فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


منارا و هدى .
بينات من الآيات

[ 41] يمكن للشيطان أن يمس الانسان بالسوء في جانبي الحياة " المعنوي و المادي " و لكن ذلك لا يكون بالجبر و الاكراه ، لان البشر حر و مختار ، انما يضغط عليه و قد يمسه من ذلك شيء من التعب و الألم . و إذا تحدى الانسان ذلك و استقام رغم المشقة فانه ينتصر على إبليس لانه كما وصفه القرآن : " ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * انما سلطانه على الذين يتولونه و الذين هم به مشركون " (!) . و في موضع آخر تنقل لنا الآيات تصريحا عن الشيطان نفسه . تقول الآية : " و قال الشيطانلما قضي الأمر إن الله و عدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " (2)إن كون الانسان من المؤمنين لا يعني أنه لا يتعرض الى وساوس ابليس و ضغوطه ، وحتى الانبياء تعرضوا لضغوطه و محاولاته الدائمة للأغواء ، الا أنهم لم يستجيبوا له و لو ألحق بهم الاذى و المشقة . و هكذا كانوا قدوة للبشرية .

قال بعض المفسرين ( كالرازي في تفسيره الكبير ) : إن أنبياء الله أرفع من أن يمسهم الشيطان بالنصب و العذاب ، فلا يصح إذن أن ندعي بأن الحال وصل بأيوب (ع) الى حد استقذره الناس لمرضه . و الحقيقة أن هذا الامر جائز في مجال الامتحان لانهم عليهم السلام بعثواقدوات للبشرية ، و ليس صحيحا أن نبعد النظرة


(1) النحل : 100 - 101 .

(2) ابراهيم 22 .


الواقعية عن حياتهم ، فنأول الآيات في ذلك الى غير مضامينها . فننفي تعرض يوسف للسجن ، و موسى للاهانة ، و نبينا للاذى ، حتى قال عن نفسه :

" ما أوذي نبي مثلما أوذيت "

مع أن ذلك هو من صميم حياتهم و عنوانا عريضا في تأريخهم الرسالي ، باعتبارهم أنبياء !

و لو راجعنا آيات القرآن و الاحاديث لوجدناها تؤكد على أن الانبياء هم الاولى بالبلاء ، بل أنهم لم يصلوا الى هذا المقام الرفيع الا من خلاله . و قد روي عن الرسول (ص) و قد سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ أنه قال :

" الانبياء ثم الصالحون الامثل ثم الامثل فالأمثل من الناس " (1)نعم إن الشيطان لا يتسلط على عقول الصالحين و قلوبهم ، أما الجوانب المادية من حياتهم فهو قادر على سلبهم إياها لو أراد الله امتحانهم فيها ، كما ابتلى في ذلك نبيه أيوب (ع) .

قال الامام الصادق (ع) :

" ان الله عز وجل يبتلي المؤمن بكل بلية ، و يميته بكل ميتة ، ولا يبتليه بذهاب عقله ، أما ترى أيوب كيف سلط ابليس علىماله و ولده و أهله ، و على كل شيء منه و لم يسلط على عقله ، ترك له ليوحد الله به " (2)و القرآن في هذه السورة يدعو النبي الاكرم (ص) ، و كل مؤمن يسير في خطه الى(1) بح / ج 12 / ص 355 .

(2) المصدر / ص 341 .


تذكر الاصوات من تاريخ الرسل و الرسالات ، و أن تكون حاضرة في ذهنه أبدا ليستعين بذكرها على مواجهة مصاعب الحياة و مشاكلها من أجل الاستقامة في طريق ذات الشوكة .

[ و اذكر عبدنا أيوب ]

الذي كان في نعيم من الدنيا ، ثم انتقل منه الى الفقر و المرض ، لكنه استقام بعبوديته لله و لم يكفر ، لانه كأي مؤمن مخلص ينظر للحياة بنور الله ، فهو لا يضره إن فقد كل نعيمها و بقي له الايمان ، كما لا يجد لها طعما لوجمعت له لذاتها و لكنه فقد جذوة الايمان من قلبه و عمله . و قد تجلت عبودية أيوب (ع) في الغنى بشكره ، و في الفقر بصبره و استقامته .

[ إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب ]

أي اذكر من حياة أيوب هذا الموقف العظيم حين دعا ربه في الضراء ، و هذا الموقف عظيم لان من الصعب على الانسان وهو تتوارد عليه الضغوط و المشاكل من كل جانب أن يخلص توجهه الى ربه الاحد ، فهو حينما يجد مس الفقر و الجوع ربما يعتقد بأن الغني أو الحاكم هو الذي ينقذه من هذه الورطة ، و حينما يحوطه المرض غالبا ما يتصور بأن علاجه عند الطبيب لا بسببه ، و هكذا يقع في الشرك ، لكن أيوب تجاوز كل ذلك و حافظ على ايمانه و توحيده الخالص .

[ 42] و لم يكن البلاء الذي تعرض له أيوب بسبب ذنب عمله ، فهو معصوم مطهر عن المعصية ، و ما أراد الله من ابتلائه :

" الا رحمة ليعظم له الثواب ، و جعله عبرة للصابرين ، و ذكرى للعابدين فيكل بلاء نزل ، ليأنسوا به بالصبر و رجاء الثواب " (1)فلما أتم الله الابتلاء و اظهر صدق نبيه و معدنه رفعه عنه ، و عوضه عما فقده بما هو خير منه ليعرفنا ربنا بأن العاقبة للمتقين الصابرين .

[ اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب ]

قال الامام الرضا (ع) :

" فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله تعالى عنه كل ما كان به من البلاء " (2)[ 43] و بالاضافة الى إشفائه من الامراض و العلل التي لحقت بجسمه ، رد الله عليه ما فقد من الاهل سواء الابناء أو الاقرباء .

[ و وهبنا له أهله و مثلهم معهم ]

أي تضاعفوا فاذا كانوا عشرين صاروا أربعين ، و قد حملت هذه الآية على عدة تفاسير :

الاول : أن أهله ماتوا فأحياهم الله ، و أضاف اليهم مثلهم .

الثاني : أن الله عوضه عمن مات من أهله ببنين و بنات آخرين .

الثالث : أن أهله تفرقوا عنه لما أصابه من بلاء ، فجمعهم الله له و عطف قلوبهم عليه .


(1) المصدر / ص 360 .

(2) المصدر / ص 366 .


و لكن الروايات اكثر ما تؤكد على الرأي الاول ، و منها قول الامام الصادق (ع) في تفسير الآية :

" فرد عليه أهله الذين ماتوا قبل البلاء ، و رد عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء ، كلهم أحياهم الله تعالى له فعاشوا معه " (1)و بعد هذا البيان يصف الله رفعه البلاء عن نبيه بأنه ذو فائدتين :

الاولى : تعود على أيوب ذاته ، و قد أسماها رحمة فقال :

[ رحمة منا ]

لأيوب ، و قد تمثلت هذه الرحمة في شفائه من المرض و رد ما فقده عليه .

الثانية : تعود على عموم الرساليين و المتعقلين ، و تتمثل في العبر و الدروس التي خلفتها القصة .

[ و ذكرى لأولي الالباب ]

و أهم درس يستفاد من هذه الآيات ، هو أن لا ننهزم أمام مشاكل الحياة و ضغوطها ، فاذا ما بقي الانسان قويا في نفسه ، مقاوما للآثار النفسية و الروحية للازمات و المشاكل ، فانه لن يتأثر بها . و حتى يتمكن من ذلك يجب أن تكون علاقته بالحياة و ما فيها قائمة على أساس انها وسيلة ، لا علاقة شيئية باعتبارها هدفا بذاتها ، و انه إذا لم يصل الى أهدافه و طموحاته من طريق ما ، فسوف يحصل عليها(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 466 .


عن طريق آخر . فاذا خسر وسيلته أو فشل فيها فليبق على أهدافه و أرادته ، لانه بجهده و تحركه و استقامته قد يحصل على ما هو أفضل مما فقده ، أو فشل المرات الماضية في الوصول اليه و تحقيقه ، هذا إذا نظر للهزائم و النكسات التي تمر عليه في الحياة نظرة موضوعية ،فهي حينئذ ستزيده قوة و مناعة ضد الهزائم ، و اصرارا على تسخير الحياة بصورة أفضل ، وعلى ضوء التجارب الماضية .

و هذا أيوب (ع) يزداد اصرارا على خطه في الحياة ، كلما تفاقم بلاؤه ، دون أن يستجيب الى وساوس الشيطان ، التي كانت تستهدف اضعاف ارادته و النيل من ايمانه و تقواه . و لنقرأ هذه الرواية التي نقلها العلامة المجلسي في كتابه بحار الانوار . قال :

و قال الحسن : " مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين و أشهرا يختلف فيه الدواب ، و قال وهب : لم يكن بأيوب أكلة إنما يخرج منه مثل ثدي النساء ثم تتفقأ ، قال الحسن : و لم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير رحمة صبرتمعه تصدق ، و تأتيه بطعام و تحمد الله تعالى معه إذا حمد ، و أيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله و الثناء عليه و الصبر على ما ابتلاه ، فصرخ عدو الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب ، فلما اجتمعوا إليه قالوا : ما أحزنك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني على ماله و ولده ، فلم أدع له مالا ولا ولدا فلم يزد بذلك إلا صبرا و ثناء على الله تعالى ، ثم سلطت على جسده و تركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل لا يقربه إلا امرأته فقد افتضحت بربي فاستغثت بكم لتعينوني عليه ، فقالوا له : أين مكرك ؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى ؟ قال : بطل ذلك كله في أمر أيوب فأشيروا علي ، قالوا : نشير عليك ، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين آتيته ؟ قال ": من قبل امرأته ، قالوا : فأته من قبل امرأته فإنه لايستطيع أن يعصيها و ليس احد يقربه غيرها ، قال : أصبتم ، فانطلق حتى أتى امرأته و هي تصدق ، فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : هو ذلك يحك قروحه و يتردد الدواب في جسده ، فلما سمعها طمع أن يكون كلمة جزع فوسوس إليها فذكرها ما كانت فيه من النعيم و المال ، و ذكرها جمال أيوب و شبابه و ما هو فيه من الضر و أن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا .

قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة فقال : ليذبح هذا لي أيوب ولا يذكر عليه اسم الله عز وجل فإنه يبرء ، قال : فجاءت تصرخ : يا أيوب حتى متى بعذبك ربك ؟ ألا يرحمك ؟ أين المال ؟ أين الماشية ؟ أين الولد ؟ أين الصديق أين لونك الحسنقد تغير و صار مثل الرماد ؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلى و تردد فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة و استرح ، قال أيوب : أتاك عدو الله فنفخ فيك و أجبته ، و يلك أرأيت ما كنا فيه من المال و الولد و الصحة ؟ من أعطانيه ؟ قالت : الله ، قال : فكم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمذكم ابتلاني الله تعالى بهذا البلاء ؟ قالت : منذ سبع سنين و أشهر ، قال : و يلك و الله ما عدلت ولا أنصفت ربك ، الا صبرت في البلاء الذي ابتلانا الله به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ؟ و الله لئن شفاني الله عز وجل لأجلدنك مائةجلدة حين أمرتني أن أذبح لغير الله ؟ (1)

[ 44] و حينما حلف أن يضرب زوجته الوفية مئة جلدة ، أمره الله أن يجمع في يده مئة شمراخ من عدوق النخل ، و يضربها ضربة و احدة . ليرفع عنه حرج الحلف بالله من جهة ، و حتى لا تتأذى زوجته من جهة أخرى .

[ و خذ بيدك ضغثا فاضرب به ]


(1) بح / ج 12 / ص 368 .


يقول الامام الصادق (ع) :

" فأخذ عدقا مشتملا على مئة شمراخ فضربها به و احدة فخرج من يمينه " (1)و قد استفاد الفقهاء من هذا التفسير للآية الكريمة و أحاديث اخرى حدا شرعيا قالوا فيه بأن الزاني إذا كان مريضا لا يحتمل بدنه الجلد ، فأنه يضرب مئة جلدة بهذه الطريقة و يسقط عنه الحد المتعارف . و في الخبر ان رسول الله (ص) أتى برجل أحبن قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه ، و قد زنى بأمرأة مريضة ، فأمر رسول الله (ص) فأتى بعرجون فيه مئة شمراخ ، فضربه به و ضربها ضربة و خلى سبيلهما " (2) و الحبن داء في البطن يعظم منه و يتورم .

و بعد أن أمر الله أيوب (ع) بضرب زوجته كما تقدم أداء للعهد الذي قطعه على نفسه أكد له ضرورة الوفاء بالالتزامات التي يتعهد بها المؤمن تجاه ربه فقال :

[ و لا تحنث ]

أي لا تميل الى الباطل بترك الوفاء بالقسم و مخالفته ، إذ ينبغي للانسان المؤمن أن يفي بالتزاماته و عهوده التي يقطعها مع ربه على نفسه ، فكثير من الناس حينما يمرضون أو يتعرضون للمشاكل ، يدعون الله أن يعينهم و يرفع عنهم ذلك ، و ينذرون تقربا له أن لو رفعها سيفعلون كذا و كذا من الصالحات ، و لكنهم بمجرد ان يصحوا أو تنتهي مشاكلهم يتناسون نذورهم و تعهداتهم . ثم على الانسان أن لا يتعهد بمالا يقدر عليه ، حتى لا يلحقه الاثم بحنثه . فهذا الامام علي (ع) يأتيه رجل نذر أن(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 466 .

(2) المصدر / رقم 71 .


يتصدق بوزن فيل خبزا في سبيل الله ، فينهره الامام ، و يتعهد الرجل أن لا يعود لها مرة ثانية .

و بعد ذلك يمتدح ربنا نبيه أيوب (ع) مركزا على أمور في شخصيته :

الاول : صبره ، حيث عرضه الله لالوان الابتلاءات فاستقام و تحمل .

[ إنا وجدناه صابرا ]

الثاني : اخلاصه في العبادة و توبته ، فلم يدعوه البلاء للكفر بالله ، و لا الى عبادة غيره من الشركاء المزيفين .

[ نعم العبد إنه أواب ]

يأوب الى الله و يتقرب اليه كلما ازداد بلاؤه .

جاء في تفسير القمي ، حدثني أبي عن ابن فضال ، عن عبد الله بن بحر ، عن ابن مشكان عن ابي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لاي علة كانت ؟ قال :

" لنعمة أنعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا و أدى شكرها ، و كان في ذلك الزمان لا يحجب ابليس عن دون العرش ، فلما صعد و رأى شكر نعمة أيوب (ع) حسده ابليس ، فقال : يا رب إن أيوب لم يؤد أليك شكر هذه النعمة الا لما اعطيته في الدنيا ، و لو حرمته دنياه ما أدى شكر نعمة أبدا ، فقيل له : قد سلطتك على ماله و ولده ، قال : فانحدر ابليس فلم يبق له مالا ولا ولدا الا أعطبه فأزداد أيوب لله شكرا و حمدا . قال : فسلطني على زرعه يارب ، قال : قد فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكرا و حمدا، فقال : يارب سلطني على


غنمه فسلطه على غنمه فأهلكها ، فأزداد أيوب لله شكرا و حمدا ، فقال : يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله و عينيه ، فنفخ فيه ابليس فصار قرحة و احدة من قرنه الى قدمه ، فبقى في ذلك دهرا طويلا يحمد الله و يشكره حتى وقع في بدنه الدود ، فكانت تخرجمن بدنه فيردها فيقول لها ارجعي الى موضعك الذي خلقك الله منه ، و نتن حتى أخرجوه أهل القرية من القرية و ألقوه في المزبلة خارج القرية ، و كانت امرأته رحمة بنت يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم صلوات الله عليهم وعليها تتصدق من الناس وتأتيه بما تجده .


قال : فلما طال عليه البلاء و رأى ابليس صبره أتى اصحابا لايوب كانوا رهبانا في الجبال "الى هنا و إبليس يلاحق أيوب (ع) ليخدعه بطريقة أو بأخرى . ولما عرف ابليس أنه لم يستطع التأثير في نفس ايوب بفقد ماله و أهله و صحته ، حاول هذه المرة التأثير عليه من خلال أصدقائه ، و يبدو من خلال هذا الحديث أن أصدقاءه السوء أكثر أثرا في الانسان من سائرعلاقاته الأخرى .

" و قال لهم : مروا بنا الى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته فركبوا بغالا شهبا و جاؤوا ، فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه ، فنظر بعضهم الى بعض " وقد تساءلو عن بليته و ارتابوا في أسبابها ، و هذه من طبيعة الانسان أنه إذا رأى شخصا مبتلىاعتقد بأنه يستحق ذلك لما عمل من الذنوب ، و لكن البلاء ليس بالضرورة أن يكون لهذا السبب ، بل قد يكون للزيادة في أجر العبد و تمحيصه " ثم مشوا اليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا اليه فقالوا : يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله كان يهلكنا إذا سألناه، و ما نرى ابتلاك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره ؟ فقال أيوب (ع) : " وعزة ربي أنه ليعلم أني ما أكلت طعاما الا و يتيم أو ضعيف يأكل معي ، و ما عرض لي أمران كلاهما طاعة لله إلا أخذت11 + 379

بأشدهما على بدني ، فقال الشاب : سوءة لكم عيرتم نبي الله حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها ؟"فتألم أيوب (ع) لذلك ، حيث رأى أقرب الناس إليه يشككون في عبادته . فقال أيوب (ع) : " يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لادليت بحجتي "يعني لو كنت أنا القاضي ، لكنت أقول لهم بأنني لا أستحق هذا البلاء و لدي حجة على ذلك ، و لكن لم أقل لانني أنا العبد و أنت الرب .

" فبعث الله إليه غمامة فقال : يا أيوب ادل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم وها أنا ذا قريب و لم أزل ، فقال : يا رب انك لتعلم انه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة الا أخذت بأشدهما على نفسي ، ألم أحمدك ؟ ألم أشكرك ؟ الم أسبحك ؟ قال : فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان : يا أيوب من صبرك تعبد الله و الناس عنه غافلون ؟ و تحمده و تسبحه و تكبره و الناس عنه غافلون ؟ أتمن على الله بما لله فيه المنة عليك ؟

قال : فأخذ التراب فوضعه في فيه ثم قال : لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي ، فأنزل الله عز وجل عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان و أطرأ ، و أنبت الله عليه روضة خضراء ورد عليه أهله و ماله و ولده و زرعه ، و قعد معه الملكيحدثه و يونسه ، فأقبلت امرأته معها الكسرة ( و هي القطعة من الخبز اليابس ) فلما انتهت الى الموضع إذا الموضع متغير و اذا رجلان جالسان ، فبكت و صاحت و قالت : يا أيوب ما دهاك ؟ فنادها أيوب فأقبلت فلما رأته و قد رد الله عليه بدنه و نعمه سجدت لله عز وجل شكرا ، فرأى ذؤابتها مقطوعة ، و ذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله الى ايوب (ع) من الطعام ، و كانت حسنة الذوائب ، فقالوا لها : تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك ؟


فقطعتها و دفعتها اليهم ، و أخذت منهم طعاما لأيوب ، فلما رآها مقطعة الشعر غضب و حلف عليها ان يضربها مأة ، فأخبرته انه كان سببه كيت و كيت ، فاغتم أيوب من ذلك فأوحى الله عز وجل إليه " خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لاتحنث " فأخذ عدقا مشتملا على على مئة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه " (1)[ 45] و بعد أن اختتم السياق قصة أيوب و صبره ، و استقامته امام كل الضغوط ، شفعها بالدعوة الى ذكر بعض الانبياء و التفكير في تأريخهم لاخذ العبر و الدروس منه ، إذ ينبغي للرساليين أن ينظروا في تاريخ قادتهم و اخوانهم الذين سبقوهم ، و يلاحظوا معاناتهم و استقامتهم لله ، فان ذلك يزيدهم ايمانا بخطهم الرسالي ، و ثقة بأنفسهم و تحركهم و استقامة على الطريق .

[ و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولي الأيدي و الأبصار ]ما يحتاجه الانسان لبلوغ التكامل القوة و الرؤية ، فبقوته يحقق ما يراه . و يبدو أن ظاهر الآية يدل على وجود الأيدي ( القوة ) عند الانبياء و الأبصار ( الرؤية ) الآ ان باطنها القوة في الايمان ، و البصيرة في الدين ، و هكذا جاء في الحديث الماثور عن الامامالباقر عليه السلام قال :

" أولوا القوة في العبادة و البصر فيها " (2)و الجدير بالملاحظة أن ربنا اكتفى هنا بالدعوة الى تذكر هؤلاء العظماء ، دون أن يعرض لنا مشاهد من حياتهم نعتبر بها ، و هكذا في موارد كثيرة من القرآن ، و ذلك لاسباب :


(1) المصدر / ص 466 .

(2) المصدر / ص 467 .


الاول : أن مجرد تذكر الرسالي بأنه ينتمي الى خط فيه هؤلاء العظماء الذين اسسوا تأريخ المجد للبشرية ، هو أمر مفيد جدا ، يعطيه الايمان و الثقة و الاستقامة بالرغم من كل العوامل و الظروف المضادة ، إذ لا يشعر و هو يعاني من الرفض و الحرب بشتى صورها بالضعفو الوحدة ، و هو يشعر بانتمائه الى هذا الخط ، و الى هذا التأريخ العظيم .

الثاني : أن القرآن وحدة واحدة ، و يكمل بعضه بعضا ، فيمكن لقارئه أن يجد في سورة الصافات تفصيل ما اشارت اليه سورة (ص) ، و هكذا بالنسبة لسائر السور مع بعضها ، و علينا الا نكون من الذين اتخذوا القرآن عضين ، فصارت نظرتهم اليه نظرة تجزيئية ، بل نسعى لمعرفة آيات القرآن من خلال نظر شمولي اليها جميعا .

[ 46] ثم أن القرآن عرض اهم ما يستفاد من حياتهم ، لكي يؤكد بأن القصص التي يوردها ليست للتسلية او مجرد زيادة المعرفة بالتأريخ انما هي للتعلم و الموعظة . يقول تعالى عن ابراهيم و اسحاق و يعقوب :

[ إنا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ]

حينما يقرأ الانسان أو يسمع عن حياة العظماء ، أول ما يجب أن يتطلع الى معرفته هو سر عظمتهم ، لا لكي يعرف و حسب بل لكي يأخذ بأسباب العظمة أيضا ، و سبب عظمة هؤلاء و رفعة شأنهم ، هو الايمان الخالص بالآخرة و تذكرها ، الذي كان يزيدهم بعدا عن المعصية و قربا الى الطاعة . أو ليس ربنا يقول في سورة الممتحنة : " قد كانــت لكم اسوة حسنة في ابراهيم و الذين معه " ثم تتواصل الآيات الى قوله تعالى : " لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر و من يتول فان الله هو الغني الحميد " (1) . إن العوامل الأخرى لم تتدخل في صياغة


(1) سورة الممتحنة / 3 - 6 .


شخصية هؤلاء ، انما بقي ذكر الآخرة وحده خالصا هو الذي يؤثر فيهم ، فحينما آمنوا بالله تعالى ، و تحملوا مسؤولياتهم الرسالية لم يتطلعوا الى مطامع دنيوية من خلالها ، و لو تداخلت عوامل أخرى في ذلك لم يرتقوا الى هذه المنزلة من الأخلاص .

[ 47] [ و إنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ]

أي اصطفاهم الله و كانوا من أفضل العباد عنده و أخلصهم له ، لان الاخلاص نفسه على درجات .

[ 48] و يخلد القرآن أسماء طائفة أخرى من الانبياء ، و يدعونا لذكرهم .

[ و اذكر إسماعيل و اليسع و ذا الكفل و كل من الأخيار ]و قد يكون السبب في ضم هؤلاء الثلاثة الى بعضهم ، وأولئك الى بعضهم في الآيات المتقدمة ، هو اختلاف منزلة الفريقين عند الله ، و أن الفريق الاول هم الافضل و ذلك بدلالتين :

1 - إنتماء ابراهيم (ع) الى المجموعة الاولى و أفضليته ظاهرة لانه من أولي العزم .

2 - السياق القرآني الذي و صف أولئك بالمصطفين أولا والأخيار ثانيا ، بينما اقتصر في مدح هؤلاء بكلمة " الاخيار " .

[ 49] و يؤكد القرآن في نهاية الدرس الذي تختم به القصص الهدف منها ، و أهميتها لمن أراد التقوى .

[ هذا ذكر ]


ليشتمل على موعظة ، ينتفع بها المؤمنون حيث يتأسون برسل الله . الامر الذي يبلغ بهم الفوز و الفلاح .

[ و إن للمتقين لحسن مئاب ]

و المآب هو المكان الذي يستقر فيه الانسان فهو يعود اليه كلما خرج منه . و هنا المآب بمعنى العاقبة و النهاية . و في الآية تطمين للمؤمنين بأن الامور في صالحهم مهما كان ظاهرها معاكسا .

[ 50] و يبين الله هذه العاقبة فيقول :

[ جنات عدن ]

و هي أفضل الجنان و فيها الخلود ، و مآب المتقين الى أفضل جنان الله في الآخرة .

[ مفتحة لهم الابواب ]

حينما يقدمون عليها ، و الذي يفتح أبواب الجنة هو الايمان و الدعاء و العمل الصالح ، فهي مفتحة للمتقين و المؤمنين فقط لا لغيرهم ممن لم يعملوا الصالحات .

[ 51] [ متكئين فيها ]

على الارائك و هذه دلالة على مدى الاطمئنان الذي يلاقونه فيها .

[ يدعون فيها بفاكهة كثيرة و شراب ]

جزاء لهم على ايمانهم و أعمالهم ، و تعويضا عما فاتهم من نعيم الدنيا و لذاتها في سبيل الله .


[ 52] ومن أعظم ما يستلذ به المؤمنون في الجنة هم الحور العين ، و لعل تركيز القرآن على ذكر الحور في حديثه عن ثواب المؤمنين ، ينطلق من أن أصعب الفتن التي يتعرضون لها في الحياة الدنيا هي فتنة الشهوة الجنسية ، و لكي يتجاوزوا إغراءها و ضغطها يذكرهم الله بعاقبة ذلك ، حيث الظفر بالحوريات في الجنة .

[ و عندهم قاصرات الطرف أتراب ]

فهن لا ينظرن الى غير ازواجهن ، و ينظرن الى الأرض احتراما لأزواجهن و تواضعا . وهن اتراب اي المتماثلات سواء في السن ، أو في كونهن ابكار غير مطموثات ، ويقال فلانة ترب لفلانة إذا أريد التساوي بينهما في العمر ، و هكذا يتساوى عند المؤمن الميل الى كل واحدة دون تفضيل واحدة على الاخرى لأنهن جميعا القمة في الجمال و الروعة .

[ 53] ثم أن الله يدعونا للعمل و الاستقامة في سبيله و لكن بطريق غير مباشر و ذلك حينما يعدنا بالجزاء المتقدم الذكر .

[ هذا ما توعدون ليوم الحساب ]

ولان المسافة بين هذا الثواب و الانسان تتمثل في الايمان و عمل الصالحات ، فان الآية تشتمل طبيعيا على الدعوة الى ذلك . و قد استخدم القرآن كلمة الحساب تأكيدا لهذه الحقيقة ، و لو كان الجزاء يحصل بلا عمل فلماذا الحساب إذن ؟!

[ 54] و يتميز نعيم الآخرة عن نعم الدنيا ، ذاتيا بالتنوع و الجودة ، و زمنيا بالخلود ، فالنعمة تزداد و تتجدد دائما .

[ إن هذا لرزقنا ماله من نفاد ]

و ما دام الله باق فان رزقه للمؤمنين لا ينتهي .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس