فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[1] [ الم ]

كما احتملنا سابقا : ان الاحرف التي ترد في اوائل السور رموز لا يعلمها الا الله و الراسخون في العلم ، و يحتمل ان تدل على ألفاظها .

[2] و من تركيب هذه الاحرف البسيطة في ظاهرها ، انزل الله سبحانه القرآن و آياته ، في كتاب ثابت ينبعث بالحكمة .

[ تلك ءايات الكتاب الحكيم ]

[3] كما تعطي هذه الآيات الهدى و البصائر للمحسنين .

[ هدى و رحمة للمحسنين ]

و الاحسان ليس رحمة للمجتمع و حسب ، بل هو هدى له ايضا ، اذ يهديه الاحسان الى سبل استغلال الطبيعة و تسخيرها في خد مة الانسان ، ذلك ان من صفات المجتمع الايماني ، بحث افراده عن وسائل للعطاء و الاحسان ، و لا يمكنهم ذلك الا بتسخير الطبيعة ، مما يدفعهم لاستغلالها ، و اعمال عقولهم بحثا عن حل لكل المشاكل و العقبات التي تعترض هذا الهدف ، و بالتالي فان أبوابا كثيرة سوف تنفتح أمامهم ، و كلها طرق جديدة للسيطرة على الحياة و استغلالها ، و هذا جانب من الهداية . أوليست الحاجة أم الاختراع ؟!


[4] و لكن كيف يمكن ان نوجد صفة الاحسان في المجتمع ؟

1 - بالصلاة لانها معراج الروح نحو الفضيلة ، باعتبارها تقرب الانسان الى رب العالمين .

[ الذين يقيمون الصلاة ]

و اقامة الصلاة بالمعنى الحقيقي تتضمن بل تستدعي الإحسان ، كما ان الصلاة تأتي نتيجة الاحسان ، أليس المحسن يهديه الله ؟! أوليس الإحسان يروض النفس و يزكيها ؟!

2 - بالزكاة التي تربي الروح على الإحسان ، و تطهرها من حب الذات .

[ و يؤتون الزكاة ]

و الزكاة ليست مجرد واجب ديني يقوم به المؤمن ، بل هي برنامج يدربه على الإحسان ، و منطلق له نحو العطاء .

3 - باليقين بالآخرة ، فالذي يقتصر نظره على الدنيا يكون منتهى السعادة عنده ان يتنعم و يستلذ حتى يعتقد كما قيل : ان الحياة لذة و شهوة ، اما الآخر الذي يتيقن بالآخرة ( الجزاء ) و ان مستقبله فيها قائم على ما يقدمه في سبيل الله هنا في الدنيا ، فهو يكتفي بما يقيم أوده لنفسه ، و يدخر ما سواه لآخرته .

[ و هم بالاخرة هم يوقنون ]

[5] و يؤكد القرآن الكريم : ان هذه الصفات دليل على الهدى من جهة ، و سبب الفلاح من جهة أخرى .


[ أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون ]

في الدنيا بالهدى و النمو الذي يسببه الاحسان ، و محبة الناس لهم ، و في الآخرة بجزاء الله لهم ، و إذ يحدثنا الله بصيغة المجتمع عن تجمع بصفة عامة و ليس عن فرد واحد ، فلأن الإحسان بالنسبة لفرد واحد يعيش في مجتمع فاسد قد لا ينفعه في الدنيا ، اما اذا كان ضمن تجمع من المحسنين فانه سيكون ذا جدوى في الآخرة و الدنيا ايضا ، بتعميقه روح المحبة و الوئام داخل المجموع .

[6] و لأن من مميزات السياق القرآني انه يعرفنا مختلف المسائل و الحقائق بذكر اضدادها ، فبذكر النار يعرفنا الجنة ، و بذكر الكفر يعرفنا الايمان ، نجده هنا ايضا يحدثنا عن الحالة المخالفة للاحسان .

فهناك من ينفق في سبيل الله من اجل الهداية ، وهو بالتالي يمهد أرضية الهدى لنفسه باحسانه و انفاقه ، و هناك من ينفق في سبيل الضلال و يشتري لهو الحديث . كلاهما يعطي من نفسه و ماله و لكن هذا للهدى و ذاك للضلال .

[ و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ]و لكن لماذا يكون الضلال هدف هؤلاء ؟ حتى انك تجدهم يشترون (لهو الحديث) ؟

لانهم يرون الحق يناقض أنانياتهم ، تماما بعكس المحسنين الذين يرون الحق محورهم ، و قلب الانسان لا يمكن ان يكون فارغا أبدا ، فاذا لم يملأه بالايمان و العلم ، فسيكون بيتا للهو و الإنحرافات .


و اللهو هوالقول و العمل الذي يخلو من أي هدف ، و هو في النهاية يعود الى الانسان بالخسران ، فهو لا يشتري اللهو بدراهم معدودة ، انما يدفع من أجله عمره الغالي و ما يملك من فرص ، و مثال ذلك الذي يشتري الافلام و الاشرطة و المجلات و الكتب المنحرفة ، و منالطبيعي ان يبتعد هذا الانسان عن آيات الله و يرفضها .

[ و يتخذها هزوا ]

على عكس المحسنين الذين يهتدون بالآيات " هدى و رحمة للمحسنين " و هذه من أخطر المراحل التي يصل اليها البشر في الضلال .

[ أولئك لهم عذاب مهين ]

لاستهزائهم بآيات الله ، و استكبارهم عليها .

و الملاحظ ان السياق ربط بين الاحسان و الهدى ، و لكنه لم يسمه ( شراء الهداية ) بينما سمي الانفاق في سبيل الضلال ( بشراء لهو الحديث ) و ذلك لان الهداية من الله ، و هي أعز من أن تشترى .

كما ان هناك مفارقة بين الكتاب الحكيم و بين لهو الحديث ، كما بين الهدى للمحسنين و الضلال لمن يشتري لهو الحديث .

و مفردات لهو الحديث كثيرة تشير الى بعضها الرواية المأثورة عن الامام الصادق (ع) حيث قال :

" هــو الطعن في الحق ، و الإستهزاء به ، و ما كان ابو جهل و اصحابه يحيون به ، اذ قال : يا معاشر قريش ألا أطعمكم من الزقوم الذي يخوفكم به صاحبكم ؟ ثم ارسل الى زبدة و تمر ، فقال : هذا هو الزقوم الذي يخوفكم به " قال : " و منهالغنا " (1)

و قد استفاضت الأحاديث المأثورة في تفسير هذه الآية بالنهي عن الغناء ، باعتباره من لهو الحديث .

نقرأ معا بعض تلك النصوص .

جاء في الأثر عن الامام الباقر (ع) انه قال :

" الغنا مما أوعد الله عز و جل عليه النار " و تلا هذه الآية (2)و روي عن الامام الصادق (ع) انه قال :

" الغنا مجلس لا ينظر الله الى اهله و هو مما قال الله عز و جل و قرأ : " و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " (3)و روى أبو أمامه عن النبي (ص) انه قال :

" لا يحل تعليم المغنيات ، و لا بيعهم ، و اثمانهن حرام ، و قد نزل تصديق ذلك في كتاب الله " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " (4)و جاء في حديث مروي عن الامام الصادق (ع) وهو يعدد مفاسد الغناء :

" بيت الغناء لا تؤمن من فيه الفجيعة ، و لا تجاب فيه الدعوة ، و لا يدخله الملك " (5)(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 195

(2) المصدر / ص 194

(3) المصدر

(4) المصدر

(5) وسائل الشيعة / ج 12 - ص 225


و جاء في نص آخر مأثور عنه ايضا قال :

الغناء يورث النفاق ، و يعقب الفقر " (1)

و يبدو ان حكمة تحريم الغناء في الشريعة الاسلامية تتشابه و حكمة تحريم الخمرة و المسكرات و المخدرات و القمار ، حيث أنها جميعا تلهي الناس عن ذكر ربهم ، و تنسيهم الآخرة ، و تخدرهم فيما يتصل بمشاكل حياتهم ، و هي بالتالي نوع من الهروب عن مواجهة تحديات الحياة التي يتناسونها عبر الملهيات ، كما انها تجر المجتمع الى المفاسد الاجتماعية ، التي تسبب الصراعات و تزرع النفاق .

و لهذا أكد رسولنا الأكرم (ص) على هذا الجانب ، فيما رواه عنه احمد امام المذهب ، عن ابن مسعود انه قال :

" الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل " (2)و الغناء يشجع ايضا الفساد و الجنس ، و يتخذه اصحاب الهوى و سيلة لاثارة شهواتهم ، و اتخاذ السبل السيئة لاشباعها مما يهدد التماسك الأسري باخطار كبيرة .

من هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر (ع) حول الغناء ... انه سئل عن كسب المغنيات فقال :

" التي يدخل عليها الرجال حرام ، و التي تدعى الى الاعراس ليس به بأس " (3)(1) المصدر / ص 230

(2) تفسير نمونه / ج 17 - ص 22 / نقلا عن تفسير روح المعاني للألوسي عند تفسير الآية .

(3) نور الثقلين / ج 4 - ص 194


و في الغناء بالاضافة الى كل ذلك حالة ادمان كما المسكرات و المخدرات لانها تخلف آثارا خطيرة على شبكة الأعصاب ، ومن هنا دلت البحوث التي أجريت في حياة كبار رجال الغناء و الموسيقى ، انهم تعرضوا لمتاعب روحية ، حتى انهم فقدوا قدراتهم العصبية ، و ابتليبعضهم بأمراض نفسية ، و فقد البعض منهم مشاعرهم ، و انتهى ببعضهم المطاف الى المصحات العقلية ، أو أصيبوا بالشلل ، و بعضهم تعرض لموت الفجأة بسبب ارتفاع ضغط الدم عن ضرب الموسيقى . (1)[7] و لا يمكن ان تنطفئ شعلة الهدى من قلب البشر بصفة كلية ، بل لابد من يبقى فيه وميض من نور العقل مهما تراكمت عليه الشهوات ، هكذا أراد الله ان يقيم الحجة عليه أبدا من نفسه .

فبالرغم من وصول فرعون الى قمة العناد ، حيث ادعى الربوبية ، و لكنه ما استطاع اطفاء الفطرة داخله ، و اذا به يقول " آمنت برب هارون و موسى " بلى . يمكن للبشر أن يخالف فطرته في فكره و سلوكه ، لذلك تجده يسعى جادا للإنفلات من وخز ضميره ، و يهربمن أسباب هدايته .

[ و إذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا ]

عنادا منه .

[ كأن لم يسمعها ]

و لم يقل لم يسمعها ، و هذا دليل على الاختيار ، فالانسان هو الذي يختار بنفسه لنفسه ان لا يسمع نداء الفطرة و لا آيات ربه مع تمكنه من الاستماع لذلك .


(1) تفسير نمونه / ج 17 - ص 26 / نقلا عن كتاب تأثير موسيقي بر روان و اعصاب / ص 26 .


[ كأن في أذنيه وقرا ]

و هو الثقل في السمع أو الصمم ، و هذا الوقر أو الحجاب بينه و بين الآيات يكون تارة بسبب الأفكار المسبقة ، و تارة أخرى بسبب العوامل الآنية كالاستكبار ، و عموما فان المقاييس الخاطئة التي يعتمدها الانسان في تقييمه للأفكار و الأشخاص و الأشياء هي السبب في النتائج الخاطئة .

[ فبشره بعذاب أليم ]

هناك قال ربنا " مهين " لأن جزاء الاستكبار في الدنيا الإهانة في الآخرة ، حتى جـــاء في الحديث ان الله يحشر المستكبرين في صورة ذر يطأهم الناس حتى ينتهي الحساب .

و هنا يقول ربنا سبحانه : " أليم " لأن الانسان يستكبر ، و يعرض عن الآيات من أجل التلذذ بشهوات الدنيا ، و جزاء ذلك الإيلام في الآخرة ، و يدل انسجام التعابير في موارد العذاب على ان الجزاء من جنس العمل ، و بتعبير ابلغ الاعمال هي التي تتجسد جزاء وفاقا في الآخرة ، بل في الدنيا أحيانا كثيرة .

[8] و في مقابل هذا الجزاء يأتي الحديث عن جزاء المؤمنين .

[ إن الذين ءامنوا و عملوا الصالحات لهم جنات النعيم ]جزاء لهم على ما أنفقوا من نعيم الدنيا في سبيل الله .

[9] و يختلف هذا النعيم عن الدنيا بأن الجنة خالدة .

[ خالدين فيها وعد الله حقا ]


و يدل على صدق وعد الله عزته و حكمته ، ذلك أن الذي يخلف الوعد اما يكون قاصرا عن تحقيقه و الوفاء به ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

[ و هو العزيز ]

القوي القادر .

و اما ان يكون عن جهل كأن يعد الانسان اخاه بشيء ما ثم يكتشف خطأه انه غير قادر على الوفاء فلا يفي بوعده ، و حاشا لله و هو ...

[ الحكيم ]

الذي يحيط علمه بكل شيء .

[10] و مـــن آيات عزة الله و حكمته الظاهرة الابداع و المتانة المتجليان في خلقه .

[ خلق السموات بغير عمد ترونها ]

و هذا مما يزيدنا ثقة بوعد الله سبحانه ، فهذه السماء الواسعة خلقها و رفعها كالسقف ، من دون عمد نراها ، و في الحديث :

" فثم عمد و لكن لا ترونها " (1)

و قال البعض : ان المقصود من العمد هو الجاذبية التي تثبت السماء و ما فيها بقدرة الله و حكمته .

و حينما ننظر الى الارض ، نلمس تجليات صفات الله و اسمائه الحسنى في بديع(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 195


خلقه فيها .

[ و ألقى في الأرض رواسي ]

و هي الجبال .

[ ان تميد بكم ]

لكي تحافظ على توازن الارض ، و تمنع عنها الحركات ، و سميت بالرواسي تشبيها لها بالمرساة ، التي تثبت السفينة في البحر . فالجبال التي تتصل ببعضها من تحت الارض يجعلها شبيهة بدرع صخري متين ، تمنع عن الارض الهزات الهائلة التي - كانت - لولا الجبال تحول الارض الى ارجوحة لا تتوقف ، و ذلك بفعل الغازات الكثيرة الموجودة في وسط الكرة الترابية ، و التي منها تأتي الزلازل و انفجار البراكين .

من جهة أخرى كانت جاذبية القمر تجعل الارض لولا الجبال كسطح البحار خاضعة لقانون المد و الجزر ، كما ان اعتدال الهواء منوط بوجود الجبال ، و لولاها لكان البرد القارص و الحر الشديد يجعل الحياة صعبة ، كما أن الرياح الشديدة كانت تلعب فوق الكرة كما في الفلوات الواسعة ، و تجعلها ميدان جولاتها الخطيرة .

على ان في الجبال منابع الماء ، و في داخلها مخازن حفظ المياه من مواسم المطر الى ايام الصيف ، و في بطونها معادن لمختلف الفلزات و الاحجار الكريمة و سائر ما يحتاج اليه البشر .

أوليس كل ذلك دليل قدرة الله ، و متين صنعه ، و حسن تقديره و تدبيره ؟!

[ و بث فيها من كل دابة ]


و نستوحي من الآية ان كل نوع ممكن و مناسب من الدواب قد خلقت ، فهناك الصغير و الكبير وما بينهما كثير من الاحجام ، و هناك الطائر و الماشي ، و الزاحف و الهائم فوق البحار و الغائص في اعماقها و هكذا ، مما جعل داروين يذهب الى نظريته في اصل الانواع و تسلسل نشوئها ، و الواقع ان انعدام الحلقات التي قيلت بانها مفقودة في المخلوقات و عظيم تشابهها و كثرة انواعها جعلت اصحاب نظرية التكامل يذهبون الى ما ذهبوا اليه ، و هذا دليل قدرة الله ، و عظيم تدبيره ، و قد سأل على بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه عن ابي الحسن الرضا (ع) قال : قلت له : لم خلق الله سبحانه و تعالى الخلق على أنواع شتى ، و لم يخلقهم نوعا واحدا ؟! فقال :

" لئلا يقع في الأوهام انه عاجز ولا يقع صورة في وهم ملحد إلا و قد خلق الله عز و جل عليها خلقا لئلا يقول قائل : هل يقدر الله عز و جل على ان يخلق صورة كذا و كذا ، لأنه لا يقول من ذلك شيئا إلا و هو موجود في خلقه تبارك و تعالى فيعلم بالنظر إلى أنواع خلقه انه على كل شيء قدير " (1)

فأجابه (ع) : انما فعل ذلك حتى لا يقول احد لو كان قادرا لكان يخلق كذا و كذا ، و من كانت هذه قدرته فلماذا يخلف وعده ؟ فليكن عندنا يقين بوعد الله ، حينما نستقيم في سبيله ، و هذا ما يدفعنا للاحسان و الانفاق من اجل الله .

و تستمر الآية في ذكر خلق الله فيقول :

[ و أنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ]و هكذا نجد الحياة يكمل بعضها البعض الآخر ، و تحتاج أجزاؤها لبعض ، و هذا(1) علل الشرائع / ج 1 - ص 14


من حكمة الله البالغة لعلمه بصلاح ذلك .

[11] ثم يتحدى الله الانداد .

[ هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ]

انهم لم يخلقوا حتى ذبابة وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ضعف الطالب و المطلوب .

[ بل الظالمون في ضلال مبين ]

و هل يشك احد في ضلال هذا الانسان الضعيف حينما يدعي الالوهية ؟!


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس