فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[54] نظرة المؤمن الى الزمن تختلف عن غيره ، اذ انه يستوحي من التغيرات الطارئة إيمانا و معرفة بالحقائق الثابتة ، و يستشهد بها على ما سيحدث مستقبلا ، أما الكافر فانه ليس لا يستوحي من التحولات و التغيرات الطارئة عبرة ، بل و تشوش رؤيته هذه التحولات ايضا .

ان هذا التطور في حياة الانسان يدل على ان الانسان هو الانسان نفسه ، و لكن التغيير إنما طرأ على شيء خارج ذاته ، فالقوى التي كانت ضعفا في الصغر ، و تعود ضعفا في الكبر ليست من ذات الانسان ، و إلا لاستمرت معه ، و العلم ليس من ذات الانسان ، و إلا لكان يلازمه ، و لكن الله أخرجنا من بطون امهاتنا لا نعلم شيئا ، فجعل لنا السمع و الأبصار و الأفئدة ، و كل شيء فيك سوف يزول .

[ الله الذي خلقكم من ضعف ]

و لم يكن خلق الانسان اساسا من مادة الضعف ، لأن الله جل و علا يخلق الأشياء بالإرادة الإلهية ( كن فيكون ) و انما جعله ضعيفا ، لأنه خلقه من التراب ، أو كان الضعف أساس خلقته ، و واقع ذاته ، جاء في دعاء مأثور عن الامام الحسين (ع) :

" أنا الفقير في غناي ، فكيف لا اكون فقيرا في فقرى ؟! أنا الجاهل في علمي ،فكيف لا أكون جهولا في جهلي ؟! " (1)

[ ثم جعل من بعد ضعف قوة ]

في شبابه حتى كهولته ، إذا القوة ليست من ذات البشر .

[ ثم جعل من بعد قوة ضعفا و شيبة ]

و هذا الضعف الثاني يعتريه نتيجة المرض أو نتيجة الشيخوخة . و من المعروف ان مرض الشيخوخة لا يعالج إذ أنه يتسبب من انعدام أو ضمور خلايا المخ التي لا تعوض بأية وسيلة .

قال بعض الشعراء :

عجوز تمنت ان تكون فتية وقد شاب منها الرأس و احدودب الظهرفمرت على العطار يصلح شأنها فهل يصلح العطار ما أفسد الدهر[ يخلق ما يشاء و هو العليم القدير ]

هذه التحولات التي تجري على الانسان تكشف عن قدرة الله و علمه سبحانه ، ان اعظم آية على قدرة الرب يقلب الانسان من حال الى حال ، في إطار تقدير حكيم ، و تدبير رشيد ، حتى يعرف انه القادر المهيمن العليم الحكيم ، جاء في دعاء الامام الحسين (ع) :

" الهي علمت باختلاف الآثار ، و تنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرف(1) مفاتيح الجنان / ص 271


الي في كل شيء ، حتى لا اجهلك في شيء " (1)

[55] لا يتوقع المجرم امتثاله للمحاكمة ، و تراه يسوف في نفسه الجزاء ، و يتمنى لو أنه لا ياتيه أبدا ، و لكن المكتوب عند الله غير ذلك تماما ، فكل يوم يمر يقربه الى يوم الجزاء خطوة و مادامت الساعة آتية ، و مادمنا امتطينا صهوة الاجل ، فلابد ان نلتقي يوما و إياها .

و لهول المفاجئة يحلف المجرم إنما لبث ساعة واحدة ، و هي اللحظة العابرة من الوقت ، و هكذا تتلاشى المسافة آنئذ بين لحظة الذنب و لحظة الحساب ، و فعلا ما هي قيمة أيام الدنيا بالقياس الى الخلود ، بل ما وزن اللحظات العابرة التي يقضيها المجرم مع شهواته بالأحقاب التي يلبثها عند الجزاء .

و هكذا يحلف المجرم بانه ما لبث غير ساعة ، و لعله صادق بالقياس الى الموازين التي اختلقها بنفسه فيما يرتبط بالعقاب ، فهو كان يزعم انه لا يأتيه أبدا ، أو إذا كان يأتيه فهو بعيد ، و بعيد جدا في زعمه ، و هكذا كذب على نفسه ، و صرف ذاته عن الحقيقة بهذا التسويف و تلك التمنيات .

[ و يوم تقوم الساعة ]

بأهوالها ، و صعقة مفاجئتها ، و عظيم وقعها في السموات و الارض ، يومئذ ..

[ يقسم المجرمون ]

و هم الذين ارتكبوا الموبقات ظانين ألا جزاء ينتظرهم .


(1) المصدر / ص 272


[ ما لبثوا غير ساعة ]

حتى كأنهم يواجهون الجزاء فور الإنتهاء من الجريمة .

ولو أننا ننتبه الى مدى سرعة طي الزمن ، و مدى اقتراب الأجل ، و كيف أن العقاب أقرب بكثير مما نتصور ، و أن المسافة التي نتخيلها تفصل بيننا و بين الجزاء ليست إلا وهما ؛ إذا لا رعوينا .

هكذا يقول المؤمنون في دعائهم لربهم :

" ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته "

و يقولون :

" اللهم عظم بلائي ، و أفرط بي سوء حالي ، و قصرت بي أعمالي ، و قعدت بي أغلالي ، و حبسني عن نفعي بعد أملي ، و خدعتني الدنيا بغرورها ، و نفسي بجنايتها ، و مطالي يا سيدي " (1)و يقول الامام أمير المؤمنين (ع) :

" أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى ، و طول الأمل ، فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، و أما طول الأمل فينسي الآخرة " (2)[ كذلك كانوا يؤفكون ]


(1) رائعة من دعاء الكميل للامام علي (ع) / مفاتيح الجنان / ص 63(2) نهج البلاغة / الخطبة 42 - ص 83


و يصرفون عن الحق ، و يزعمون أن الجزاء بعيد ، أو انه لا يأتي أبدا ، و السؤال : من الذي يصرفهم عن الحق ؟ الجواب : قد يكون الشيطان أو المجتمع الفاسد أو هوى النفس ، و بالتالي أنى كان عامل الضلالة فإنهم لا يمكنهم أن يغيروا الواقع بتمنياتهم الحلوة ، كلا.. الجزاء آت ، و سوف يقولون عنده أنهم لم يلبثوا غير ساعة .

و لعل كلمة " كذلك " هنا توحي بأن ضلالتهم في معرفة مدة لبثهم تشبه ضلالتهم في إبعاد فكرة الجزاء عن أذهانهم .

و من هنا ينبغي أن يتضرع الانسان الى ربه ألا ينسيه الآخرة ، و ان يقصر أمله بحسن العمل .

[56] أما المؤمنون فإنهم على يقين من الآخرة ، و يحذرون الحساب ، و يشفقون من الساعة ، و يسعون دائبين لاتقاء عذاب ربهم ، فلذلك لا تفاجأهم الساعة ، أوليسوا قد أعدوا عدتها ، و تزودوا لرحلتهم إليها الزاد الأوفى ؟

[ و قال الذين أوتوا العلم و الايمان ]

لعل العلم هنا هو علم الساعة ، بدليل قوله سبحانه في آخر هذه الآية : " و لكنكم كنتــم لا تعلمون " أما الايمان فهو التصديق لما يقتضيه العلم بالقول الصادق و العمل الصالح .

[ لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث ]

ليس المهم المدة التي لبثتم خلالها ، طالت أم قصرت ، المهم انكم بالتالي واجهتم ما هربتم منه بزعمكم .

و لعل التعبير بـ " في كتاب الله " يشبه ما نقوله : ( في الواقع ) أي انه بعكستمنياتكم بالا تأتي الساعة أو أن تطول المسافة بينكم و بينها لم يقع ما هوت أنفسكم ، بل وقع ما أراد الله ، و ما أثبته في كتابه الذي هو مقياس الحق ، و ليس اهواءكم و تمنياتكم وما تشتهيه أنفسكم .

إن أهم ما ينبغي ان يعرفه الانسان ان العالم المحيط به لا يتبع اهواءه ، و لا يمشي حسب أحلامه ، بل حسب ما كتب الله .

[ فهذا يوم البعث ]

الذي أنكرتموه و لم يجدكم انكاركم له نفعا ، بلى . إن إنكاركم أفرز نتيجة واحدة هي جهلكم و عدم استعدادكم .

[ و لكنكم كنتم لا تعلمون ]

و نستوحي من هاتين الآيتين : ان الكافر لا يعيش الزمن ، و لا يعترف بالنهاية ، و لا يحترم وقته الذي يسوفه الى تلك النهاية الفظيعة ، بينما المؤمن يعي حقيقة الزمن التي هي فرصته الوحيدة ، و يتحسس بمرورها ، فلا يدع ساعة من وقته دون ان يملأها عطاء ليتزودبه ليوم فاقته " يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم " .

بلى . إن منطق المؤمن من الزمن يجسده الامام زين العابدين علي بن الحسين (ع) حين يناجي ربه قائلا :

" و أعني بالبكاء على نفسي ، فقد افنيت بالتسويف و الآمال عمري ، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري "ثم يضيف ضارعا :


" و مالي لا ابكي و لا ادري الى ما يكون مصيري ، و أرى نفسي تخادعني و أيامي تخاتلني و قد خفقت عند رأسي أجنحة الموت "ثم يصور نفسه الساعات الرهيبة التي تنتظره لكي يتزود لها و يقول :

" فمالي لا أبكي ، أبكي لخروج نفسي ، أبكي لظلمة قبري ، أبكي لضيق لحدي ، أبكي لسؤال منكر و نكير اياي "و يبلغ ذروة ضراعته عند تذكر أهوال الساعة فيقول :

" أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا ، حاملا ثقلي على ظهري ، أنظر مرة عن يميني ، و أخرى عن شمالي ، اذ الخلائق في شأن غير شأني ، لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، و وجوه يومئذ عليها غبره ، ترهقها قترة و ذلة " (1)

[57] لعل الشيطان يسول للعاصي فعل المحرمات بأن الآخرة مثل الدنيا ، اذا ارتكب جريمة تنصل عنها ، و اعتذر ، فتقبل معذرته ، يقول ربنا لعلاج هذا الوسواس :

[ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ]

و اساسا إن ذلك اليوم هو يوم الجزاء ، لذلك لا يطالب الظالمون بالتوبة ، لأن فرصتهم قد انتهت .

[ و لا هم يستعتبون ]


(1) روائع من دعاء أبي حمزة الثمالي / مفاتيح الجنان - ص 193[58] [ و لقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كل مثل ]يبين القرآن لنا من كل حقيقة في الخلق أو في النفس جزءا لنستدل به على الحقيقة كلها ، و لكن كل تلك الحقائق لا تنفع الكافرين رغم وجود آيات الصدق عليها .

[ و لئن جئتهم باية ليقولن الذين كفروا إن انتم الا مبطلون ]لماذا ينكر هؤلاء أبدا الحق ؟ و ما هي عوامل الإنكار عندهم ؟ الجواب : لأنهم بظلمهم فقدوا القدرة على الفهم .

[59] [ كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ]

لأنهم تركوا العلم و الايمان بالرسالة الى الجهل و العناد ، و عندما يترك الانسان علمه الى جهله يتحول قلبه الى صندوق مقفل ، و مختوم عليه .

[60] كان ذلك موقف الذين كفروا ، أما موقف المؤمن فهو الصبر ، و انتظار الفرج ، و لان الله آل على نفسه أن ينصر عباده الصالحين .

[ فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يؤمنون ]و هذه اشارة الى النبي (ص) ان يستمر على عمله ، و لا يتأثر بما يقوله الذين لا يوقنون .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس