بينان من الآيات
لقمان الحكيم الالهي [12] لقد خلد الله لقمان في كتابه بالرغم من انه لم يكن نبيا ، فمن هو و كيف أضحى حكيما ؟
في الحديث الذي يرويه العلامة الطبرسي في تفسيره مجمع البيان عن نافع ، عن ابن عمر ، عن الرسول صلى الله عليه وآله نجد الجواب :
سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول :
" حقا اقول لم يكن لقمان نبيا ، و لكن كان عبدا كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، و من عليه بالحكمة ، كان نائما نصف النهار اذ جاءه نداء : يا لقمان ! هل لك ان يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس بالحق ؟
فأجاب الصوت : إن خيرني ربي قبلت العافية ، و لم اقبل البلاء ، و ان هو عزم علي فسمعا و طاعة ، فاني اعلم انه ان فعل بي ذلك اعانني و عصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لان الحكم أشد المنازل و اكدها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، ان وفىفبالحرى ان ينجو ، و ان أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريقا خير من أن يكون في الدنيا شريفا في الآخرة ذليلا ، و من تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ،فانتبه يتكلم بها ، ثم كان يوازر داود بحكمته ، فقال له داود : طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة ، و صرفت عنك البلوى " (1)و يبين لنا الامام الصادق عليه السلام تفاصيل أخرى عن حياة لقمان ، و السبب الذي جعل به حكيما نثبت منه بعض النقاط العامة .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) :
" اما و الله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ، ولا مال ، و لا أهل ، ولا بسط في جسم ، و لا جمال ، و لكنه كان رجلا قويا في أمر الله ، متورعا في الله ، ساكتا ، مستكينا ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغن بالعبر ، لم ينم نهارا قط ، و لم يرهاحد من الناس على بول و لا غائط و لا اغتسال لشدة تستره ، و عموق نظره ، و تحفظه في أمره ، و لم يضحك من شيء قط مخافة الإثم ، و لم يغضب قط ، و لم يمازح انسانا قط ، ولم يفرح بشيء آتاه من أمر الدنيا ، و لا حزن منها على شيء قط ، و قد نكح من النساء و ولد لهمن الاولاد الكثير ، و قدم أكثرهم إفراطا (2) فما بكى على موت أحد منهم ، ولم يمر برجلين يختصمان او يقتتلان الا اصلح(1) نور الثقلين / ج4 - ص 196
(2) من افرط فلان ولدا ، اي مات له ولد صغير قبل ان يبلغ .
بينهما ، و لم يمض عنهما حتى تحابا ، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه الا سال عن تفسيره و عمن أخذه ، و كان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء ، و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين فيرثى للقضاة مما ابتلوا به ، و يرحم الملوك و السلاطين لغرتهم بالله و طمأنينتهم في ذلك ، و يعتبر و يتعلم ما يغلب به نفسه ، و يجاهد هواه و يحترز به من الشيطان ، و كان يداوي قلبه بالفكر ، و يــداوي نفسه بالعبر ، و كان لا يظعن الا فيما يعنيه ، فبذلك أوتي الحكمة و منح العصمة " (1)الاحسان الى الناس ظاهرة تنبع من الشكر لله سبحانه ، ذلك انه يعني الرضا النفسي و العملي ، الذي ينعكس على السلوك في صورة عطاء و تضحية و جهاد ، مقابلة لجميل نعم الله ، و احساسا بالمسؤولية تجاهها . و لكل نعمة شكر يختص بها ، تبعا لمعطياتها ، فشكر نعمة العلم نشره و هداية الناس به .
" زكاة العلم نشره " (2)
و شكر الجاه بذله للمحتاجين :
" زكاة المال بذله "
بينما شكر نعمة القوة السعي لتحقيق الأهداف السامية كاقامة حكم الله في الارض من خلال الجهاد الشامل .
[ و لقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ]
و بذل الانسان للنعمة في مجالها الذي حدده الله هو الشكر ، و سنن الله في الحياة(1) المصدر / ص 196 - 197
(2) بحار الانوار / ج 78 - ص 247
- التشريعية منها و التكوينية - تقتضي بذلك نماء النعمة ، فمن حكمة الله ان تسقي السماء الارض ذات الزرع أكثر من الجرداء ، و ان من يستخدم عضلاته أكثر هو الذي تنمو العضلات لديه بينما تضمر عند الخامل ، و ان من يقرأ اكثر ينمو عقله و فكره ، و الذي لا يستفيدمن النعم أو يستخدمها في غير مجالاتها المحددة لا تنمو لديه و تكون مضرة له ، كما لو بذل العلم للتباهي أو المال في اللهو و اللعب .
[ و من يشكر فإنما يشكر لنفسه ]
لان المحتاج للشكر هو الانسان لا الله المتعالي عن الحاجة ، و الشكر هنا يشمل ايضا الناس ، لكن ضمن هدف محدد هو ان يكون ذلك من اجل الله وحده و طلبا لمرضاته و ذلك كله يعود على الانسان نفسه ، بما يسببه الشكر من انماء النعمة " و لئن شكرتم لأزيدنكم " . (1)
[و من كفر فإن الله غني حميد ]
و ليس غنى الله كغنى الناس ، لان الآخر غالبا ما يتأسس على النهب و الاستغلال ، أو يصرف في سحق الآخرين و ابتزازهم حقوقهم - و هو غيري - بينما غنى الله ذاتي يتفضل به على الآخرين خيرا و نعمة ، و هذا هو الغنى المحمود .
[13] ثم تتعرض الآيات لبعض وصايا لقمان (ع) لابنه ، و التي تشكل أبعاد الحكمة ، و مفردات الشكر لله .
و أول ما يفتتح وصاياه يبين له العلاقة الفاضلة التي يجب ان ينتهجها مع الآخرين و التي تقوم على مبدا التوحيد ، فيحذره من الشرك ، فالخضوع المطلق لا(1) ابراهيم / 7
ينبغي إلا لله سبحانه ، أما البشر فيتقبل توجيهاتهم الصائبة ، و لكن بشرط المحافظة على استقلاليته تجاههم بالتوحيد .
اذن فالتوحيد هو الجوهر الذي يجب على الانسان اعتماده في كل سلوك فردي أو اجتماعــــي و هذا ما دعى اليه كل الانبياء ، و لعل هذا التأكيد على موضوع الشرك في القــــرآن يرجع الــى عامل مهم و هو ان مشكلة الانسان في غالب الاحيان ليس الكفر المحض ، فهو يؤمنباله لهذا الكون ، انما مشكلته هي الشرك بالله .
[ وإذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ]ما هو ذا الظلم العظيم الذي يفرزه الشرك بالله ؟
ان هناك جوانب خفية ، و أخرى ظاهرة لهذا الظلم .
حقا ان ضياع الانسان عن ربه الكريم الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة ، و هبوطه الى حضيض عبادة الأشياء الضعيفة العاجزة التي لا تنفع ولا تضر إنه لظلم عظيم .
ما الذي نجده لو فقدنا رب العزة و هو الرحيم الودود الذي أحاطنا باحسانه ، و دعانا الى نفسه ، و وعدنا المزيد من عطائه ؟!
من هو أشد فقرا وفاقة و مسكنة منا حين نضل عن السبيل الوحيد للهدى و الفلاح و الغنى و العز و الكرامة ؟!
من أكثر عجزا و ذلا و هوانا منا لو خرجنا من حصن الرب الى مسبعة ذئاب القدرة ، و حقل الغام الثروة ، حيث المستكبرين في الارض بغير الحق ..
الله اكبر .
ما أخسر من ترك متجر ربه و توجه تلقاء غرور الشيطان ، و رام عن ربه بدلا .
ان علينا ان نتأمل كثيرا لنعرف هول الإبتعاد عن الله ، و أخطار الشرك به في عمق ذواتنا ، و في آفاق حياتنا الشخصية .
لكن هذا الظلم العظيم قد يخفى على من لم يتأمل فيه . بيد ان هناك ظلما عظيما ظاهــرا يتجلى للناس جميعا ، و يتمثل في عاقبة النظام المشرك السائد على الانسانية جمعاء ، هذا النظام العالمي الذي انساقت اليه البشرية حين خرجت عن حصن التوحيد و عبدت رجال الثروة و القوة و الضلالة .
لا يسع تفسيرنا الموجز لسرد تفاصيل هذا الظلم و لكن لا يسعنا ايضا ان نمر عن هــذه الآية الكريمة دون ان نلقي نظرة خاطفة على الحياة من خلالها و عبر بصيرتها النافذة .
و لنتخذ مثلا واحدا من بين الحقائق الأشد ظهورا في حياة الخاضعين للشرك ، و نرى اي ظلم عظيم هم فيه .
يقول شاهد من أهل عصرنا ما يلي :
* لو حاولنا اتلاف الاموال التي دفعت للاغراض العسكرية في سنة (1986 م ) بمعدل دولار واحد في كل ثانية لاحتجنا الى (36000) سنة .
* بتعبير آخر فان معدل ما يصرفه العالم على السلاح في الدقيقة الواحدة هو (2) مليون دولار في الوقت الذي يعيش فيه ملياري انسان في العالم في حالة فقر ، و خمس مائة مليون منهم يعانون من سوء التغذية بشدة .
* لقد وصف السكرتير السابق للامم المتحدة " يوثانت " المدفوعات العسكرية للعالم انها تضييع مفرط للثروات .
* ان قيمة غواصة نووية واحدة تزيد كثيرا عن ميزانية التعليم السنوية لاكثر من اثنى عشر دولة نامية ، ان العالم يدفع للتسلح أكثر مما يدفع للتعليم سنويا .
* روسيا ، الولايات المتحدة الامريكية ، الصين ، برطانيا و السعودية هي الدول الاكثر دفعا في المجال العسكري .
* من الملفت للنظر ان كثيرا من الدول النامية قد زادت من مدفوعاتها على التسلح و ذلك بتخصيص مبالغ كبيرة من الناتج الوطني .
* ان الدول المديونة لازالت تخصص أموالا للسلاح اكثر مما تخصص لبناء المدارس ، و يكفيك ان (800) مليون نسمة في العالم لا يقرأون و لا يكتبون ( أميون ) ,* انه من الاحسن ان يدفع بذلك المال ، و بتلك الطاقة البشرية ، و بتلك الخامات الى بناء السدود و القضاء على البطالة ، و تحسين الأحوال المعيشية للبشر ، و بناء المساكن ، و اقامة السدود و المصانع ، و بناء المدارس ، و تخزين الحبوب بدلا من ان تدفع تلك الامور في صنع الدبابات و الطائرات القاذفة للقنابل و الصواريخ .
* ان العالم ينظر الى امتلاك السلاح على انه حافظ للسلام أو مثبط عن اشعال الحرب .
* لكل دولة قصتها التي يمكن ان تحكى ، فمثلا اثيوبيا من الدول التي تعاني من المجاعة ، و معدل دخل الفرد فيها (110) دولار سنويا و بها طبيب لكل(69000) شخص ، و عشرين في المائة من اطفالها يموتون قبل بلوغ الخامسة في حين ان ربع الميزانية الحكومية يصرف على الدفاع ، و بعض المتخصصين يقولون : ان مدفوعات اثيوبيا على الدفاع تبلغ نصف ميزانية الدولة ، و الروس باعوا لاثيوبيا بثلاثة مليارات دولار ليس الغذاء و انما السلاح .
اثيوبيا تستخدم ما يقــــارب ( 250000) جندي لا لخدمة الجائعين و نقل الغذاء لهم ، وانما لمحاربة بعض الحركات الفدائية .
و نفس القصة يمكن ان تروي عن الدول الأخرى في العالم الثالث :
* مستوى المدفوعات العسكرية السنوية يقدر بـ ( تريليون ) دولار ، و من العجيب ان كثيرا من الاسلحة قد استخدم ، حيث ان ( 100) مليون نسمة قد قتلوا في القرن العشرين .
و أكثر من ( 100 ) حرب قد وقعت بعد الحرب العالمية الثانية ، و ان (7) ملايين نسمة قد قتلوا في حروب و حرب اهلية خلال الخمسة عشر سنة الماضية .
* و انت تقرأ هذه المقالة ، فان هناك (30) الى (40) شعب يستخدمون السلاح في حروب أهلية ، أو حروب حدودية ، أو نزاعات دينية ، أو اسباب أخرى ، ان واحدا من بين كل ثلاثة من سكان العالم ( 5 مليار نسمة ) داخل في نزاع مسلح .
* ان هذه الفترة هي أخطر فترة تمر على الانسان خلال ( 6000 ) سنة .
(1) رشاش ( 600 ) دولار = 82 مسحاة (8) دولار .
(1) دبابة ( 2800000 ) دولار = 6222 بقرة ( 450 ) دولار .
(1) طائرة ( 27000000 ) دولار = 1350 تراكتور (78) حصان ( 20000 ) دولار .
(1) غواصة ( 2000000000 ) دولار = 25000 بيت ( 80000 ) دولار . (1)[14] ثم يوصي الله بالوالدين خيرا ، حفاظا على نعمة الحنان و العطف من قبلهما للإبن ، وشكرا لهما على جهد هما تجاهه ، فاذا كان الأكل و الشرب غذاء الجسد ، فان الحنان و العطف أفضل غذاء للروح ، و لنمو النفس نموا فاضلا متكاملا ، و الذي يسبب استمرارهما هوالشكر للوالدين ، و بقاء العلاقة معهما ، و لا يعني هذا من قريب و لا بعيد ان لا يشكـــر الانسان ربه ، بل يجب ان يقدم شكره لله على شكرهما ، لأنه مصدر كل نعمة ، و انما الآخرون وسيلتها اليه .
[و وصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ]و يخصص الله الام اكثر من الاب ، لانها هي التي تتحمل اعباء الوليد منذ اللحظة التي تنعقد فيها نطفته ، اضف الى ذلك ان المرأة و هي المخلوق الضعيف حين تحمل في بطنها وليدا الـــــى مدة تتراوح بين الستة الى التسعة أشهر أليس يزيدها ضعفا على ضعفها ؟! و لذلك ورد الأثر المروي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه جاء اليه رجل فقـال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : " أمك " قال ثم من ؟ قال : أمك " ، قال : ثم من ؟ قال : امك ، قال ثم من ؟ قال " اباك " (2)[ و فصاله في عامين ]
(1) ترجمة مجلة الحقيقة الواضحة العدد (3) المجلد (52) التاريخ مارس /1987 وطبع منه (7140000) .
(2) نور الثقلين / ج 4 - ص 200
و بعد الولادة تستمر رضاعتها له عامين - كحالة طبيعية - يمتص فيهما من طاقة أمه و قدراتها غذاؤه ، كما تسقيه من عطفها و تربيتها الكثير .
[ أن اشكرلي و لوالديك إلي المصير ]
و اذا كان شكر نعمة الوالدين هو الوفاء بحقيهما ، فان شكر الله هو ان يفي الانسان بحقوق الوالدين في اطار أوامر الله ، و تعاليم دينه ، فالشكر للوالدين واجب شرعي على الولد ، و لكن بشرط ان لا يفقد استقلاله تجاههما لان ذلك يخالف روح التوحيد .
ان توحيد الله يقتضي معرفة انه سبحانه صاحب كل نعمة عليه ، فيحمده عليه ، جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام قال :
" أوحـــــى الله عز و جل الى موسى : يا موسى ! اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب و كيف أشكرك حق شكرك و ليس من شكر أشكرك به إلا و أنت أنعمت به علي ، قال : يا موسى ! الآن شكرتني حين علمت ان ذلك مني " (1)اما اذا شكر الفرد ربه و لم يشكر والديه فقد خالف تعاليم دينه ، و بالتالي خرج عن اطار توحيد الله ايضا ، و هكذا ورد الحديث المروي عن الامام الرضا (ع) :
" و أمر الله بالشكر له و للوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله تعالى " (2)و هكذا كل منعم من الناس من ترك حقه من الشرك فقد ترك شكر الله أيضا ،(1) المصدر / ص 201
(2) المصدر
كذلك جاء في الحديث المأثور عن الامام الرضا ( عليه السلام ) :
" من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل " (1)[15] صحيح ان الوالدين هما القناة التي تنتقل عبرها المكاسب المادية ، و الخبرات الحضارية للانسان ، و لكن لا يصح ان يستقبل الانسان كلما تحمله هذه القناة اليه من غث و سمين ، لأنها كما تحمل ايجابيات الحضارة التاريخية أو القائمة ، تنقل اليه أيضا السلبيات ، لذلك يؤكد الرب :
[ و إن جاهداك على ان تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما ]اذن على الانسان ان يكون ذكيا ، يستفيد من المكاسب و المغانم الحضارية القادمة اليه عبر والديه من التاريخ أو المجتمع ، و يترك السلبيات لانهما - على فطرتهما - يغذيان الطفل بشتى الافكار الواقعية و الخرافية ، الايجابية و السلبية ، دونما تمييز على الاغلب ، و هما بذلك يحاولان فرضها على ولدهما ، و هنا تقع على الفرد نفسه مسؤولية مقاومة الضغط و لكن بمعروف .
[ و صاحبهما في الدنيا معروفا ]
يقول الرسول (ص) :
" كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يكون أبواه يهودانه و ينصرانه " (2)فاذا ما قاوم الابن الافكار الخاطئة استطاع النمو على الفطرة ، لانه بذلك يبعدها(1) المصدر
(2) بحار الانوار / ج 3 - ص 281
عما يدنسها من الأفكار الخاطئة ، و التوجيهات السقيمة ، و ذلك لا يعني بالضرورة التعدي على الأبوين ، فقد جاء في الحديث :
" ثلاثة لا يدخلون الجنة : قاطع رحم ، و عاق لوالديه ، و شيخ زان " .
و هنا تستوقفني مسألة و هي : اني لا أعلم من اين استخرج البعض انه تجب طاعة الوالدين طاعة مطلقة ، بينما تخالف النصوص الاسلامية صراحة ذلك ، فهي تأمر بالشكر و الاحسان لهما ، أما الطاعة فهي لله ، و لمن امر الله بطاعته ، و ولاية الوالدين التي تشيرلها بعضالنصوص لا تكون الا ضمن الحدود الشرعية .
من هنا نقرأ في كتاب مصباح الشريعة : ان الامام الصادق (ع) قال :
بر الوالدين من حسن معرفة العبد بالله ، اذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضا الله تعالى من حرمة الوالدين المسلمين لوجه الله ، لان حق الوالدين مشتق من حق الله تعالى ، إذا كانا على منهاج الدين و السنة ، و لا يكونان يمنعان الولد من طاعة الله الى معصيته ، و من اليقين الى الشك ، و من الزهد الى الدنيا ، و لا يدعوانه الى خلاف ذلك ، فاذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة ، و طاعتهما معصية " (1)و لكن السؤال هو : اذا ما ترك الانسان والديه عند شركهما فالى من يتجه ؟ يجيب السياق عن ذلك :
[ و اتبع سبيل من أناب إلي ]
و هم الاولياء و من يسير في خطهم من أبناء المجتمع ، حيث يجب على الانسان البحث عنهم في المجتمع ، ليتبع سبيلهم ، و ينظم الى تجمعهم الرسالي ، لان(1) نور الثقلين / ج 4 ص 202 -203
الوالدين حينما لا تكون طاعتهما طاعة لله ، و يترك الإبن الانصياع لهما ، فانه سيجد من هو أكثر عطفا و حنانا عليه منهما في الله ، أولم يترك مصعب ابن عمر أبويه ؟ فوجد من عـــوضه عنهما بأفضل صوره ، أولم يترك فلان و فلان اباءهم ؟ و لكن الى اين وفقهم الله ؟
لقد وفقهم الى احضان الاسلام ، حيث تربوا على يدي الرسول (ص) و بين ظهراني المؤمنين ، و أخيرا كان الرجوع الى ربهم الودود .
[ ثم إلي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون ]
بلى . قد يخسر الانسان بعض المكاسب الدنيوية - مادية و معنوية - و لكن الله سوف يعوضه عن ذلك في الآخرة .
[16] و هناك حقيقة هي ان عمل الخير لابد وان يعود لمن عمله - مهما كان صغيرا أو كبيرا ، معلنا او خفيا ، سواء كان جزاؤه في الدنيا أو الآخرة - و الله لا يظهر العمل الصالح و حسب ، بل يجازي عليه مهما قل و صغر .
[ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ]
و هي حبة صغيرة ليس لوزنها اعتبار لدى الناس .
[ فتكــن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ]فبلطفه قرب من الاشياء ، و بخبرته أحاط بها علما و معرفة ، ومن الحري بنا ان نهتم بأعمالنا لانها تحت عين الله ، و لا نحقر ذنبا أو نستهين بواجب ، فقد جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) :
" اتقوا المحقرات من الذنوب ، فإن لها طالبا . لا يقولن أحدكم : اذنب و استغفر الله . ان الله تعالى يقول : ان تك مثقال حبة من خردل .. " (1)[17] [ يا بني أقم الصلاة ]
لأنها زكاة الأعمال ، اذا كانت بشروطها ، كما يقول الحديث ، فهي حينذاك تشبه النهر لو اغتسل منه الانسان في اليوم الواحد خمس مرات لا يبقى عليه من الدرن شيء ، و إذا أراد الانسان تنمية معرفته بالله و ايمانه به ، فما عليه الا ان يسبغ الوضوء ، و يصلي خاشعا لله ، لذلك قال الرسول (ص) :
و قرة عيني في الصلاة " (2)
و قال الامام علي (ع) :
" الصلاة قربان كل تقي " (3)
و كما ان للصلاة جانبا عباديا روحيا ، فإن لها جانبا آخر لا تكتمل الا به و هو الجانب الاجتماعي الذي يتمثل في الشهادة على الواقع القائم .
[ وأمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما اصابك ]و اقامة الصلاة كما الامر بالمعروف و النهي عن المنكر ، كل ذلك يحتاج الى الصبر على ما يصيبه في هذا الطريق ، فان الجنة حفت بالمكاره ، كما حفت النار بالشهوات .
(1) المصدر / ص 204
(2) الخصال / ص 165
(3) نهج البلاغة / ص 494
و لكن ترك هذه الواجبات تؤدي الى عواقب وخيمة ، لا تقاس اخطارها العظيمة ببعض الصعوبة التي تكتنف العمل بها . قال الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولى عليكم اشراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (1)[ إن ذلك من عزم الأمور ]
التي يضبط بها الانسان الحياة الشخصية و الاجتماعية معا . و يحتمل ان يكون معنى " عزم الأمور " الأمور التي تحتاج الى عزيمة راسخة ، و ارادة قوية ، و هي مما عزم الله و فرضه علينا ، و يبدو ان كلمة " ذلك " تشير الى كل الأوامر التي سبقت .
[18] الشكر لله يعني الإعتراف بان ما لدى الانسان من حول و قوة فمن الله ، فبماذا يفتخر ؟! و لماذا يتحدى الناس و يتعالى عليهم ؟!
[ و لا تصعر خدك للناس ]
تحديا بهدف إثارة العداوة و البغضاء ، لأن الميل بالخد مثال للتحدي و الاستعلاء على الآخرين ، و ذلك مما يزيد الأعداء ، بينما ينبغي للانسان السعي لكسب العدد الأكبر من الأصدقاء .
[ و لا تمش في الأرض مرحا ]
متفاخرا .
فقد روى عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) :
(1) نور الثقلين / ص 422
من مشى على الارض اختيالا لعنه الارض ومن تحتها ومن فوقها " (1)و نهى ان يختال الرجل في مشيته و قال :
" من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به في سعير جهنم ، و كان قرين قارون ، لأنــه أول من اختال فخسف الله به و بداره الأرض ، و من اختال فقد نازع الله في جبروته " (2)[ إن الله لا يحب كل مختال فخور ]
يختال بنفسه و يفتخر بماله ، و ذلك نوع من الشرك ، و في الحديث القدسي عن الله عز و جل :
" العظمة ردائي ، و الكبرياء إزاري فمن نازعني فيهما قصمته "[19] [ و اقصد في مشيك ]
و كلمة القصد هنا تعني تحديد الهدف ، و لا يصح من العاقل ان يمشي بلا هدف ، كما تعني الاقتصاد أيضا ، و لا شك ان من يمشي على بصيرة و لهدف معين لن يحتاج الى صرف المزيد من الطاقات التي لا داعي لها ، فلو افترضنا ان سيارة تحركت باتجاه معلوم فان مقدار الوقود الذي ستصرفه سيكون اقتصاديا متناسبا مع الهدف ، اما لو تحركت سيارة أخرى تريد هدفا غير محدد أو من دون هدف فستبقى تحرق الوقود من غير نهاية ، و ليس ثمة شك في ان حركة الانسان دليل على نفسيته .
[ و اغضض من صوتك ]
(1) المصدر / ص 207
(2) المصدر
لان الهدوء دليل العقل بينما الصراخ خلافه ، و الكثير انما يعلي صوته و يكثر من الدعايات ليصنع الظروف التي تجبر الناس بشكل من الأشكال على تقبل أفكاره ، و الصحيح ان يقبل الآخرون الافكار لمحتواها لا لوسائلها ، اذن فلا داعي للصراخ ، و انما يحتاج الى الصراخ صاحب الفكرة الخاطئة ، ليعوض الفراغ في المحتوى .
[ إن أنكر الاصوات لصوت الحمير ]
لأنه يزيد الآخرين نفورا من صاحبه .
و جاء في السنة عن الامام الصادق عليه السلام قال ( في تفسير هذه الآية ) :
" و هي المرتفعة القبيحة ، و الرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن " (1)(1) المصدر / ص 208
|