فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 55] كما ركزت الآيات في اذهاننا مشهد الجنة و بالتالي جزاء المخلصين تذكرنا في المقابل بعاقبة الطغاة .

[ هذا ]

اسم اشارة يتضمن دعوة للذي يتلوا القرآن بالنظر في عاقبة المتقين ، و التفكير في جزائهم ، و لكن ينبغي أن لا يغفل عما أعد للظالمين من العذاب ، و ذلك من أجل أن يحفظ توازن نفسه و عقله بين الرجاء و الخوف .

[ و إن للطاغين لشر مئاب ]

و تقابل هذه الآية الآية ( 49) التي وردت في الدرس الماضي ، فللمتقين العاقبة الحسنة عند الله ، و للطغاة عاقبة السوء و الشر ، و ليس المقصود من الطاغية هنا السلطان الجائر و حده ، و ان كان هو التجسيد الأوضح و الأشمل للطغيان ، انما جنوده و أجهزته أيضا ،اذ لولاهم لما قدر على الظلم و الفساد ، بل لعلنا نعمم الحكم على سائر معاني الطغيان ، فكما يطغى الإنسان في الحياة السياسية فانه يطغى كذلك في الحياة الإجتماعية ، فيظلم جاره و أسرته و الناس ، و يظهر من أحاديث مستفيضة في تفسير الآية ان المعني بالطاغين هم سلاطين الجور ، بينما المعني بما يلي هم أتباعهم ومن سار على دربهم .

[ 56] و تفصل الآيات في ذكر عاقبة الطغاة ، زيادة في التخويف لعل الإنسان يثوب عن الباطل ، و يهتدي للحق رغبة في الثواب ، و رهبة من العذاب .

[ جهنم يصلونها ]


قال بعض الفلاسفة القدماء - يتبعهم بعض الجهلة اليوم - : إن أهل النار يتعودون على عذابها فلا يعودون يتأثرون به ، و جسدوا هذه الفكرة المنحرفة في هيكل حيوان زعموا بانه يلتهم النار ، أما القرآن وهو الحق فانه يخالف هذه الخرافة مؤكدا بان المجرمين يتذوقونالعذاب ، و كلمة " يصلونها " تعني انهم تمسهم جهنم مسا .

[ فبئس المهاد ]

و هو المكان الذي يمهد و يهيأ لهم و كأنهم مهدوا لأنفسهم فراشا من النار في جهنم ، بلى . تمهيد الارضية لسلطانهم تجسد في ذلك اليوم في تمهيد جهنم لهم .

[ 57] [ هذا فليذوقوه حميم و غساق ]

و الحميم هو الحرارة الشديدة ، اما الغساق فهو كما جاء في بعض كتب اللغة : القيح النتن ، و في الرواية عن الامام أبي جعفر (ع) قال :

" الغساق واد في جهنم فيه ثلاثمائة و ثلاثون قصرا ، في كل قصر ثلاثمائة بيت ، في كل بيت اربعون زاوية ، في كل زاوية شجاع ( الحية العظيمة المخيفة ) في كل شجاع ثلاثمائة و ثلاثون عقربا ، في كل حمة عقرب ( إبرة العقرب ) ثلاثمائة وثلاثون قلة من سم ، لو أن عقربا منها نضحت سمها على أهل جهنم لوسعهم سمها " (1)[ 58] [ و ءاخر من شكله أزواج ]

ولا يقتصر العذاب على هذين النوعين انما هو انواع و اساليب مختلفة كثيرة ،(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 467 .


و نستوحي من هذه الآية ان أنواع العذاب كثيرة جدا ، إلا ان بعضها يتلازم مع بعض ، كما يتلازم الحميم مع الغساق و يكملة .

[ 59] و بعد أن يدخل الطغاة النار و ينتهي كل واحد إلى موقعه ، الذي يضيق به ، يجدونه آخرين من اشباههم و اتباعهم الذين انخدعوا بهم يدخلون معهم إلى جهنم و يقال لهم .

[ هذا فوج مقتحم معكم ]

و احتمل ان يكون المراد من الآخر : الفوج الآخر ، وهم ازواج و مشابهون للفوج الأول ، و يكون ذلك تمهيدا للحديث التالي عنهم ، و هذا يتشابه و ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : " احشروا الذين ظلموا و أزواجهم وما كانوا يعبدون " (1)و الاقتحام هو الدخول في الشيء بشدة كالمسمار الذي لا مكان له في الحائظ فتدخله المطرقة قسرا ، و لان الطغاة يتعذبون من ضيق المكان ، و أن النار تضيق عليهم كضيق الزج بالريح (2) كما جاء في حديث الرسول (ص) فانهم ينادون بهم ، لهذا و على خلاف ما يقوله صاحبالبيت لضيفه فانهم يقولون :

[ لا مرحبا بهم ]

أي لا مكان يسعهم ، ولا نفس تقبل بحلولهم ، و الرحب هو المكان الوسيع ، فكأنهم أرادوا القول : بأن المكان ضيق و يضيق أكثر بهم ، وعللوا لعنهم و سبهم لهم بأنهم اهل جهنم ، و هل يرحب بمن سيصلى نارا ؟!


(1) الصافات / 22 .

(2) نور الثقلين / ج 4 / ص 467 / و الزج - كما يبدو هو القربة .


[ إنهم صالوا النار ]

و هذا ما يؤكده ربنا بقوله تعالى : " كلما دخلت امة لعنت اختها " .

[ 60] و يبدأ حينئذ الصراع العنيف بين الطرفين ، و الذي ينتهي الى التخاصم و التقاتل ، و في البين يلقي البعض المسؤولية على البعض الآخر .

[ قالوا ]

الاتباع وهم يردون على كلام الطغاة ، حيث تتحول التحية و أعراف الاستقبال إلى سباب بينهم .

[ بل أنتم لا مرحبا بكم ]

لانكم السبب و منكم الاذى و العذاب ، و يواصل التابعون شجارهم مع الطغاة و هم يحاولون تبرير موقفهم ، و التهرب من المسؤولية .

[ أنتم قدمتموه لنا ]

اذ أغريتمــونا باتباعكم ، و ظللتمونا بمختلف الوسائل حتى صرنا إلى هذا العذاب .

[ فبئس القرار ]

أي ساء المكان الذي نستقر و نثبت فيه ، ويقال : فلان قرر أن يفعل كذا إذا ثبت فكره على رأي معين فهو غير متردد ، بل حاسم و قاطع في أمره .

و هذه الكلمة تدل على الخلود في النار ، و حين يكون المنزل الأخير سيئا فساءمصيرا .

[ 61] و يطلب التابعون من الله أن يزيد العذاب على الطغاة ، جزاء لهم على جرائمهم التي مارسوها بانفسهم ، وعلى المعاصي التي مارسها التابعون بضغوطهم و تضليلهم .

[ قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ][ 62] ثم يلتفتون إلى بعضهم و يتساءلون لماذا لا نجد فلانا و فلانا - يقصدون بعض المؤمنين - في النار ؟!

[ و قالوا مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار ]و هناك تنكشف لهم اخطاؤهم ، ففي البدء اكتشفوا ان القيادة التي اتبعوها كانت منحرفة ، و الآن تبين لهم أيضا ان مقاييسهم في الحياة و تقييمهم للآخرين هي الأخرى كانت خاطئة ، و كان ينفعهم ذلك لو عرفوه في الدنيا و عملوا على اصلاح أنفسهم ، و لكنهم رفضوا الرسالة واتبعوا الاهواء .

[ 63] و يرد أهل النار عدم رؤيتهم لمن كانوا يتصورونهم أشرارا في النار إلى أحد سببين ، فاما انهم صاروا الى الجنة وهذا يعني ان مقاييسهم و بالتالي موقفهم تجاه اولئك كان خاطئا ، أو انهم موجودون معهم و لكنهم لا يرونهم .

[ اتخذناهم سخريا ]

في الدنيا و تبين الآن سلامة خطهم .

[ أم زاغت عنهم الابصار ]


فلا نراهم .

و لهذا المقطع تفسير آخر هو : انهم يعنون الله ، بانه ربما ادخلهم الجنة غفلة و اشتباها مع انهم من أهل النار ، و تعالى ربنا أن يضل او ينسى ، بل هم المخطئون في تقييمهم للمؤمنين .

و يبقى السؤال : من هم أولئك الذين تعنيهم الآيات في واقعنا الراهن ؟

انهم الطغاة بلا ريب ، وهم حكام الجور المتسلطون قسرا على رقاب العباد ، و الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، و يتجاوزون حدود الله ، و يذلون عباد الله ، أما جنودهم و أزواجهم فهم الذين يتبعون نهجهم ، أو يشاركونهم في ظلمهم .

أما الذين يعدونهم من الاشرار فهم الثائرون ضدهم من عباد الله المخلصين ، الذيــن رفضــوا عبادة غير الله ، واتخاذ الآلهة المزيفة أربابا من دون الله رب العالمين .

ان الطغاة و جنودهم هم من قوى القمع ، و أبواق الضلالة ، يكيلون التهم ضد الثائرين عليهم ، و يعتبرونهم شرا من اليهود و النصارى و المجوس ، أرأيتهم كيف يقبلون أيدي الآعداء و يطبعون العلاقات معهم ، ويفتحون الأبواب أمامهم ، و في المقابل يزجون بالمؤمنين فيالسجون الرهيبة .

ولكن هؤلاء الذين اعتبروهم اشرارا في الدنيا يفتقدونهم في النار ، و يعلمون أنهم هنالك في الجنة يحبرون .

و كان اتباع أهل بيت الرسالة من هؤلاء ، إذ رفضوا سلطات الجور و القمع و الضلال ، و طاردتهم قوى الإرهاب ، و ألصقت بهم أبشع التهم ، و لكن أئمة الهدى من آل الرسول ( عليهم السلام ) كانوا يسلونهم بانهم سوف يحبرون في الجنة بينمايطلبون في النار .

يقول ( ميسر ) وهو أحد الثائرين ضد سلطات الجور :

دخلت على أبي عبد الله ( الامام الصادق (ع) ) فقال : " كيف أصحابك ؟ "فقلت : جعلت فداك لنحن عندهم أشر من اليهود و النصارى و المجوس و الذين أشركوا .

قال و كان متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : " كيف ؟ "قلت والله لنحن عندهم أشر من اليهود و النصارى و الذين أشركوا ، فقال : " أما والله لا يدخل النار منكم اثنان ، لا والله ولا واحد انكم الذين قال الله عز وجل : " و قالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ان ذلك لحق تخاصم أهل النار " قال لهم طلبوكم - و الله - في النار - و الله - فما وجدوا منكم أحدا " (1)هكذا اليوم يتعرض المؤمنون الصادقون للضغوط و لكنهم سوف يحبرون في الجنة حين يتخاصم الطغاة و جنودهم و أتباعهم في النار .

[ 64] بلى . هذا الصراع في النار من واقع ..

[ إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ]

[ 65] و انما جاءت رسالات الله لتنقذ الانسان من هذا المصير الأسوأ(1) المصدر / ص 468 .


و التخاصم من خلال دعوتها له لنبذ الآلهه المزيفة ، و اتباع التوحيد الخالص في الحياة ، فنهته عن عبادة الطغاة بطاعتهم ، و عن عبادة الأجيال السابقة باتباع سيرتها الخاطئة .

[ قل إنما أنا منذر ]

و حتى هذا المنذر يجب أن لا يعبد من دون الله ولو بلغ من العظمة ما بلغ .

[ وما من إله الا الله الواحد القهار ]

الذي يقهر الأعداء و يغلبهم ، و من أبرز شواهد القهر و وسائله هو الموت الذي يخضع له الجميع ، فلا يقوى أحد على دفعه عن نفسه ، و نقرأ في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (ع) قوله : " فيا من توحد بالعز و البقاء ، و قهر عباده بالموت والفناء " (1)

و لا ينحصر قهر الله في الموت و حسب بل يدخل في تطبيق كل حق و سنة في الحياة ، و من لا يستجيب لله و للحق الذي تتضمنه رسالاته ، و بما ينذر به الانبياء و من يتبعهم باختياره و إرادته فسوف يقهره الله عليه بالرغم منه ، في الدنيا إن شاء ذلك أو في الآخرة .


[ 66] و حتى لا يستبد بنا الخوف منه تعالى ، يذكرنا برحمته و غفرانه .

[ رب السماوات و الارض و ما بينهما العزيز الغفار ]و رب الشيء هو الأرأف به ، و الأحرص عليه .

[ 67 - 68] و من العوامل النفسية لارتكاب الخطأ ، و الوقوع في الضلالة التهاون(1) مفاتيح الجنان / ص 63 .


بهما ، و الاسترسال فيهما ، وعدم الجدية في مواجهتهما ، فان الله يقول :

[ قل هو نبؤ عظيم * أنتم عنه معرضون ]

أي ان اعرضاكم عن عبادة الله ، و توجهكم إلى الشرك أمر عظيم جدا ، و هل أعظم من ترك الانسان رب السماوات و الأرض إلى الشركاء المزيفين ، و نبذه قيم الحق الفطرية الى الباطل و الضلال ؟

إذا لا يجوز أن يستهين الانسان بالشرك و يسترسل معه ، و الى أين ينحدر به مهوى الشرك ؟

الى الجحيم ، و هل يمكن أن نستهين بعذابه الخالد ؟

و حين يكون الانسان جديا في مواجهة الشرك يعرف معانيه ، و يتبصر مهالكه ، أو ليس الخروج عن ولاية أئمة الهدى الى ولاية أئمة الكفرة و الضلالة شركا ، أو ليس أتباع الظلمة أو حتى السكوت عنهم شركا عظيما ، هكذا روينا عن الامام الصادق (ع) انه قال في تفسير الآية : " الذين أوتوا العلم الأئمة ، النبأ : الامامة " (1)[ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ]

[ 69] و يؤكد ربنا على أهمية التوحيد ، و أنه محور الحوار الذي دار في الملأ الأعلى حين خلق الله الانسان الأول ، و اسجد له ملائكته ، و رفض أبليس السجود تكبرا ، و بالتالي انه هدف خلق البشر ، و حكمة سجود الملائكة له ، فكيف يجوز التهاون(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 469 .


فيه ؟!

[ 70] [ إن يوحى إلى إلا انما أنا نذير مبين ]

ان دور الرسول (ًص) هو الانذار بوضوح ، و مسؤوليته ابلاغ الرسالة الى الناس كما هي بالضبط ، و في هذا تمهيد للحديث الذي سيتطرق له الدرس القادم حول قضية آدم و إبليس ، التي تمثل جانبا من الغيب ، حيث يحتاج التسليم لما يقوله الرسول فيها لهذه المعرفة بدور الرسول ، ذلك أن الجدل الذي دار عند خلق الانسان في الملأ الاعلى بين الملائكة و ربهم - سبحانه و تعالى - كان حول حكمة خلق الانسان الذي يفسد في الارض ، و يسفك الدماء ، و لكن ربنا قال لهم يومئذ : " اني أعلم مالا تعلمون " و كان من علم الله انبعاثالرسل ، و ايمان فريق من الناس بهم ، و خلوصهم في عبادة ربهم ، برغم عواصف الشهوة ، و نوازع الكبر و الغفلة ، و ضغوط الطغاة ، مما جعل هذا الفريق هم صفوة الخلق الذين باهى بهم الله ملائكته المقربين .

و هكذا نقرأ في النصوص الاسلامية : ان ما اختصم به في الملأ الأعلى الاعمال الصالحة التي بادر اليها المخلصون من البشر ، فعن ابن عباس عن النبي (ص) قال : " قال لي ربي أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا ، قال : اختصموا في الكفارات و الدرجات ،فأما الكفارات فاسباغ الوضوء في السبرات ، و نقل الأقدام الى الجماعات ، و انتظار الصلاة بعد الصلاة ، و أما الدرجات فإفشاء السلام ، و إطعام الطعام و الصلاة بالليل والناس نيام " (1)(1) المصدر / ص 470 .


و تضيف رواية ثانية عن النبي (ص) : " و ولايتي و ولاية أهل بيتي حتى الممات " (1)و اذا تدبرنا في سياق الآيات لعرفنا أن أعظم أهداف خلق البشر هو توحيد الله ، و لا يتحقق توحيد العبد ربه إلا بالتسليم لولاية الله و ولاية من عقد الله له الولاية ، و رفضل الأنداد و الآلهة التي تعبد من دون الله ، أما مجرد الصلاة دون التسليم للقيادة الشرعية فإنها فارغة عن جوهر العبادة . أرأيت الطغاة يمنعون عن الصلاة ؟ كلا .. بل ترى بعضهم يبادر إلى بناء المساجد ، و إقامة الصلوات الحاشدة فيها ، و لكنهم يتكبرون في الأرض بغير الحق ، فهل تشفع لهم صلاتهم هذه ؟ كلا .. لأنهم ينازعون الله رداءه ، و يغتصبونالولاية الالهية و يدعون الناس الى عبادتهم من دون الله .


(1) المصدر


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس