الاحسان تكامل و هداية
هدى من الآيات تدور الآيات في هذا الدرس حول موضوع الاحسان ، الذي يجب ان يكون صيغة العلاقة بين الانسان و الآخرين ، و لا ريب ان سعي البشر لبناء المستقبل الفاضل لنفسه طموح شريف ، اما اذا كان هذا السعي مبنيا على أساس الإستئثار و الأخذ من الآخرين فقط فهو أمر مرفوض ،اذ ينتهي بالمجتمع الى الصراع و الشقاء ، من هنا يحث القرآن الحكيم على علاقة متوازنة ، تعتمد ركيزتي الأخذ و العطاء ، التي لو انتهجهما المجتمع لتدرج نحو الكمال الحضاري لان العلاقة حينها ستكون البناء و التكامل بين افراد المجتمع ، و على عكس ذلك العلاقة المعتمدة على عبادة الذات و محورية المصلحة ، حيث تصل بالمجتمع الى حضيض التخلق و الإنهيار ، و يصبح الشغل الشاغل لكل فرد آنئذ هو افتراس الآخرين بأية وسيلة كانت ، و لا غرابة ان تؤكد هذه السورة المباركة على ضرورة العطاء ، و تبتدئ بعبارة " و رحمة للمحسنين " لان السبيل الى رحمة الله هو العمل برسالته ، و لا يتأتى ذلك الا بالاحسان و العطاء .
و لكي تحل علينا رحمة الرب لابد ان نحسن للأخرين فنأخذ منهم لنعطيهم ، و إلا فلن تكون الرحمة من نصيبنا و لا الهدى . لماذا ؟ و ماهي علاقة الاحسان بالهداية في حياة الانسان ؟
و الجواب : ان الذي يعيش حالة مناقضة للاحسان كابتزاز حقوق الآخرين ، انما يقوم بذلك لما يعيشه من حب مفرط للذات ، فلا يرى من هذا الكون الرحيب سوى نفسه ، فيعبد هواه ، و بالتالي يبتعد عن الحق ، و هكذا يكون مقياسه المصلحة لا القيم ، و هدفه الذات لا الحقو هذا يسبب كل انحراف . ان العقل و الرسالات الإلهية توجه الانسان الى حقائق الخليقة ، بينما توجهه شهواته و اهواؤه الى داخل ذاته ، و من هنا فان استمرار اتباع الهوى يطفئ شعلة العقل ، و هذا هو الضلال البعيد ، و من هنا يؤكد ربنا بأن المحسن هو الذي يصيب طريق الهدى في عالم المعنويات ، و الرحمة في عالم المادة ، و التي هي الأخرى نتيجة للهدى .
و لو تدبرنا آيات القرآن لوجدنا ان من أهم ميزات الانبياء الاحسان الى الناس ، بل و قد تكون العامل الهام في اصطفائهم للنبوة .
قال تعالى عن نبيه يوسف (ع) : " و لما بلغ اشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين " (1)و قال عن النبي موسى (ع) : " و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين " (2)و أكد ربنا هذا المعنى بصورة عامة اذ قال : " و لا تفسدوا في الارض بعد(1) يوسف / 22
(2) القصص / 28
اصلاحها و ادعوه خوفا و طمعا ان رحمة الله قريب من المحسنين " (1)و لعلنا نستوحي من آيات الذكر ان الذين يتخذون الدين وسيلة لابتزاز الآخرين و استغلالهم ، أو مطية للمصالح و الأهواء ، لا يفهمون الدين فهما حقيقيا و عميقا - لانه لا يفهمه الا من كان محسنا ، بعيدا عن شهواته و اهوائه - ، " و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين الا خسارا " (2)و بالرغم من أن الجميع يطمحون الى الاحسان ، الا انهم يجدون أيديهم و أنفسهم مقبوضــة عن العطاء حينما ينزلون الى ساحة العمل ، فكيف نخلق صفة الإحسان في أنفسنا ؟!
بالصلاة لانها تخلق في الانسان دوافع الاحسان ، و بالزكاة لإنها تطهر القلب من حب الذات كما تطهر المال ، و كذلك باليقين ، فكلما تأكدت الحقائق عند الانسان كاليقين بالموت و بما بعده من الجزاء كلما كان أكثر إحسانا للآخرين ، اذ يتأكد بان ما يعطيه لا يذهبسدى ، بل يعود اليه في صورة جنات أعدها الله للمتقين ، فهو آنئذ لا يعتبر المغنم ما يصرفه على نفسه ، بل المغنم كل المغنم هو ما ينفقه في سبيل الله .
و في السيرة ان رسول الله (ص) ذبح شاة و تصدق بها و لم يبق الا الكتف ، فقالت له عائشة : لم تبق الا الكتف يا رسول الله ! فقال (ص) لم يذهب الا الكتف ، لانه يعلم بان ما يأكلونه يتنعمون به و ينتهي ، بينما يبقى ما يعطونه صدقة في سبيل الله ، و ينفعهم في يوم لا ينفع فيه الا العمل الصالح .
(1) الاعراف / 56
(2) الاسراء / 82
و في نهاية الدرس يحدثنا القرآن الحكيم عن الطرف المقابل من الذين يتقصدون لهو الحديث ، لان الاشياء تعرف باضدادها ، و بينما يهتدي أولئك لآيات الله ، يصد هؤلاء عنها ، كأن في آذانهم وقرا ، و ليس جزاء هؤلاء سوى النار .
|