرآن ولا أية واحدة ، تشتمل على خطاب مباشر من الله للمشركين و الكفار على صعيد الدنيا :
[ قل نعم و أنتم داخرون ]
أي ساجدين مستسلمين للارادة الالهية ، حيث تنتهي الحياة الدنيا و حرية الإنسان تباعا لها ، ولا يبقى هناك إلا العمل و الحساب ، حيث تتجلى المسؤولية التي لا محيص منها تجليا تاما .
|