فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[1] [ الم ]

- كما سبق القول - ربما تكون هذه الحروف المقطعة إشارة الى القرآن الحكيم ، و تهدينا هنا الى عظمة كشف القرآن لأسرار الخليقة ، و ربما تكون رموزا لا يهتدي إليها سوى أولياء الله .

[2] [ غلبت الروم ]

إنتصرت الفرس على الروم ، و كان المسلمون يأملون انتصار الروم ، لانهم مثلهم أصحاب رسالة ، بعكس الفرس .

[3] [ في أدنى الأرض ]

في الشرق الأدنى . و قد روى التاريخ أن حربا طاحنة دارت رحاها خلال (24) عاما بيــن الفرس و الروم بين السنين (604/628) و هاجم القائدان الفارسيان ( شهر براز ) و ( شاهين ) الأراضي المستعمرة للروم ، و احتلت القوات الفارسية الشامات و مصر و آسيا الصغرى ،و كان ذلك حوالي السنة السابعة من بعثة الرسول . (1)(1) تفسير نمونه / ج 16 - ص 369


و لقد سجل القرآن أعظم الحوادث التاريخية ، و بين عبرها و البصائر التي نستوحيها منها ، و هكذا اختصر هنا الإشارة الى تلك الحادثة ، ثم أشار الى نهاية الحرب فقال :

[ و هم من بعد غلبهم سيغلبون ]

إنهم سوف ينتصرون بعد أن غلبوا و انهزموا . و هذه نبوءة قرآنية بدأ الله بها سورة الروم ، لكي لا ننخدع بظاهر الأمور ، بل نرى القوى الخفية التي تكمن وراءها .

فبالرغم ممــا حقـق الفرس من انتصار ، إلا أن هذا الإنتصار كان مقدمة لانتكاستهم ، لأن هذا الانتصار كان سببا لترهلهم ، و استرخائهم ، و كان من أسباب انتكاستهم انتشار الطبقية المقيتة .

وفي عام (622) قاد الامبراطور الروماني ( هرقل ) حملة مضادة ، و ألحق هزائم متتالية بجيش الملك الايراني ( خسرو) ، و استمرت حملاته لعام ( 628) حيث صادف العام الخامس او السادس للهجرة ، حيث كانت الجزيرة العربية تشهد ولادة حضارة إلهية ، و تتوالى انتصاراتالمسلمين ، و لعل أعظمها عسكريا تمثلت في هزيمة الأحزاب في حرب الخندق ، و اعتراف قريش بقوة المسلمين في صلح الحديبية .

[4] و بعــــد بضع سنين إذا بالروم ينتصرون على الفرس ، و تتحقق نبوءة القرآن فيهــم .

[ في بضع سنين ]

و هذا التعبير يدل على تأثير عامل الزمن على جريان سنن الله ، فبعض الناس يريدون ان تجري سنن الله بلا أجل ، و هذا لا يكون ، لأنه يتنافى و حكمة الإبتلاء ،وقد جاء في الأثر : أن الفترة بين دعوة موسى و استجابة الله له كانت أربعين سنة .

فقد روي عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال :

" أملى الله تعالى لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم أخذه الله نكال الآخرة و الأولى ، و كان بين أن قال الله عز و جل لموسى و هارون : " قد اجيبت دعوتكما " و بين ان عرفه الإجابة أربعون " (1) .

ثم يؤكد القرآن أن هذه السنة إنما هي سنة ظاهرة ، و أن السنة الخفية ، و الإسم الاعظم بيد الله ، الذي يشاء أن ينتصر الفرس أو ينهزموا ، أو ينهزم الروم أو ينتصروا ، اذا ما غير أي طرف ما بأنفسهم - سلبا أو ايجابا - .

[ لله الأمر من قبل ومن بعد ]

و هذه الآية تعبير عن كلمة " إنشاء الله " فإذا شاء الله سينتصر الروم على الفرس ، وإن لم يشأ لا ينتصرون ، قال تعالى : " و لا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله " (2)كمــا ان هذه الآية تهدينا إلى سنة الحرية التي ضمنها الله للانسان ليبتليه في الدنيا ، إذ جعل ربنا لنفسه البداء في كل شيء ولا يكون لأي شيء فرض حتم عليه ، إلا ما حتم على نفسه و وعد به فلا يخلف وعده سبحانه .

[ و يومئذ يفرح المؤمنون ]

بماذا يفرح المؤمنون ؟


(1) تفسير نور الثقلين / ج 2 - ص 315

(2) الكهف / 23


[ بنصر الله ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم ]

فبعزته يأخذ الكافرين ، و برحمته يفتح للمؤمنين .

[6] لا شيء يحدد أو يعجز إرادة الرب العزيز المقتدر ، و كل شيء مستجيب طوعا أو كرها لمشيئته التي لا ترد ، و لكن ذلك لا يعني أنه سبحانه يريد شيئا بلا حكمة أو يخلف وعدا أو ينقض عهدا ، كلا .. لقد وعد عباده الصالحين النصر ، و هو لا يخلف وعده أبدا .

[ وعد الله لا يخلف الله وعده ]

و إنما يخلف العاجز أو الجاهل ، و ربنا عزيز عليم .

[ و لكن أكثر الناس لا يعلمون ]

فتراهم يركنون الى الظالمين خشية بطشهم ، و لا يأوون إلى ركن الحق الذي وعد الله بنصره .

[7] أكثر الناس لا يعلمون طبيعة الدنيا ، لأنهم :

[ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الأخرة هم غافلون ]فهم غافلون عن عواقب الأمور ، و إنما يرون ظاهر الأمور ، و من العواقب التي يغفلون عنها النشور .

إن الآخرة هي غيب الدنيا ، و الدنيا منطوية عليها ، و لكن أكثر الناس ينظرون الى هذا الظاهر المشهود دون ذلك الغيب . إنهم ينظرون الى سلطة الجبابرة ولا يعلمون ان سنة الله ( التي يسمونها بلغتهم المادية قانون الطبيعة ) تقتضي زوالالظلم ، لأنه باطل ، و لأن المظلوم يثور ضده . و لأن صراع الظالمين كفيل بالقضاء علهيم و .. و ...

وإن سنن الله تجري و لكن عبر مسيرة الزمن ، فكما أن من يزرع القمح سوف يحصده بعد مدة ، كذلك من يزرع الظلم سوف يحصد الإنقلاب ، و لكن بعد مدة أيضا .

و هذه هي حقيقة الجزاء التي تتجلى جزئيا في عواقب الأمور في الدنيا ، بينما تتجلى في الآخرة بصورة تامة ، حيث يجزى المرء على أعماله هنالك الجزاء الأوفى .

و لعل كلمة الآخرة هنا تدل على عاقبة الأمر سواء قبل الموت أو بعده ، حيث فسرها البعض بالعاقبة في الدنيا ، بينما الكلمة تطلق عادة على ما بعد الموت ، و إنما نستوحي من الكلمة هذا المعنى الشامل لأن الدنيا و الآخرة في منطق القرآن - حسبما يبدو لي - لا تنفصلان ، إنما هما حقيقة واحدة تنكشف لذوي الأبصار في الدنيا ، ولا تنكشف لغيرهم إلا بعد الموت .

[8] أولا ينظرون الى ان تركيبة الحياة قائمة على اساس الحق ، و الأجل ؟

فالزمن جزء من الكون ، لأن الكون متغير ، و التغير جزء من الكون ، و الزمن جزء من التغير .

[ أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى ]و الأجل المسمى يدل على :

أولا : ان الله إنما خلق الكون بحكمة و لهدف محدد سلفا ، و كذلك الانسانفما هو الهدف من خلقة الانسان ؟ الهدف ليس إلا البعث بعد الموت .

ثانيا : هذه الآية تدل على ان الكون ينتهي لأنه لأجل مسمى .

و جاء في الحديث القدسي :

" يا ابن آدم إنما أنت إيام فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك "إن النظرة الجامدة الى الخليقة مسؤولة عن أخطاء منهجية عديدة ، و من لم يحسب للزمن حسابه فإنه ليس فقط لا ينجح في حياته ، و يأوي الى ظل الكسل و الترهل ، بل و ايضا لا يعي حقيقة الدنيا التي جعل الأجل جزء هاما فيها .

من جهة ثانية : إن الحق الذي يعني جملة السنن الإلهية أساس الخليقة ، فما من شيء إلا و تحيط به أنظمة إلهية تحدد مسيرته .

و إذا تعمق الانسان في هاتين الحقيقتين الحق و الأجل اهتدى الى الايمان بالبعث و النشور ، لأنه يعرف ان الاساس الذي خلق عليه الخلق هو ذاته الاساس الذي خلق به الانسان .

[ و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ]

[9] [ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ]لينظروا بأعينهم تجسيد تلك الحقائق التي سبقت .

[ كانوا أشد منهم قوة و أثاروا الارض و عمروها أكثر مما عمروها ]فلا ينخدع البشر بما صنعه ، من أسلحة تدميرية ، و من إثارته للأرض و استخراج خيراتها ، و استنبات و تحسين نوعية المزروعات ، و لا ينخدع بما عمر من ناطحات السحب و المحطات و .. و ..

يجب أن نفكر حقا في العاقبة ، بالرغم من اننا نراهم أشد قوة ، و إثارة للأرض ، و عمارة لها .

[ و جاءتهم رسلهم بالبينات ]

لقد اكمل الله لهم الحجة ، فأرسل الرسل ينذرونهم من الله و من عذابه ، فلما كذبوا برسله :

[ فما كان الله ليظلمهم ]

حين أرسل عليهم عذابه الوبيل .

[ و لكن كانوا أنفسهم يظلمون ]

[10] بعد ذلك يذكرنا الرب بأحد سننه و تقاديره في الحياة و التي قد لا يراها البعض ، و هي : إن عاقبة الذين اساؤا ستكون السوأى ، بان يكذبوا بآيات الله ، و من ثم الاستهزاء بهـــا ، و هذه الآية - في الواقع - تهز الانسان من الأعماق ، ذلك ان الشيطان حين يخدع البشر يهون عليه السيئات الى ان يستدرجه من الذنب الصغير إلى اكبر منه ، حتى تغطي الذنوب كل أعماله ، و من ثم يأتي الى عقيدته و يسلبها منه ، و يتركه في جهنم ، و إن السيئات تشبه منحدرا ، كلما هوى أكثر كلما ازدادت جاذبية الارض و ضعفت مقاومته .

و لكن السؤال : كيف يصل البشر الى هذه المرحلة من الضلال ، فيكذب بآياتالله و يستهزأ بها ؟

و الجواب : إن للانسان في داخله قوة تبريرية ، تبرر لضميره فعل السيئات ، فقد يرى - مثلا - يتيما يمسك فطعة خبز يأكلها ، فيسلبها منه ، و يأخذها عنوة ، ثم يشعر بوخز الضمير ، و عتــاب الوجدان ، فيعمل على تبرير عمله ، بمجموعة من الأعذار المعلبة ، فيقول مثلا : أولا : أنا جائع و اليتيم ليس بجائع ، ثانيا : الناس يعطون اليتيم و لا يعطونني ، و من الذي يقول بأن اليتيم ليس بسارق للخبزة ، و إلا لما أكلها بعيدا عن الأنظار ؟! و أخيرا : من الذي يدعي بوجود العطف على اليتيم ؟! و شيئا فشيئا تتبدل قيم هذا الانسانحتى يصدق قناعاته الجديدة ، فهذا الذي عمل الذنب بدافع الغريزة - الجنس ، الجوع ، الخوف .... - يفعل الذنب بعدئذ بدافع التعود على الذنب نفسه ، فيصبح مجرما محترفا .

و هكذا كان نمرود و فرعون و سائر المستكبرين ، فهم لم يدعو الإلوهية من أول يوم ، بل استدرجهم الشيطان حتى أنساهم ذكر الله ، و أصبحوا كذلك يكذبون بآياته ، و يستهزؤون بها .. من هنا يجب على الانسان ان يحسب حساب الخطوة الأخيرة حينما يقرر اتباع الشيطان فيالخطوة الأولى ، يقول الله تعالى :

[ ثــم كان عاقبــة الذين اسائوا السوأى أن كذبوا بايات الله و كانوا بها يستهــزؤون ]السوأى : مؤنث الاسوء ، أي كانت عاقبتهم أسوء عاقبة .

و نعوذ بالله فهذا البشر الضعيف الحقير المستكين المحتاج ليس فقط يكذب بآيات الله ، بل و يستهزأ بها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس