فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[28] و يمضي السياق قدما في تذكرة المؤمنين بأسماء ربهم و إتمام الحجة على الناس جميعا ، و يبين لهم جانبا من قدرة الله ، بعد ان صور لهم جانبا من عزتهو حكمته ، و ذلك ببلاغة نافذة ، أرأيت كيف هدانا الى عظيم عزته بأن كلماته لا تحصى ؟ هكذا يهدينا الى قدرته و لطف تدبيره بأنه يخلق الناس جميعا كما لو يخلق نفسا واحدة ، ثم يبعثهم كما لو يبعث نفسا واحدة . أرأيت كيف يقرب الينا حقيقة قدرته و لطفه و احاطته بالاشياء خبرا !

[ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ]

ثم يذكرنا بضرورة خشيته و يقول :

[ إن الله سميع بصير ]

يسمع ما نقوله ، و يرى ما نصنعه ، و هذا يدعونا الى تحمل مسؤولية كلامنا و أعمالنا .

[29] ان الله جعل الشمس و الارض في حركة دائمة ، من خلالها يحدث الليل و النهار و تتغير الفصول .

[ الم تر أن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل ]و التعبير القرآني " يولج " دقيق جدا من الناحية العلمية ، اذ يشير الى الحركة الفصلية على مدار السنة ، فاذا ولج الليل في النهار - دخل فيه و أخذ منه - حتى اذا تعادلا صار الربيع ، و هكذا يستمر دخوله في النهار حتى يصير اطول منه فيحيل الفصل شتاءا ، ثم يمتد النهار شيئا فشيئا - يلج في الليل و ينتقص منه - الى ان يصير اطول منه فيكون الفصل صيفا .

و كما أن للانسان و سائر المخلوقات اجلا مسمى ، فان للشمس و القمر اجلا مسمى ، مما يدل على ان الشمس و القمر لم يكونا شيئا في يوم من الايام - تماماكالانسان - و هذا يهدينا الى انهما يجريان الى نقطة الصفر في النهاية ، و الى وجود خطة و تدبير لهما من قبل الله عز و جل .

[ و سخر الشمس و القمر كل يجري الى أجل مسمى ]

عند الله ، و قد ثبت في العلم الحديث ان الشمس و القمر و سائر الكواكب و النجوم الاخرى في طريقها الى الإنتهاء .

[ و أن الله بما تعملون خبير ]

[30] ماذا ترى حولك في الخلق ، أولست ترى سماء مبنية بغير عمد ، محبوكة من دو ن اي فطور ، و ارضا مدحية ، و الليل و النهار يختلفان عليها ، و كل شيء فيها بمقدار ، فالى ما تهديك كل تلك الحقائق ؟ أوليس الى رب مقتدر دائم الملك ، دائم القدرة ، لا يحد علمهشيء ، و لا يبلي سلطانه الزمن ، و لا يزيل عزته تنافس ، ولا يمتنع عن قهره أحد - سبحانه - ذلك هو الله الحق ، الثابت بلا تغيير ، الدائم بلا زوال ، المعطي بلا نفاد ، القاهر بلا نصب .

[ ذلك بأن الله هو الحق ]

اما الآلهة التي تعبد من دون الله فهي الزائلة . أرايت كيف تغيب الشمس ، و يأفل القمر ، و ينفجر النجم ، أو ما تبصر اختلاف الليل و النهار و كيف يبليان كل جديد ، و يقضيان على كل سلطان ؟! فمن أراد ان يتمسك بالعروة الوثقى ، و يعتمد على السند القوي ، و يدخل في حصن منيع فعليه بتوحيد الله الحق .

[ و أن ما يدعون من دونه الباطل ]

الذي لا ثبات له و لا استمرار .


[ و ان الله هو العلي ]

الذي تعالى عن صفات المخلوقين ، فلا زوال ولا اضمحلال ، و لا نفاد ولا تحديد ، ولا نقص ولا عجز ، ولا سنة و لا نوم سبحانه .

[ الكبير ]

قدرته واسعة ، و علمه محيط ، و رحمته شاملة ، و منه قديم ، و فضله عميم ، و آياته في كل أفق ، و شهادته أكبر شهادة . فلا شيء في الحياة الا بتدبير منه سبحانه .

و هناك علاقة بين دعوة الله لنا في اول الآيات الى النظر في الكون ، و دعوته لنا في آخرها الى النظر في سلوكنا ، عندما يخبرنا بأنه محاط بعلم الله ، و تحت سمعه و بصره ، و تتلخص هذه العلاقة في ضرورة انعكاس نظرتنا الى الكون على سلوكنا في الحياة ، كما تسوقنا الآية الى حقيقة التوحيد في هذا الكون ، إذ تهدينا الى أن الرب الذي يولج الليل في النهار ، و الذي سخر الشمس و القمر هو الذي يدبر الانسان و يرعاه ، فيعلم ما يعمل ، و يحاسبه و يجازيه عليه .

[31] [ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ]الفلك هي السفن التي كانت تحركها الرياح ، و ذلك بنعمة الله و رحمته ، اذ بعث هذه الرياح و اجرى السفن التي عبرها جعلت الرياح في خدمة الانسان .

وبما أن الهدف الاسمى من نعم الله على الانسان تكامل روحه و معنوياته ، فقد قال الرب :

[ ليريكم من ءاياته ]


ان البحار تحتضن عجائب خلق الله من خلية اسفنجية متواضعة الحجم و التطور ، الى الحيتان الضخمة التي تبلغ عين الواحد منها وزن فيل و هو اعظم حيوان بري .

الايمان صبر و شكر :

جاء في الحديث :

" الايمان نصفان ، نصف صبر و نصف شكر " (1)و الـــواقع ، ان الشكر و الصبر يشعان من مشكاة واحدة هي التسليم لله و لقضائه ، و الايمان بانه الواهب المتفضل المنان ، بيد ان الشكر هو تجل لهذه الحالة عند النعمـــة ، و الصبر تجل لها عند النقمة ، لذلك جاء في الحديث عن الامام الباقر عليه السلام :


" العبـــد بيـن ثلاثة : بلاء و قضاء و نعمة ، فعليه في البلاء من الله الصبر فريضة ، و عليه في القضاء من الله التسليم فريضة ، و عليه في النعمة من الله عز و جل الشكر فريضة " (2)و لعل أعظم ما في الشكر هو تنمية روح الرضا في النفس بعيدا عن الغرور و الفخر و الكبرياء ، و النفس الراضية تستدر ثواب الله ، و تسعد في الدنيا .

يروي الامام الصادق ( عليه السلام ) عن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) :

" الطاعم الشاكر له من الأجر مثل أجر الصائم المحتسب ، و المعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر ، و الغني الشاكر له من الأجر كأجر المحروم(1) المصدر / ص 217 نقلا عن مجمع البيان ، و لم ينسب الحديث الى احد و الظاهر انه عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) .

(2) موسوعة بحار الانوار / ج 71 - ص 43


القانع " (1)

و لعل الحكمة في ذلك ان الشكر يزيد في الايمان بالله ، و بانه المتفضل المنان ، و يمنع عن صاحبه الغرور ، و يدفعه نحو الإلتزام بواجبات النعمة .

هذا عن ثواب الله أما عن سعادة القلب فان اعظم ما في النعم تحقيق طموحات النفس ، أما لذة الجسد فانها تتلاشى بسرعة و هي لا تمنح البشر سعادة . أرأيت لو حكم بالإعدام على شخص ثم أوتي أفضل انواع الطعام ، و هيئت له اللذة الجنسية مع اجمل بنات العالم ، فهل يهنئ بذلك ؟! كلا ..

كذلك لو كان القلق النفسي يؤرق الفرد لا يهنئ بلذة جسدية مهما كانت عارمة و متنوعة ، ذلك ان المهم هو سعادة القلب و رضاه .

فمن كان ينتظر مليون دولار ربحا اذا حصل على نصف مليون تراه آسفا ، أما اذا لم ينتظر شخص ربحا فربح نصف دولار فانه يعيش الفرح ، كذلك لو تمنى شخص الرئاسة في بلد فقدر له منصب نائب الرئيس لم يتحسس بالسعادة بقدر من لم يطمع في منصب صغير فحصل عليه .

و هكذا الشاكر لأنعم الله يتحسس بالنعم ، و يعرف أنه لم يكن يستحقها إلا بفضل الله ، فهو كمن لا ينتظر اي مكسب بل ينتظر خسارة فيأتيه الربح ، كأنك تراه يسعد به أنى كان ضئيلا .

دعنا نقرأ حديثين يؤكدان هذه الفكرة الهامة التي أعتبرها مفتاحا هاما للإحساس بالسعادة دائما .


(1) المصدر / ص 41


يقول محمد بن خلاد : سمعت أبا الحسن صلوات الله عليه يقول :

" من حمد الله على النعمة فقد شكره ، و كان الحمد أفضل من تلك النعمة " (1)و يقول مالك بن اعين الجهني : اوصى علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعض ولده فقال :

" يا بني ! اشكر الله لمن أنعم عليك ، و أنعم على من شكرك ، فانه لا زوال للنعمة إذا شكرت ، ولا بقاء لها اذا كفرت و الشاكر بشكره أسعد منه بالنعمة التي وجب عليه الشكر بها ، و قرأ علي بن الحسين : و اذ تأذن ربكم لأن شكرتم لأزيدنكم " (2)و يكفي المؤمن دافعا الى الشكر انه ينظر الى البلاء ينزل على الناس وهو معافى عنه ، و يقول في نفسه : ماذا لو قدر الله علي هذا البلاء ، فيتلألأ قلبه نورا و شكرا .

هكذا اجاب الأمام أمير المؤمنين رجلا سأله : بماذا شكرت نعماء ربك ؟ فقال :

" نظرت الى بلاء قد صرفه عني ، و أبلى به غيري ، فعلمت أنه قد أنعم علي فشكرته " (3)و كلما رأى المؤمن مبتلى ازداد لربه شكرا على انه لا يزال معافى .

هكذا علمنا ديننا أن نشكر الله حين نرى مبتلى ، و هكذا يقول إمامنا الباقر عليه(1) المصدر / ص 31

(2) المصدر / ص 50

(3) المصدر / ص 43


السلام :

تقول ثلاث مرات اذا نظرت الى المبتلى من غير ان تسمعه ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، ولو شاء فعل ، قال : من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبدا " (1)و الشكر يقي النفس من الإنزلاق في مهوى الفخر و الغرور ، لأنه يوحي الى النفس ان النعمة ليست ذاتية له بل هي اضافة خارجية ذات عوامل خاصة لابد من المحافظة عليها حتى تستمر ، فالغرور يضحى تواضعا ، و الفخر سعيا ، و الكسل اجتهادا ، وكل ذلك مما يحفظ النعم ويزيدها .

جاء في الحديث : قال الامام الصادق عليه السلام :

" مـــا أنعم الله على عبد نعمة ، فعرفها بقلبه ، و حمد الله ظاهرا بلسانه فتم كلامه ، حتى يؤمر له بالمزيد " (2)بينما عدم الشكر يورط أصحاب النعم في الجوانب السلبية لها ، بل تتحول النعمة عندهم الى وبال و نقمة .

أرأيت كيف بادت حضارات كانت سائدة . لماذا ؟ لأنها لم تشكر ربها ، بل غرقت في بحر الغرور و التجبر ، و بالتالي عاثت فسادا في الارض فكبت بها أخطاؤها ، و دمرت تدميرا .

من هنا جاء في الحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال :


(1) المصدر / ص 43

(2) المصدر / ص 40


" ان الله أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا ، و ابتلى قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة " (1)و من أبرز أخطار ترك الشكر أنه ليس فقط يسبب في زوال النعم ، بل و يتحول الى وبال يمنع عودة النعم عادة . مثلا : إذا أنعم الله على عبد فأصبح قائدا ، و أبطره المنصب فأقيل منه لا يعود اليه هذا المنصب بسهولة ، لأن الناس يرفضونه بسبب تجربته الفاشلة في الحكم ، كذلك ينبغي التشبث بالنعم عبر الشكر حتى لا تزول ثم لا تعود أبدا .

قال الامام الصادق عليه السلام حسبما جاء في رواية زيد الشحام :

" أحسنوا جوار النعم ، و احذورا أن ينتقل عنكم إلى غيركم ، أما إنها لم ينتقل عن احد قط فكادت ان ترجع اليه و أضاف عليه السلام قائلا : و كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : قل ما أدبر شيء فأقبل " (2)و الذين يشكرون النعم يعرفون أنها قد تكون البداية لسلسة متكاملة من فضل الله ، و هكذا يستدرجونها لأنفسهم بشكرها ، بينما غيرهم يبطرون بها فلا تستكمل النعم عندهم ، فمن حصل على ألف ، و شكر النعمة بالسعي و النشاط ، و أداء حقوق الناس استدرج الألوف ، بينما يبطر بها فهو لا يحصل على المزيد بل يفقد الموجود .

هكذا يقول الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :


(1) المصدر / ص 41

(2) المصدر / ص 47


" اذا وصلت اليكم اطراف النعم ، فلا تنفروا اقصاها بقلة الشكر " (1)

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس