بينات من الآيات [22] الانسان مزود بفطرة الايمان بالله ، إلا أنه ينسى أو يغفل بسبب الشهوات أو الافكار المضلة ، وإذ يبعث الله الرسل ومن يتبع نهجهم الى البشر لتذكيرهم ، و إزالة الحجب المختلفة عن فطرتهم ، و اثارة عقولهم الدفينة ، و أمام هذه التذكرة ينقسم الناس الى فريقين :
الاول : المؤمنون الذين يستجيبون للتذكرة ، لما يجدونه من توافق بينها و بين فطرتهم ، و ما تهدي اليه عقولهم ، و الآيات من حولهم .
الثاني : المعرضون ، ولا ريب ان لتلك الاستجابة و هذا الاعراض أثرا على نفس الانسان و تفكيره و سلوكه ، فبينما يتجلى ذلك التصديق في صورة الشخصية الربانية ، التي تسعى نحو الخير و العمل الصالح ، يبرز هذا الاعراض في صورة الشخصية الشيطانية التي تسعى نحو الظلم و الجريمة .
[ و من أظلم ممن ذكر بايات ربه ثم أعرض عنها ]
و لكن لماذا يصف القرآن المعرضين عن آيات الله بالظلم ؟
الجواب : لان الذي يحفظ الانسان عن الجريمة هو الدين ، بما يتضمنه من قوة معنوية ، و تشريعات صائبة تبعده عن الظلم بصوره المختلفة ، فاذا أعرض عن الدين سقط فيه . ثم أن الاعراض عن الدين بذاته ظلم ذاتي و عظيم لا يقع على الذاتفقط ، و انما يتجاوز الى الآخرين أيضا ، أرأيت من يشرب سما كيف يظلم نفسه باهلاكها ، و يظلم اقرباءه الذين يفجعهم بموته ، كذلك الذي يسكر ثم يسوق سيارته اولا يحطم نفسه و سيارته ، و يلحق الأذى بالآخرين .
هكــذا المعرضون عن آيات الله ، سوف يعرضون أنفسهم لنقمات الله العزيز الجبار ، لانهم يقترفون - باعراضهم عن آيات الله ، و عدم تسليمهم لأحكام الدين و حدود الشرعية - يقترفون اعظم الجرائم ، التي لابد ان ينتقم الله منهم بسببها .
[ إنا من المجرمين منتقمون ]
[23] [ و لقد اتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ]إن أسمى هدف لرسالات الله هو رفع الشك عن قلب الانسان ، و الأخذ بقلبه الى مدارج اليقين بكل الحقائق التي يذكر بها الله في كتبه ، اليقين بلقاء اللـه ، و اليقين بالموت ، و اليقين بالجزاء ، و .. و .. ، و ذلك يعني تصفية العقل و النفس من آثار الاهواء .
و لن يؤدي المصلح هذا الهدف الا إذا كان بنفسه بعيدا عن الشك ليكون قدوة للناس ، و لذلك نهى السياق من المرية في لقاء الله ، بعد ان أنبأنا عن الكتاب الذي آتاه موسى لان كتاب الله يهدف التذكرة بالله ، و تأكيد حقيقة اللقاء بالله ، و هذا القرآن تذكرة بآيات الله فلا يحق لأحد أن يعرض عنها . فيعرض نفسه لانتقام الله الشديد .
و احتمل المفسرون معاني أخرى في ضمير " من لقائه " أيعود الى موسى و يدل على التقاء رسالة محمد برسالة موسى - على نبينا و آله و عليه السلام - ام يعود الى الكتاب ، لأن الرسول يتلقى القرآن كما تلقى موسى التوراة ، أو الى التوراة . أوليس تلقى موسى كتاب ربه .
بيد أن سياق سورة السجدة - بمجملها - يؤكد ما قلناه ، بالرغم من انه لا ينفي ما قالوه . أوليس للقرآن تخوم و آفاق عديدة ؟
[ و جعلناه ]
أي كتاب التوراة .
[ هدى لبني اسرائيل ]
شروط الامام :
[24] بعد ذلك يبين الذكر صفات الامام ( القائد ) وهي ثلاث :
الاولى : الهدى الى الله و بأمـره ، و ليس الى نفسه أو حزبه أو وطنه ، أو .. أو .. و ما اشبه من الدعوات الجاهلية .
الثانية : الصبر ، و تحمل الشدائد ، فالقائد هو الذي تتبلور شخصيته في ميادين العمل الجهادي ، و سوح القتال في سبيل الله ، و ليس الذي يركب الموجة ، أو يتسنم صهوة الانتصار من دون عمل و خلفية جهادية ، و ربما لذلك كان الله يختار الانبياء و الرسل و الأئمةمن رحم الشدائد ، و عند اجتياز أصعب العقبات .
الثالثة : اليقين ، و ذلك يعني وصوله الى مستوى رفيع من الايمان بالله ، لا يهن بعده ، ولا يرتاب في طريق الحق ، سواء انتصر أو انتكس مرحليا .
[ و جعلنا منهم ائمة ]
يعني من بني اسرائيل و لعل كلمة " فلا تكن في مرية منه " التي وردت فيالآية السابقة هي الرابط بين هاتين الآيتين ، فكما كان موسى على درجة من اليقين أهله للنبوة ، فان أصحابه الذين اتبعوا هداه كانوا على مستوى من اليقين جعلهم الله أئمة .
[ يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا باياتنا يوقنون ]جاء في الحديث المأثور عن الأمام الصادق - عليه السلام - :
" إن الأئمة - في كتاب الله عز و جل - إمامان : قال الله تبارك و تعالى : " و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " لا بأمر الناس ، يقدمون أمر الله قبل أمرهم ، و حكم الله قبل حكمهم .
قال : " و جعلناهم أئمة يهدون الى النار " يقدمون أمرهم قبل أمر الله ، و حكمهم قبل حكم الله ، و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز و جل " (1)[25] و لكن بالرغم من وجود أئمة صالحين في أصحاب موسى (ع) كان هناك فريق يكفرون بالحق ، و هذا الاختلاف بين أتباع الرسل من بعدهم من الحقائق التي سجلها التاريخ بعد كل رسول ، و بينها الذكر لنميز بين الخطوط المختلفة ، عبر بصيرة الايمان التي توحي بالمقاييس المبدئية ، و التي هي عند الله ثابتة لا تتغير و سوف تتجلى يوم القيامة .
[ إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ]ان معرفة الانسان بوجود محكمة عادلة ستقضي بالحق تزيد من قوة عقله أمام(1) المصدر / ص 167 نقلا عن كتاب الكافي / ج 1 - ص 168وساوس الشهوة و همزات الشياطين .
[26] أما عن سبب الاختلاف بعد الرسل ، فهو كما صرح القرآن في موضع آخر : الاهواء و المصالح ، إذ قال : " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين أوتوهمن بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ... " . (1)وفي هذه الآية يحذر الله الامة الاسلامية من الاختلاف ، و يدعونا للنظر في التاريخ ، لنعرف مصير الذين اختلفوا عن رسالات الله ، و ابتعدوا عن نهجها السليم ، مؤكدا أنه كما يفصل بينهم في الآخرة ، فقد يفصل بينهم في الدنيا بهلاك المنحرفين أو بنصر المؤمنينعليهم كما في الآية ( 28 - 30 ) .
[ أولم يهد لهم كم اهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ]و ينبغي لهم أن يستفيدوا من هذه الآثار عبرة في حياتهم ، فيجتنبوا عن الخطأ حتى لا يصطدموا بذات النتيجة - و هذه هي الآية المادية الظاهرة - ثم أن القرآن هو الآيات المعنوية التي تكشف عن الواقع ، و التي يجب الاستماع اليها و العمل بها .
[ إن في ذلك لايات افلا يسمعون ]
فتلك يرونها بأعينهم ، و هذه يسمعونها بآذانهم ، و لكن المطلوب أن تعقلها البابهم ، و تنعكس على حياتهم و واقعهم في صورة هداية .
(1) البقرة / 213
[27] و كما أن آيات الله في عالم الانسان تهدي الى هيمنته على الحياة ، و تدبيره لشؤونها ، فان آياته في الطبيعة تهدي الى ذات الحقيقة .
[ اولم يروا انا نسوق الماء الى الارض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه انعامهم و انفسهم افلا يبصرون ]هناك يقول : " أفلا يسمعون " لان الوسيلة التي تنقل للانسان التاريخ هي حاسة السمع أكثر من أي وسيلة أخرى ، و هنا يقول : " أفلا يبصرون " حينما يتحدث عن الطبيعة التي يبصرها الانسان قبل ان يسمع عنها .
و هذا من اساليب المنهج الالهي للوصول الى اليقين ، أنه يدعو الى النظر و التفكر في الآيات من حوله ، فخلفيات الاحداث التاريخية و الاجتماعية ، كما تجليات الحكمة في آيات الكـــون ، و كدورة المطر منذ البداية حتى سقوطه ، كلها تشير الى إله يدبر الحياة ، ويقدر أحداثها و شؤونها بقدرة مطلقة ، و حكمة بالغة .
[28] فهو تعالى لا يستجيب لتحديات الكفار و المعاندين متى شاؤوا ، انما حيث شاء و متى اراد ، حسبما تقتضيه حكمته سبحانه .
[ و يقولون متى هذا الفتح ان كنتم صادقين ]
تحديا للمؤمنين ، و تكذيبا برسالة الله ، أما المؤمنون فانهم يثبتون على خطهم ، ولا يرتابون في وعد الله حتى لو تأخر بعض الوقت ، خلافا للطرف الآخر الذي يزيدهم الامهال ريبا ، و يشكل لهم عقبة فكرية .
[29] و ينسى هؤلاء أن الامهال لا يعني الاهمال ، انما يعني أحد أمرين :
الاول : ان الله يتيح لهم فرصة العودة للحق .
الثاني : إذا لم يستفيدوا من هذه الفرصة ، فان الامهال سيكون وبالا عليهم ، لأنه حينئذ يستتبع مزيدا من العذاب - كما و نوعا - تبعا لتماديهم في العصيان - كما و نوعا أيضا - " و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادواإثما و لهم عذاب مهين " (1)
و يؤكد الله هذين المعنيين ، حيث يقول مخاطبا نبيه (ص) :
[ قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا ]
من قبل ، و تحدوا الله و رسوله و المؤمنين ، حينما تقتضي حكمة الله نصر أوليائه .
[ ايمانهم ]
لان الايمان الذي ينفع صاحبه ، هو الايمان النابع من الوعي بضرورته ، لا من السيف أو العذاب أو المصلحة .
[ ولا هم ينظرون ]
ان الايمان الناتج لا عن وعي بضرورته ، بل بسبب عامل مؤقت يذهب أدراج الرياح بمجرد زوال ذلك العامل ، فالذي يكف عن السرقة و الجريمة لان أنظار الناس تراقبه و ليس لوازع نفسي أو ديني ، فانه يعود اليها بمجرد علمه أو ربما ظنه بأنه صار بعيدا عن أعين الناس ،و هكذا لا يتقبل الله ذلك الايمان الذي يبادر اليه الكفار عند نزول العذاب .
[30] وفي نهاية السورة يؤكد القرآن على المؤمن ، أن لا يربط مصيره بمصير الكفار ، فاذا رأى مجموعة لا يؤمنون ، يتركهم و يستمر على خطه الايماني ، و ذلك(1) آل عمران / 178
حينما يوجهه الرسول لهذا الأمر .
[ فاعرض عنهم ]
اتركهم ولا تتاثر بهم .
[ و انتظر ]
وعد الله و نصره .
[ إنهم منتظرون ]
و من هاتين الآيتين نستفيد ثلاث أفكار :
الفكــرة الأولـى : أن انتظار الفرج من الواجبات الشرعية ، و من الاعمال الصالحة ، و في الحديث عن رسول الله (ص) :
" أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج "
لان الانتظار الذي يعنيه الحديث ، هو البقاء على الخط السليم ، صمودا أمام المشاكل و المصاعب ، من دون التشكيك في الحق ، وهو احد معاني الصبر الذي لا يمكن الا بالانتظار ، لان الذي ينتظر المستقبل ، و يتألق قلبه بأمل الانتصار لا يضيق صدره . فيكون صابرا ،بل و يستهين بالمشاكل ، إذ يعتبرها خيرا له من حيث أنها تصقل إرادته و فكره و شخصيته .
الفكرة الثانية : من الخطأ ان يقتصر إيمان الانسان على الاشياء الظاهرة ، أو يعتقد بأنه مسؤول عن ذلك فقط ، فقد من الله عليه بنعمة العقل لكي يرى به المستقبل من خلال الظواهر و المقدمات المنطقية ، و إلا فما هي الحاجة الى العقل ؟!
والله يرفض الايمان الذي يكون وليدا للواقع المفروض كالعذاب ، و لا يعطي أصحابه فرصة أخرى إذ يفترض في الانسان أن يستفيد من عقله ، و يتعرف على النتائج من خلاله ، أو بتصديق رسالة ربه ، أما الذي لا يهتدي لا بالعقل ولا بالوحي و يرفض الاثنيـــن فان مصيـرهالعذاب ، لأنه لم ينتفع من موهبة عقله الذي هو بدوره جوهر انسانيته .
الفكــرة الثالثـة : ان الدنيا فرصة إذا خسرها الانسان فسوف لن تعود له مرة أخرى ، و الامام علي (ع) يقول :
" اغتنموا الفرص فانها تمر مر السحاب "
اذن فموقف الانسان من النتائج - بعد السعي - هو الانتظار ، أما موقفه من الفرص و الزمن فهو الاستعجال مع التخطيط .
|