فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[11] لكي لا يسترسل الانسان في ارتكاب السيئات فتنتهي به إلى العاقبة السوءى يذكره الرب سبحانه بالساعة ، حين يقدم الناس للحساب بين يدي الله العليم القدير .

و بإيجاز بليغ يبين السياق الحجة على الساعة : أوليس الله قد بدا الخلق ؟ فهو إذا يعيده كما بدأه ، و هنالك يرجع الناس اليه للحساب .

[ الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ]

أي يعيد الخلق بعد الفناء .

[ إليه ترجعون ]

يعني حين تعودون فإنكم تعودون إليه .

و يحتمل أن يكون معنى " ثم يعيده " أي يطويه بالفناء ، كما نشره بالخلق ، ثم اليه يرجعون بالخلق من جديد .


(1) نهج البلاغة / ج 199 ص 316 -317


[12] و حين الرجوع الى الله ماذا سيكون مصير المجرمين ؟

في ذلك اليوم يلوذ المجرمون - الذين طالما برروا بألسنتهم الحادة جرائمهم - الى الصمت البائس ، لأن الحزن الناشئ من اليأس قد أحاط بقلوبهم .

[ و يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ]

جاء في القاموس : أن المبلس من لا خير عنده أو عنده بلاس ، و في مفردات الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدة الياس ، و لما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت ، و ينسى ما يعنيه ، قيل : أبلس فلان إذا سكت ، و إذا انقطعت حجته .

و ربما السبب في سكوت المجرمين الناشئ من حزنهم و يأسهم هو : إن الله لا يترك لأحد حجة يوم القيامة ، و قد بينت الأحاديث التالية جانبا من احتجاج الرب لعباده يوم القيامة ، مما يفحم المجرمين و المذنبين .

1- عن المفيد ، عن ابن قولويه ، عن محمد الحميري ، عن أبيه ، عن هارون ، عن ابن زياد قال : سمعت جعفر بن محمد (ع) - و قد سئل عن قوله تعالى : " فلله الحجة البالغة " - فقال :

" إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ، عبدي أكنت عالما ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ؟ و إن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل ؟ فيخصم ، فتلك الحجة لله عز و جل على خلقه " (1)2 - و روى معاوية بن عمار قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول :

" إن الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله يوم القيامة على جيرانه فيقال لهم : ألم يكن فلان بينكم ؟ ألم تسمعوا كلامه ؟ ألم تسمعوا بكاءه في الليل ؟


(1) بحار الانوار / ج 7 ص 285 - 286


فيكون حجة الله عليهم " (1)

3 - و روى عبد الاعلى مولى آل سام قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول :

" يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول : يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت ، فيجاء بمريم (ع) فيقال : أنت أحسن أو هذه ؟ قد حسناها فلم تفتتن ، و يجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه ، فيقول : يا رب حسنت خلقــي حتى لقيت من النساء ما لقيت ، فيجاء بيوسف (ع) فيقال : أنت أحسن أو هذا ؟ قد حسناه فلم يفتتن ، و يجاء بصاحب البلاء الذي قد اصابته الفتنة في بلائه فيقول : يا رب شددت علي البلاء حتى افتتنت ، فيجاء بأيوب (ع) فيقال : أبليتك أشد أو بلية هذا ؟ فقد ابتلي فلم يفتتن " (2)

[13] [ و لم يكن لهم من شركائهم شفعاؤا ]

يشفعون لهم حيث تسقط آنئذ تلك التصورات بأن الشركاء سيشفعون لهم . و الشريك هو الذي يظن البشر أنه كما الله قادر عليم و غير ذلك ، بيد أنه عندما يشرك الانسان بالله فمن الطبيعي أن يتشبث بالشركاء ، لانه لا يترك ربه الا بضغط من الشركاء ، سواء كان الطاغوتأم الهوى أم المجتمع ، و عموما كل من يستمد منهم الانسان التشريعات ، فيحلون له و يحرمون بغير هدى من الله .

و لكن ماذا عسى أن ينفعه الشركاء ؟!

في ذلك اليوم الرهيب لا يقف أحد من الشركاء إلى جانب المجرمين للدفاع عنهم و الشفاعة لهم .


(1) (2) بحار الانوار / ج 7 ص 285 -286


و الواقع : ان فطرة الانسان تهديه الى أنه ضعيف عاجز و بحاجة الى من يركن إليه ، و الشيطان يضله عن ربه ، و يغويه الى الشركاء ، و يزعم له أنهم هم الركن الذي يمكنه الاعتماد عليهم ، فيحجبه بذلك عن ربه ، و اذا سقط الشركاء عن عينه ، و عرف أنهم لا يضرون ولا ينفعون سقط عنه حجاب كثيف كان يمنعه عن رؤية الحق و معرفة الرب .

و في يوم القيامة يتبين للمشركين مدى ضلالة الإعتماد على الشركاء ، حيث لا يشفعون لهم و لا ينصرون .

و ليس فقط لا ينفعونهم ، بل و يتبرؤون منهم ، و آنئذ فقط يعرفون أن ضغط الهوى و المجتمع و الطاغوت لم يكن حقيقة بل وهما .

[ و كانوا بشركائهم كافرين ]

[14] [ و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ]

فريقان ، بعكس ما كانوا في الدنيا مختلطين .

[15] فريق في الجنة :

[ فأما الذين ءامنوا و عملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ]الروضة : هي المكان الذي تكثر خضرته و طيبه .

و يحبرون : ( من اصل حبر ) بمعنى نضرة النعيم في وجوههم . أوليس تغمرهم حالة الرضا ، و تحيط بهم ألوان النعم ، فتنعكس على وجوههم انبساطا و بشرا ؟!

و قد أولت الكلمة هذه بأمرين :


الأول : الإكرام ، كما جاء في تفسير علي بن ابراهيم .

الثاني : التلذذ بالسماع ، كما روي عن رسول الله (ص) انه قال :

" ما من عبد يدخل الجنة إلا و يجلس عند راسه و عند رجليه ثنتان من الحور العين تغنيان بأحسن صوت سمعه الإنس و الجن ، و ليس بمزمار الشيطان ، و لكن بتمجيد الله و تقديسه " (1)و عن أبي الدرداء قال : كان رسول الله (ص) يذكر الناس ، فذكر الجنة و ما فيها من الأزواج و النعيم ، و في القوم أعرابي فجثا لركبته و قال : يا رسول الله هل في الجنة من سماع ؟ فقال (ص) :

" نعم يا أعرابي ، إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط ، فذلك أفضل نعم الجنة " (2)و الغناء إشباع لحاجة الانسان الروحية ، فبالإضافة الى النعم المادية التي يتمتع بها المؤمنون في الجنة كالأكل و الشرب ، هناك نعمة معنوية و هي إشباع القلب ذكرا لله و معرفة به و حبا له ، و بالرغم من ان الصوت الحسن ليس كل اللذة الروحية ، إلا انه لو كانيحمل للانسان فكرا و علما ، و تذكيرا بالله ، و هدى يبلور القيم الحق ، آنئذ يكون لذة جسمية و معنوية في نفس الوقت ، و لذلك جاء في الحديث السابق : أن السماع أفضل نعم الجنة حين تمجد الحور الله و تقدسنه .

و هكذا كانت أعظم لذات المؤمن في الدنيا الصلاة و مناجاة الله سبحانه ، يقول رسول الله (ص) :


(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 - ص 171

(2) المصدر


" حبب إلي من الدنيا النساء و الطيب ، و قرة عيني الصلاة " (1)و كان يقول (ص) لبلال حين يحين وقت الصلاة .

" أرحنا بالصلاة يا بلال "

و في مناجات العارفين للامام السجاد (ع) يقول :

" إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق اليك في حدائق صدورهم ، و أخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم ، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون ، وفي رياض القرب و المكاشفة يرتعون ، و من حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون ، و شرايع المصافات يردون ، قد كشف الغطاء عن أبصارهم ، و انجلت ظلمة الريب عن عقائدهم ، و انتفت مخالجة الشك عن قلوبهم و سرائرهم ، و انشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم ، و علت لسبق السعادة في الزهادة هممهم ، و عذب في معين المعاملة شربهم ، و طاب في مجلس الأنس سرهم " (2)[16] هذا عن حال المؤمنين في الجنة ، فما هو حال الذين كفروا ؟!

[ و أما الذين كفروا و كذبوا باياتنا و لقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ]فالمـــؤمنون يذهبون سراعا الى الجنة ، أما الكافرون فإنهم يساقون الى النار سوقا ، و لأن الجنة تزلف الى أهلها فهي أمامهم ، بينما تقرب النار الى الكافرين ، و يساقون إليها في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا .


(1) الخصال / الشيخ الصدوق / ص 165

(2) الصحيفة السجادية المناجات الثانية عشر .


و لعل الآية تعالج مرضا روحيا ، و تبريرا طالما يأوي إليه الجاحدون ، ألا و هو تكذيب لقاء الله ، حيث يزعم الكفار أنه بمجرد تكذيب الساعة تسقط عنهم المسؤولية ، بينما القرآن يؤكد ان هذا التكذيب بذاته جريمة يعاقب عليها الجاحدون ، فلم يوضع الحساب فقط لمنآمن بالساعة ، بل و أيضا لمن كذب بها ، حيث أنه ينال جزاء تكذيبه كما ينال جزاء جرائمه .

[17] [ فسبحان الله ]

إن اردت ان تكون من اصحاب الجنة ، لا من أهل النار ، فسبح الله و احمده آناء الليل و أطراف النهار .

[ حين تمسون و حين تصبحون ]

حين غروب الشمس و حين طلوعها .

[18] [ و له الحمد في السموات و الأرض ]

و نحمده لما نرى من آياته في السموات و الارض .

[ و عشيا و حين تظهرون ]

عشيا عند صلاة العصر ، و عند الزوال وقت صلاة الظهر ، و هذه مواقيت الصلوات الخمس التي ذكرت جميعا إلا صلاة العشاء لقربها إلى ميعاد صلاة المغرب .

بلى . حين يتنفس الصباح أو تودع آخر اشعة الشمس الروابي ، و عندما ينتصف النهار وفي وقت العشية ، تحدث تطورات على الطبيعة ، و في نفس البشر ،تقتضي تسبيح الرب ، لكي يطمئن الانسان الى خالقه الذي جل عن التغير ، و الذي يهيمن على اختلاف الزمن .

إن تسبيح الله و حمده طرفي الليل و وسط النهار يمنع النفس من تقديس الطبيعة التي تعكس في هذه الحالات هيبتها عليها ، و من الناس من يعبر عن ذلك بالسجود للشمس و القمر ، و تقديس الاشجار و الأحجار .. و إن تسبيح الله و حمده يتسع مع آفاق الخليقة حتى يشمل السموات و الأرض ، فلا ينظر العارف بربه الى شيء إلا و يتجلى له الرب بجلاله و جماله فيتوهج فؤاده تقديسا و حمدا .

و قد عبرت الآيات هنا عن اتساع تسبيح الله و حمده عبر آنات الزمان و آفاق المكان ببيان رائع و إيجاز بليغ فقال : فسبحان الله ، و قال : و له الحمد . هكذا بصفة عامة دون أن يذكر ذاكر التسبيح و قائل الحمد ، لان كل شيء يسبح له و يحمده ، و تسبيح الله و حمدهمقتضى تحول الحالات بتدبير حكيم ، ذلك أن انتقال الوقت من المساء الى النهار و مــن النهار الى المساء يعني وجود نقصا في الطبيعة ، فالطبيعة ليست ثابتة ، و إنما هي متغيـــرة ، فنستدل بهذا النقص على أن ربها و مقدرها ليس بناقص ، و لأن لكل متحرك ثابتـا يحركه ، لذلك كل ما نرى في الطبيعة من نقص نسبح الله ، فالنقص في الطبيعــــة أمر حق ، و قد كان القدماء يستدلون على الله بأن العالم متغير ، و كل متغير حـادث ، و كل حادث يحتاج الى محدث ، و المحدث هو الله . و جوهر هذا الاستدلال صحيــح .

فالطبيعة أعجز من أن تخلق نفسها ، أو تديرها ، فلابد لها من خالق مدبر ، و هكذا استدل ابراهيم (ع) لما رأى أفول كل من الشمس و القمر و الكوكب .

و نستوحي من الآية ان مواعيد الصلاة مرتبطة بتغيرات الطبيعة لا بحسب الساعات ، كالساعة العاشرة مثلا ، لأن الساعة العاشرة ليست حدثا في الكون ،و لكن الأوقات التي رسمها الله للصلوات مرتبطة بالظواهر الطبيعية التي تنعكس على النفس ، و تحتاج الى رؤية سليمة للتعامل معها .

و كلمة أخيرة : إن لهذه الآيات فضلا كبيرا لما فيها من التسبيح و الحمد لله ، و لذلك جاء في الحديث المأثور عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال :

" من قال - حين يمسي - ثلاث مرات : سبحان الله حين تمسون و حين تصبحون وله الحمد في السموات و الارض و عشيا و حين تظهرون " لم يفته خير يكون في تلك الليلة ، و صرف عنه جميع شرها ، و من قال ذلك حين يصبح لم يفته خير يكون ذلك اليوم و صرف عنه جميعشره " (1) .


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 172


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس