بينات من الآيات [7] لا يبعث الله النبي رسولا حتى يتعهد بعدم الخضوع لسائر الضغوط ، سواء
(1) آل عمران / 179
النابعة من ذاته أو الآتية من المجتمع .
[ و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ]
جميعا ، و لكن هذا العهد كان أشد و اخص بالنسبة لأولى العزم من الرسل ، و هم الذين ذكرت بهم الآية في قولها :
[ ومنك ومن نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم ]فالأنبياء افضل من سائر الناس ، و الرسل أفضل من الأنبياء ، و افضل الرسل هم أولوا العزم ، و اكرم أولي العزم محمد (ص) .
[ و أخذنا منهم ميثاقا غليظا ]
و لعل وجه التخصيص أن أولي العزم أكرم الناس عند الله ، فهم أكثرهم تعرضا للبلاء و المصاعب .
[8] ثم بعد هذا الميثاق الذي أخذه الله على الناس ومن ضمنهم الأنبياء فأقروا بالربوبية له (1) و عاهدوه بالتسليم ، خلق الحياة الدنيا ليتبين الصادق من الكاذب فيهم .
[ ليسئل الصادقين عن صدقهم ]
فالانسان لا يعرف حقيقة ما يدعيه الا عند الإمتحان ، فان كان صادقا أدخله الله في جنته و رحمته ، و ان كان كاذبا عذبه .
[ و اعد للكافرين عذابا أليما ]
(1) راجع الآية 172 / الاعراف
فالله يستأدي الميثاق مرتين ، مرة في الدنيا عبر الرسل ، و مرة في الآخرة بالحســاب الدقيق ، و المؤمن الذي يهتدي الى حكمة الحياة هذه هو الذي يصمد عند الشدائد ، لانــــه يعتبرهــا سبيله الى رضوان الله ، و الذي يتحقق في الوفاء بميثاقه معه - عز و جل - يوم الذر و عبر الانبياء و القيادات الرسالية التي تمثل امتدادهم (ع) و هذا ما تهدي اليه الآيات من (22) الى (24) حيث ترتبط بهما هاتين الآيتين ارتباطا عضويا ، و تمثل ظلالا لهما .
[9] امـــا بقيـة الآيات ، فهي تذكرنا بالحقائق الثلاث التي أشرنا لها في اول الدرس ، و التي يستوحيها السياق من حرب الأحزاب .
[ يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم ]
يوم الاحزاب .
[ إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا ]
اقتلعت خيام الكفار ، و كانوا يزعمون اللبث فيها و هم يحاصرون المدينة ، التي منعهم الخندق من دخولها ، مما أشاع الفوضى و عدم الاستقرار في نفوس العدو .
[ و جنودا لم تروها ]
من الملائكة .
و قد مر في تفسير سورة الأنفال القول : بأن أهم عمل قامت به الملائكة ، كان تثبيت قلوب المؤمنين من جهة ، و تشتيت قلوب الكافرين من جهة أخرى ، و على ضوء هذا التفسير نستطيع القول بأن اهم قوة عسكرية تستطيع هزيمة العدو هي التي تتوفر فيها صفتي الوحدة و الاستقامة ، اللتان تؤديان الى الثبات في المعركة .
و نصر الله للمؤمنين لا يأتي الا اذا بذلوا قصارى جهدهم ، و كل ما بوسعهم من اجله ، فلو كان المسلمون يوم الأحزاب ينتظرون عون الله ، من دون تهيئة الظروف المناسبة له ، من استعداد لمواجهة العــدو ، و اعمال للعقل في سبيل ذلك لما نصروا عليهم ، و لعله لهذايشير الى سعي المؤمنين .
[ و كان الله بما تعملون بصيرا ]
فلأنكم بذلتم ما في وسعكم ، و حفرتم الخندف في اربعين يوما متواصلة ، و ارهقتم أنفسكم في شهر رمضان ، وفي حرارة الصيف ، و قد رأى الله منكم كل ذلك و علم بنواياكم الصادقة نصركم على الأحزاب .
[10] [ إذ جاءوكم من فوقكم ]
اي من فوق الوادي - من ناحية الشام - وهم يهود بني قريظة و بني النضير و غطفان .
[ و من أسفل منكم ]
من ناحية مكة - قبل المغرب - و هم قريش ومن تبعها من العرب ، و كان من شدة الأمر ان الابصار في تلك الحالة لم تكد ترى أو تستقر ، و هذه الحالة تصيب الانسان لا إراديا إذا واجه أمرا يهوله و يعظم في نفسه .
[ و إذ زاغت الأبصار ]
كما ان القلب يظل ينبض بقوة و سرعة في مواطن الفزع ، بحيث يشعر الانسان و كأنه صعد الى حنجرته .
[ و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا ]
في ساعة العسرة تأتي البشر مختلف التصورات حول ربه ، و ربما يكون الكثير منها سلبيا ، فاذا به و هو يقف في صف المؤمنين لمحاربة أعداء الرسالة يفقد الثقة بنصر ربه ، و يظن انه لن ينصره .
[11] لكن الله يجعل الاحداث تتصعد و تتأزم ، و قد يؤخر النصر ، و يعرض المجتمع لأنواع الإبتلاء ، و ذلك تمحيصا للقلوب ، و فرزا للمجتمع ، فاذا به فريقان ، فريق المؤمنين و فريق المنافقين .
[ هنالك ابتلي المؤمنون ]
اما المؤمنون فقد كان الأمر بالنسبة اليهم امتحانا - اظهر ما يضمرونه في قلوبهم على ألسنتهم - كما تسببت شدته ، في ذهاب الصفات التي لحقت بهم ، و التي ليست من طبيعة الشخصية المؤمنة ، فاذا به يزيدهم ايمانا و صفاء .
[ و زلزلوا زلزالا شديدا ]
و يحتمل هذا الشطر أحد تفسيرين : فاما يكون وصفا لطبيعة الإمتحان بأنه من الصعوبة يشبه الزلزال الشديد ، و إما يكون حديثا عن نتيجة الامتحان ، فيصير المعنى ان المـؤمنين اهتزت مواقفهم و تاثروا ، فيحمل تفسير الآيتين ( 22 - 23 ) مضافا لهذه الآيــة : ان المؤمنين صاروا فرقتين ، فرقة تأثرت بالإمتحان سلبا في بادئ الأمر ، فاكتشفت ضعفها و جبرته ، و فرقة ما زادهم إلا ايمانا و تسليما .
[12] اما المنافقون فقد افتضح امرهم ، و برزوا على حقيقتهم أمام القيادة الرسالية يومذاك و أمام المجتمع ، و لعل هذا الفرز من أهم أهداف و فوائد الأزمات التي يتعرض لها البشر في حياتهم .
و المنافق هو الذي يعيش شخصيتين : شخصية الانسان المؤمن الصادق - و هذه يظهرها ليستر بها شخصيته الحقيقية الثانية بما فيها من الأنانية و الدجل - فاذا استوجبت الظروف تعرض مصالحه للخطر ، و وجد الإلتزام و لو ظاهريا بالشخصية الإيجابية يعرضها للزوال ظهر على حقيقته .
[ و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ]
و هم المؤمنون الذين يحملون الحقد و الحسد و الاستكبار و .. و .. في قلوبهم ، فان شأنهم شأن المنافقين ، لأن هذا المرض سوف يسبب لهم الإنهيار و الفرار في ساعة المواجهة ، فهم يلتقون مع المنافقين في خور عزيمتهم ، و طبيعة موقفهم من الشدائد ، و الذي يتجسدفي فرارهم و سلبيتهم في المجتمع بخلاف المؤمنين الصادقين - تماما - فبينما يقول اولئك : صدق الله و رسوله ، و يزدادون ايمانا و استقامة على الطريق ، يقول هؤلاء :
[ ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا ]
و يستدلون على ذلك بان النصر لم ينزل عليهم .
[13] و ثمة مجموعة من المشككين لا يكتفون بهزيمتهم إنما يشيعون جوا من الهزيمة بهدف زلزلة عقائد الآخرين ، و هذه من طبيعة المنافقين .
[ وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ]حينما تتعرض الامة للخطر فهي احوج ما تكون الى الثقة بنفسها و بقيادتها و بربها ، و بالتالي فان الألسن و الأقلام التي توهن المجتمع ، و تبث فيه روح الهزيمة لهي منافقة ، و على المجتمع ان لا يستجيب لها ، إنما يلتف حول قيادته الرسالية ،كما ان من واجب القيادة فضح هذه الشريحة و اقصائها عن موقع المسؤولية و التوجيه .
[ و يستأذن فريق منهم النبي ]
و يغطون هذه الهزيمة بمجموعة من الأعذار و التبريرات الواهية .
[ يقولون إن بيوتنا عورة ]
قالوا : ان بيوتنا مكشوفة للعدو ، ولا نأمن على أهلنا منه ، فلابد أن نبقى معهم نحميهم ، لكن الله فضحهم اذ قال :
أولا : ان بيوتهم ليست كما يدعون ، و لكنهم يريدون الفرار من الحرب .
[ و ما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ]
[14] ثانيا : لو أنهم دعوا الى حرب فيها مصالحهم ، غير هذه الحرب المقدسة التي فيها مصلحة الاسلام ، لخاضا أكثرهم ، و لما تخلف عنها احد منهم ، أوليسوا في الجاهلية يحاربون بعضهم لمآت السنين و لأتفه الأسباب ؟!
[ و لو دخلت عليهم ]
الحرب .
[ من أقطارها ]
جهاتها و أهدافها التي يريدون ، لأنها تتفق مع اهوائهم مثلا .
[ ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ][15] و ما كانوا يلتزمون و لا حتى يلتفتون لعهدهم مع رسول الله (ص) .
[ و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل ]
على الدفاع عن الاسلام و عن رسوله .
[ لا يولون الأدبار ]
دون تراجع أو هزيمة ، و كان هذا العهد عبر الرسول امتدادا لميثاقهم مع الله في عالم الذر ، و تأكيدا للمسؤولية .
[ و كان عهد الله مسئولا ]
|