فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 1] [ ص ]

حرف يفيد الابتداء به التنبيه ، و هو يشير الى القرآن الكريم ، و من أبعاده أنه رمز بين الله و أوليائه فهم يختصون بفهمه ، و عن الصادق (ع) ٍأنه من أسماء الله تعالى (3) ، و في خبر آخر (ص) اسم نهر ينبع من ركن العرش . قال الامام الكاظم (ع) : " إن أولصلاة صلاها رسول الله (ص) انما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدام عرشه جل جلاله ، وذلك أنه لما أسري به و صار عند عرشه تبارك و تعالى قال : يا محمد أدن من صاد فاغسل مساجدك و طهرها و صل لربك ، فدنى رسول الله (ص) الى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضى و أسبغ وضوءه " . قلت ( يعني الراوي ) : جعلت فداك وما صاد الذي أمره أن يغتسل منه ؟ فقال : " عين تنفجر من ركن من اركان العرش ، يقال له ماء الحيوان و هو ما قال(1) نوح / 10 - 12 .

(2) الاعراف / 96 .

(3) رواه ابن عباس نور الثقلين / ج 4 / ص 442 .


الله عز وجل : " ص و القرآن ذي الذكر " (1)ثم يقسم ربنا بالقرآن العظيم ، مشيرا الى أهم ما تشتمل عليه آياته الكريمة وهو الذكر .

[ و القرءان ذي الذكر ]

و قد سمى الله كتابه فيه بالذكر عشرات مرات ، وهنا يسميه " ذي الذكر " فما هو معنى الذكر ؟

لقد خلق الله الانسان مستقيما بفطرته ، التي أودعها الايمان بكلياته الكبرى ، بالله و اليوم الآخر ، و بضرورة الصدق و الوفاء و الامانة و .. و .. و لكن عوامل مختلفة من بينها ضغط الشهوات و المجتمع تدعوه الى الانحراف . و يأتي القرآن ليذكره بما ينساه أو يغفل عنه بسبب تلك العوامل ليعود الى رشده المتمثل في ( الطريق المستقيم ) الذي هو الحالة الطبيعية للانسان ، على خلاف الانحراف الذي يجسد الشذوذ في الحياة . فالقرآن يستثير العقل من خلال التفكير ، و فسر البعض الآية بالذكر الطيب و السمعة الحسنة . و يبدو ان التفسير الأول أقرب .

[ 2] و مع عظمة القرآن و قدرته الهائلة في التغيير و التأثير على الانسان ، لكن الكفار لا يتأثرون به ، لان التذكرة و حدها لا تنفع إذا كان جهاز استقبالها وهو العقل قد احتجب بالأهواء و الغباء الذي هو من أهم الحجب التي تمنع البشر من الانتفاع بالتذكرة ، وتدعوه الى الأصرار على الأنحراف .


(1) المصدر


[ بل الذين كفروا في عزة و شقاق ]

أما أنت أيها الرسول فعلى الحق ، من هنا قال بعض المفسرين أن المقسم به محذوف تقديره " و القرآن ذي الذكر " ( إنك تحمل للناس ذكرا ) ، و يدل على هذا الحذف التصريح به في مثيله من سورة يس إذ قال ربنا : " يس و القرآن الحكيم * انك لمن المرسلين " (1) و انما صار الحذف هنا لدلالة الآية الثانية على المحذوف المقسم به .

و هذه الآية تبين العامل في رفض الكافرين للتذكرة الا وهو العزة و الشقاق ، و العزة هو تصور الانسان نفسه أنه وصل من القوة و المنعة مالا يحتاج معه الى الحق ، أو الى ربه ، فيبقى يصر على انحرافه بل و يعتز بالخطأ . يقول ربنا في آية كريمة : " وإذا قيلله اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد " (2) ، و رفض هؤلاء للحق ليس نابعا من قوة المنطق لانهم يرفضونه بدون أي مبرر معقول ، و لكنه نابع من منطق القوة التي يخضع لها أكثر الناس و إنما لم يستجب كفار قريش للرسول إعتزازا بقوتهم ؟ بلى. إن من أعقد مشاكل الانسان أنه لا يعترف بخطئه حين يتبين له الحق غرورا و خشية بأن يجلب له ذلك المهانة فتراه يعتز بباطله الذي كان عليه .

أما الشقاق فهو الشذوذ فمع أن الكون كله قائم على الخضوع لله و حتى جسد الانسان يخضع لآلاف القوانين التي تخضع هي بدورها لمشيئة الرب . ترى الكفار و من يلتقي معهم من المذنبين و العصاة يشقون عصا الطاعة ولا ينسجمون مع الحق الذي تقوم عليه الحياة .

[ 3] و الانسان المؤمن يجب أن لا يضعف ولا يشكك في خطه حينما يرى(1) يس / 1 - 2 .

(2) البقرة / 206 .


الاغلبية منشقة عنه ، لان المقياس هو الحق و ليس الناس . و لو أنه درس الحياة لاطمئن الى خطه ، لانه حينئذ سيجد الكون بما فيه من خلق و سنن يسيران معه ، و كذلك لو قرأ التأريخ لاهتدى الى نفس الحقيقة ، و حتى المجاميع التي يعاصرها سوف تخضع لله شاءت أم أبت ، وإذا لم تختر ذلك عن وعي و ارادة حرة ، فسوف تجبر عليه بارادة الله و بسننه التي أجراها على الخلق أجمعين .

و لكي نؤمن بهذه الحقيقة يدعونا ربنا الى النظر في التأريخ ، فهو مليء بالشواهد الدامغة عليها ، فأولئك الذين رفضوا رسالات الله ، و لم يخضعوا لها و لرسله أهلكهم و لم تغن عنهم قوتهم شيئا .

[ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ]

القــرن الناس للذين يعيشون مقارنين مع بعضهم زمانا و مكانا ، و كم أداة استفهام تدل هنا على الكثرة . و الله إذ ادخل هذه الاداة في التعبير أراد أن يهدينا الى أن هذه السنة لم تتجل مرة واحدة و حسب فالتأريخ كله شواهد عليها و كانت هذه السنة الالهية جديرةبأن تتعظ بها الامم إلا أنها تكتشف خطأها متأخرا حين لا تنفع التوبة .

[ فنادوا ولات حين مناص ]

قالوا : لات كان في الأصل لا ( لنفي الجنس أو المشبهة بليس ) ثم أضيفت اليها التاء لتأكيد النفي كما تضاف الى ثم و رب لذات الغاية .

و المناص المنجا و الغوث يقال ناصه ينوصه اذا أغاثه .

هكذا يصور القرآن و ضعهم حين ينادون بالأستغاثة و التوبة و التألم و لقد اطلقالقرآن لكي يذهب بنا الخيال الى كل تلك المفردات لندائهم الميأوس .

و لكن ذهب وقت الفوت . أو ليست الفرصة فاتتهم الى الأبد ؟!

و تلك عاقبة الأعتماد على القوة ، و الاعتزاز بغير الحق ، فهذه الامم اعتمدت على منطق القوة في الحياة ، و رفضت الخضوع الى المنطق و الحق ، و غفلت أن للحق قوة لا تحد هي قوة الله عز وجل ، و قد أبى الله تشريعيا و تكوينيا أن ينتصر الباطل على الحق و أن تكونالعاقبة إلا في صالح الرسالات و حملتها .

[ 4] و للتمثــيل على عزة الكافرين وشقاقهم ، و صدودهم عن الذكر و الموعظة ، يحدثنا عن واقع المشركين و موقفهم من رسالة الاسلام .

[ و عجبوا أن جاءهم منذر منهم ]

لأنهم كانوا يتصورون الرسول يختلف عن الناس ، فكفروا به إذ لم يتفق مع مقاييسهم التي تريد الرسول قويا و ذا مال كثير لا أن يكون من وسطهم الاجتماعي ، و طبقتهم المالية و هذا التصور ناتج عن اعتزازهم بالقوة و المال لا بالحق ، فهما عندهم القيمة الاساسية فيالحياة . ولان منطقهم أضعف من أن ينال من قيم الرسالة استشكلوا على الرسول ، ليس في أخلاقه فهو باعترافهم جميعا كان في الذروة ، و لكن على وضعه المادي و الاجتماعي . ولم يكن هذا التبرير كافيا لرفضهم قيادته و زعامته فقد جاءهم بالحق و الآيات ، ولابد لهم من تبرير آخر ليتهربوا من المنطق الحق المتمثل في رسالته ، فصاروا من العجب الى الكفر .

[ و قال الكافرون هذا ساحر كذاب ]

و اختاروا كلمة ساحر لان السحر أقرب الاشياء للحق ظاهرا ، و إن كان واقعاأبعدها ، و كانت هذه التسمية للهروب من ضغط المعجزة .

و الواقع : إن ذات إتهام المشركين للرسالة بأنها سحر شاهد على صدقها ، إذ انه دليل على ان الرسالة كانت ذات جاذبية تشبه في قوتها جاذبية السحر عندهم ، كما انها كانت خارقة ذات ايات عجزت قواهم البشرية عن الاتيان بمثلها ، مما دعاهم للافتراء عليها بانها سحر.

فاذا عرفنا مدى الفرق بين السحر و الرسالة في ان الساحر لا يفلح ، و انه لا يبني حضارة ، وان كلامه لا يكون موافقا للعقل و الفطرة ، بينما الرسول يعكس ذلك كله ، عرفنا كيف كان اتهامه بالسحر دليل صدقه .

[ 5] و يهدينا القرآن مرة أخرى الى شذوذ الكافرين ( شقاقهم ) و عزتهم ، بالاشارة الى اعتراضهم على دعوة النبي التوحيدية ، فمع أن الوحدة حق يهتدي إليه الانسان بفطرته و تتطلع اليه الامم المتحضرة ، و لكنهم يرفضونها اعتزازا بواقع التمزق القائم عندهم .


[ أجعل الألهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ]

و من الآية نستوحي بأن التوحيد ليس هداية للناس للحق و حسب ، بل هو العلاج الحقيقي للفرقة ، ذلك أن منشأ التفرقة في أية أمة هو الشرك الكلي أو الجزئي فهذا الفريق انما ينشق عن البقية لانه يؤمن بفكرة و قيادة ما فالرايات القبلية ، و العصبيات العشائرية ، والحدود الجغرافية ، و المصالح القومية ، و الأختلاف العنصري و الطائفي ، و ما أشبه كل اولئك عوامل اختلاف الناس و شقاقهم ، واذا أمعنت النظر رأيت كل واحد منها ينتهي الى تقديس شيء من دون الله ، و انما الآلهة رموز تلك المقدسات . أرأيت الناس حين يقدسون العلمالوطني يعبدون قطعة قماش


أم حدود الوطن ؟ كذلك حين كان الجاهليون يعبدون الأصنام التي كانت ترمز الى عصبياتهم العشائرية فانما كانوا يعبدون قيم العشيرة .

و هذا نستنتجه من التدبر في الآيتين ( 2 + 5 ) ففي الوقت الذي يذكر القرآن الشقاق في مجتمع الجاهلية في الآية الثانية ، يشير هنا الى تعدد الآلهة فيه ، وفي نصوص التأريخ نجد أنه كان في الكعبة وحدها ( 360) صنما لكل قبيلة صنمها المختص بها ، و لكي يجمع النبي الناس و يوحدهم طرح رسالته التوحيدية كبديل عن الافكار الشركية ، و كسر الاصنام لانها كانت رمزا للتفرقة ( الشقاق ) و العزة .

و لعل أحدنا يستنكر على الكفار و المشركين رفضهم لتلك الرسالة التوحيدية ، و لكننا نجد اليوم و بعد (14) قرنا ، أناسا يسخرون ممن يطرح في - الساحة الاسلامية - كسر الحدود المصطنعة التي أوجدها الاستعمار بيننا ، و هي لا تعدو أن تكون بدائل عن الاصنام التي علقها الجاهليون في الكعبة و ليس رفض هكذا دعوة يأتي بسبب ان الرافضين لا يجدونها حقه ، و انما لاعتزازهم بالواقع الفاسد ، حيث تقوم دولة على كل قطعة أرض و يرتفع علم و يتسلط حاكم مغرور .

[6] ولا شك أن اول من يسعى للابقاء على الواقع القديم برموزه الصنمية هم أصحاب الوجاهة الاجتماعية ، و الصدارة السياسية ، و الثروات المسروقة لانهم انما يستعبدون الناس ، و يمتصون جهود المجتمع من خلال هذا الواقع الفاسد ، فاي محاولة للتغيير تعني تقويض مصالحهم و هكذا تراهم يهبون للدفاع عنه ، و محاربة الفكر الجديد ، بشتى الاساليب و من ابرزها اثارة العزة بذلك الواقع .

[ و انطلق الملأ منهم ]

و هم المستكبرون في المجتمع ، و الذين يقودون المعارضة ولا زالوا ضد الانبياءو الحركات التغييرية ، و همهم الاكبر الابقاء على التخلف فاذا بهم يدفعون عجلته بهذا الاتجاه .

[ أن آمشوا ]

و يوحون للناس بان مسيرتهم تقدمية و صحيحة بالتضليل و التجهيل . و لكن لان فطرة الانسان تخالف الباطل ، و لان الباطل تقف ضده كل عناصر الوجود و سننه فان قبوله صعب نفسيا و عمليا على البشر ، لهذا اكد الملأ على ضرورة الصبر .

[ و اصبروا على ءالهتكم ]

كما أن من أساليب الطغاة في جر الناس الى معارضة المصلحين ، أنهم يحاولون اقناعهم بأنهم يستهدفون مصالحهم و مقدساتهم ، فاذا نهضت طلائع المجتمع للثورة ، و قامت ببعض الاعمال الجهادية قالوا للناس : " بأن هذه الاعمال لا تستهدف السلطة و حدها انما تستهدف أمن المواطن و استقراره ايضا ، و بالتالي فمسؤولية القضاء على المخربين ( في زعمهم ) هي مسؤولية الجميع " و يؤكدون :

[ إن هذا لشيء يراد ]

و هناك تفسيرات عديدة لهذه الكلمة نذكرها تباعا :

ألف : وهو الذي يبدو أقربها أن الملأ أرادوا من هذه الكلمة أن الاستمرار على عبادة الآلهة شيء مطلوب و حميد ، اعتزازا بالباطل و الاثم ذلك ان من سلبيات النفس البشرية أنه يصعب عليها فردا و أمة التراجع عن الخطأ حتى لو تبين له .

باء : أن الملأ ارادوا بهذه الكلمة تشويه شخصية الرسول (ص) ، فكأنهم قالوا بأن هدفه من الرسالة و الانذار هو المنافع الشخصية التي يريدها لنفسه . و هذه منطبيعة الطغاة ، أنهم يتهمون المصلحين بذلك .

جيم : أن هذا المقطع من الآية هو كلام الله سبحانه و هو رد على قول الكافرين في مقابل دعوة التوحيد " إن هذا لشيء عجاب " .

[ 7] و يوصل السياق بيانه لاساليب الملأ في التضليل عن الحق .

[ ما سمعنا بهذا في الملة الأخرة ]

إن الشرعية و القدسية في نظرهم تكون للدعوة التي تنتمي الى الواقع و تتجانس معه ، لا التي تنطوي على الحق و العلم ، و ما دامت الاجيال الغابرة تنفي صحة هذا الفكر فهو خطأ إذن . و هذا ضرب من الرجعية لا مجتمعا يعتمد هذه المقاييس لن يبدع و لن يتقدم خطوة إلىالامام .

ثم حكموا على الرسالة الالهية بالباطل فقالوا :

[ إن هذا إلا اختلاق ]

اي جديدة الحدوث متقطعة الجذور عن التأريخ ، و دعوتهم هذه ضد الدين خطأ من زاويتين :

1 - أنهم اعتمدوا في تقييمهم للرسالة على النظرة الشيئية لا المنطقية ، فمن البديهي أن تكون النتيجة ضلالتهم !

2 - أنهم لم يبحثوا عن شرعية الرسالة و جذورها من خلال نظرة شاملة لتأريخ البشرية ، و لو فعلوا ذلك لم يعتبــروها اختلاقا ، لانها تلتقي مع ( 124000) دعوة في التاريخ جاء بها الانبياء و المرسلون منذ قبل ، و لكنهم قيموها من واقع جيل واحدفقط .

و جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر عليه السلام في نزول الآية قال :

" أقبل أبو جهل بن هشام و معه قوم من قريش فدخلوا على ابي طالب فقالوا : إن ابن أخيك قد آذانا و آذى آلهتنا فادعه و مره فليكف عن آلهتنا و نكف عن الله ، قال : فبعث ابو طالب الى رسول الله فدعاه فلما دخل النبي لم ير في البيت ولا مشركا ، فقال : السلامعلى من اتبع الهدى ، ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاؤوا له فقال : أوهل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب و يطأون أعناقهم ؟ فقال : أبو جهل : نعم . وما هذه الكلمة ؟ قال : تقولون : لا إله إلا الله .

قال : فوضعوا أصابعهم في آذانهم ، و خرجوا هربا و هم يقولون : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا إلا اختلاق ، فأنزل الله في قولهم : " ص و القرآن ذي الذكر الى قوله إلا اختلاق " (1)[ 8] ثم صرحوا بما تنطوي عليه نفوسهم تجاه الحق ، و قالوا لو انزلت الرسالة علينا لآمنا بها فنحن اولى بالنبوة منه لان عندنا المال و الرجال والوجاهة ، و نحن اصلح لقيادة المجتمع منه ، و ليس من المعقول أن ينزل الذكر على هذا الفقير اليتيم و الضعيف ، و اننسلم لقيادته ، و غاب عن ذهنهم أن الصفات المطلوبة في الرسول القائد ليست التي يتصورونها انما القيادة لصاحب العلم و التقوى و الاخلاق ثم ان الله هو الذي يعين الرسول لا الناس ولا الوجهاء .

[ أءنزل عليه الذكر من بيننا ]

و ينسف الله كل اعذارهم للكفر بالحق مبينا الاسباب المركزية الداعية إليه(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 442


و هي :

الاول : أنهم لم يستفيدوا من ذكر الله ، سواء الذي يتجلى في كتابه ، أو في تاريخ القرون الماضية ، أو على لسان الآخرين .

[ بل هم في شك من ذكرى ]

و الذي يشك في الآخرة ينعكس شكه على جزئيات الايمان و كلياته .

الثانــي : عــدم خوفهم من العذاب ، لانهم لم يتذوقوه ، و لم يستفيدوا من تجربة الذين وقعوا فيه قبلهم .

[ بل لما يذوقوا عذاب ]

و يستفاد من ( لما ) أن عذابهم مرتقب .

[ 9 - 10 - 11] و السبب الثالث : غرور المال و القوة اللذان أحاطا بهم ، فصاروا ينظرون الى جميع الأمور من خلالهما ، فاذا بهم لا يرون حاجة للرسالة في أنفسهم . و يحطم ربنا كبرياءهم هذا عن طريق مقارنة ما بحوزتهم بما عند الله من الملك و القوة .

[ أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ]

كلا .. و من خزائن الله الرسالة التي ينزلها على من يشاء من عباده المخلصين . ثم أن الذي عندهم مهدد بأن يسلبه الله بعزته ، بل هو هبة من الله لهم و ليس ملكا ذاتيا . ثم لندع مقايسة ما يملكه هؤلاء بما عند الله ، و لننظر ماذا يملكون من ظاهر الحياة الذي هوجزء ضئيل من ملكه تعالى :


[ أم لهم ملك السموات و الأرض وما بينهما ]

و ربنا يذكر هؤلاء بحقارة ما يملكون و عظمة ما يملكه الله ، لانهم - كما تقدمت الاشارة - يعتمدون على منطق القوة ، فاراد الله أن يوضح لهم بأنه الغالب في قوة المنطق و في منطق القوة أيضا .

إن هذا الانسان الذي يتمالكه الغرور فيتحدى ربه أَضعف ما يكون عن تحمل أدنى تحد فالسلطان المتكبر يقتله الله بجرثوم تعجز أحدث الاجهزة عن اكتشافه ، و قد يسلب منه كل ما يملك بين عشية و ضحاها و مما يذكر في التاريخ أن الناس ثاروا على خلفة من الخلفاء العباسيين ففقأوا عينه ، و جردوه من ملابسه و صادروا كل ما تملكه من اموال المسلمين ، حتى وقف يتسول على باب المسجد من الناس .

و ربنا من فوق عرشه يتحدى المتكبرين ؛ يقول : أجمعوا قواكم المادية و البشرية و العلمية ، و ابحثوا عن كل سبب من اسباب القدرة ، فان مصيركم لن يكون إلا كمصير الاقوام السابقة ، حيث كذبت الرسل و تحدت الحق فدمرها الله .

[ فليرتقوا في الاسباب * جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب ]فمهما اعتمدوا على اسباب القوة ( العدد و العدة و الخبرة ) فان المؤسسات العسكرية تنهار بفعل الارادة الالهية المباشرة أو المتجلية على أيدي المؤمنين . و جند مبتدأ ، و ما أداة للتقليل أراد بها الله تحقير قوتهم ، و هنالك اشارة للمكان البعيد الذي قد يستخدم للتحقير أيضا ، فيكون المعنى كقولنا أن هنالك جندا ما مهزومون من الاحزاب ، و في الروايات كان المقصود في التأويل من الاية هم المشركون في مكة و قد تحزبوا لحرب الاسلام ، فبشر الله نبيه بهزيمتهم و غلبته عليهم .

[ 12] و من أجل ان يستقيم الرسول في طريق الدعوة للحق ، و يقاوم تحدياتالكافرين ، يذكره بمعاناة الانبياء مع الاقوام السابقة ، و أن هؤلاء سوف يهزمون كما حدث لأولئك .

[ كذبت قبلهم ]

فتكذيبهم ليس جديدا ، ثم يذكر بمجرد الاشارة ، مجموعة من الاقوام :

[ قوم نوح و عاد و فرعون ذو الأوتاد ]

و إنما سمي فرعون بذي الاوتاد لانه كان اذا غضب على احد و تد رجليه و يديه و رأسه على الارض أو في خشبتين متقاطعتين على شكل الصليب ، أو في جذوع النخل ، و قيل أن سبب التسمية كثرة جنوده و جيوشه السائرة فكانوا إذا نصبوا الخيام في معسكراتهم ، و اثناء استراحتهم في الطريق صارت كثيرة جدا و هكذا أوتادها . (1)[ 13] كل تلك الاقوام كذبوا رسلهم ، وأيضا :

[ و ثمود و قوم لوط و أصحاب لأيكة ]

و هم قوم شعيب (ع) .

[ أولئك الأحزاب ]

فأين ذهب اولئك سوف يذهب هؤلاء أيضا .

[ 14] فهم أحزاب يختلفون مع بعضهم في طبيعة الحياة ، و المكان و القوة(1) المجمع / ج 7 / ص 468 .


و الضعف ولكنهم يجمعهم أمران هما : التكذيب بالحق و الرسل ، و العقاب الالهي الذي لحق بهم بسببه .

[ إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ]

و قد تكون هذه الآيات تمثيل للحقيقة التي طرحتها الآية (3) عن هلاك القرون السابقة .

[ 15] و الدمار الذي لحق بتلك الاقوام لم يكن أمرا طارئا ، انما ينسجم مع الحق الحاكم في الحياة ، و المتمثل في إرادة الله و السنن التي وضعها في الكون . و الحق هو الحق ، و الحياة هي هي بأساسياتها ، فلن يشذ عن هذه النتيجة كل من يمشي في ركاب المكذبين و خطهم في أي زمان و مكان .

[ وما ينظر هؤلاء ]

سواء كفار قريش أو طواغيت اليوم الذين يتحكمون في مصائر الشعوب ، و يحاربون الله و الاسلام ما ينتظر هؤلاء جميعا ؛[ إلا صيحة واحدة مالها من فواق ]

و ليس بالضرورة أن تكون الصيحة من جبرائيل أو أحد الملائكة الغلاظ عليهم السلام ، بل قد تكون الصيحة رصاصة يطلقها المجاهدون على المستكبرين ، و قد تكون ثورة شعبية جذرية تأكل الأخضر و اليابس من كيانهم .

و فواق بمعنى الرجوع ، و منه فواق الناقة إذا رجع لبنها الى الضرع بين الحلبتين ، و افاقة المريض من المرض إذا رجع الى صحته ، و هؤلاء حينما ينزل بهم العذاب لا تقبل رجعتهم للحق . وهذه الكلمة نجد تفسيرها في قوله تعالى في الآية الثالثة" ولات حين مناص " .

إذن فاعتماد الانسان على قوة المال و الجند و اعتزازه بهما في مقابل الحق أمر خطير يجره الى الهلاك ، بشذوذه عن الحق في الحياة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس